الفصل الأول

العلل الباطنية للآراء والمعتقدات

(١) تأثير علل الآراء والمعتقدات

جاء في جريدة «الكومانتتر» الإنكليزية — بمناسبة كتابي المسمى «روح السياسية» — ما يأتي: «لربما يظهر يومًا ما كتابٌ غريبٌ في فن الإقناع، فلو فرضنا أن علم النفس يصل في المستقبل إلى درجة راقية كعلم الهندسة والميكانيك لأمكننا أن نُنبئ بتأثير الدليل والبرهان في روح الإنسان كما ننبئ بخسوف القمر، وسيكون لعلم النفس الذي يبلغ تلك الدرجة قواعد نحوِّل بها الرجل إلى أي رأي؛ فتصبح روحه حينئذ كالآلة الكاتبة، حيث يكفي ضغط زر منها ليظهر الحرف المطلوب حالًا.»

قد نسلم نظريًّا بإحداث ذلك العلم — الذي عرف أقطاب السياسة وزعماء الشعوب منه بضع نبذ — في المستقبل، ولكن إيجاده كاملًا يتطلب ذكاء في البشر أسمى من ذكائه الحاضر كثيرًا، وسبب ذلك جلي واضح: إن من أشد مسائل علم الفلك صعوبة المسألة التي لم يحل منها العلماء حتى الآن سوى جزء على رغم ما بذلوه من الجهود العظيمة، والتي هي عبارة عن تعيين المواضع لثلاثة أجسام مختلفة جرمًا وسرعةً مؤثر بعضها في البعض الآخر في آنٍ واحد، والعناصر النفسية التي يقتضي تعيينها هي أكثر عددًا، ويختلف تأثيرها باختلاف قوة الحس والشعور في الأشخاص.

على أن التنبؤ في سير الناس ليس مستحيلًا على الدوام، وبيان ذلك أنه يوجد في تركيب المشاعر المعقد — الذي يتألف الخلق منه — عناصر راجحة تعيِّن وجهة الأخرى، كعناصر البخل، والأثرة، وحب الذات، والعجب … إلخ، فالذي تقلبت عليه هذه المشاعر تسهل قيادته؛ إذ يُعلم حينئذ ما هو وتره العاطفي الذي يُضرب عليه، وأما الرجل الذي توازنت فيه المشاعر دون أن يستحوذ بعضها على البعض الآخر فيصعب اكتناهه وتسييره.

ولا شأن للعوامل كلها في تكوين الرأي، فالذي يؤثر منها في رجل لا يؤثر في الآخر، والذي يوقد نار الحرص في شعب لا يحرك ساكن شعب مجاور.

والحقيقة هي أن تكوين أكثر الآراء والمعتقدات لا يستلزم سوى قليل من العوامل، فعوامل العِرق والبيئة والعدوى تكفي لإنشاء المعتقدات العظيمة، وعامِلا الانفعال والمنفعة الشخصية يكفيان لتكوين الآراء اليومية، ومع ذلك فإنك ترانا مكرهين على البحث في عوامل أخرى؛ ذلك لأن هذه العوامل إذا لم تكن ذات تأثير على الدوام، فإنه ليس فيها ما هو غير مؤثر في أحد الأوقات.

(٢) الخلق

يوجد بجانب أخلاق العِرق العامة أخلاق الفرد المتقلبة، وشأن الأخلاق في تكوين الآراء والمعتقدات عظيم إلى الغاية، فأعقل الحكماء لا يقدر على التخلص من تأثيرها، وما في مبادئه الفلسفية من تفاؤل أو تطيُّر فناشئ عن خلقه أكثر منه عن ذكائه، وعليه فقد أصاب (ويليام جيمس) حيث قال: «إن تاريخ الفلسفة هو تاريخ التصادم بين العقل البشري، وهذا الاختلاف بين الأمزجة له أيضًا شأن في ميدان الأدب والفن والحكومة والطبائع، فإذا نظرنا إلى الطبائع نرى من الناس من يبدو عليه التكلف، ومنهم من لا يبدو عليه، وإذا نظرنا إلى الحكومة نرى بين أعضائها من هو محب للسلطة ومن هو فوضوي، وإذا نظرنا إلى الأدب نرى بين حملة لوائه من هو لغوي مفرط، أو مغالٍ في الأسلوب، ومن هو مبالغ في تصوير الأشياء كما هي.»

وإذا طبقنا تأثير الخلق الشخصي في الآراء نعلم لماذا بعض الناس محافظون وبعضهم ثوريون، فالثوريون يميلون بفعل مزاجهم إلى الثورة ضد جميع ما يحيط بهم، غير مبالين بنظام الأمور نفسه، وتتألف كتائبهم على العموم من الذين انحلت أخلاقهم الثابتة الإرثية بتأثير مختلف العوامل، فصاروا لا يلتئمون بالبيئة التي يعيشون فيها، ونعتبر كثيرين منهم من فصيلة المنحطين ذوي الأمراض والعاهات الذين لم يلتئموا بالمجتمع فأصبحوا حاقدين عليه بحكم الطبيعة كما يحقد الهمجي على مدنيةٍ أُكرِه على الخضوع لمبادئها.

وجيش الثوريين في الوقت الحاضر يتكون على الخصوص من المنحلين الذين ضاقت المدن الكبيرة بأمراضهم الكحولية والإفرنجية والحمية والسمية ذرعًا، وعلى نسبة تقدم الحضارة يزداد عدد هذا الجيش، وسيكون إنقاذ المجتمعات من هجماته العنيفة من أشد مشاكل المستقبل خطرًا.

في بعض الأحيان يكون شأن أولئك العديمي الالتئام في التاريخ عظيمًا؛ ذلك لأنهم ذوو قدرة عظيمة على الإقناع، يؤثرون بها في روح الشعوب، فالمتهوسون أمثال (بطرس الراهب) و(لوثر) قلبوا العالم رأسًا على عقب.

(٣) المثل الأعلى

مَثَلُ الأمة الأعلى يدل على كثير من آرائها ومعتقداتها، فهو خلاصة رغائبها العامة واحتياجاتها وأمانيها، والناظم لهذه الخلاصة هو العِرق وماضيه وغير ذلك من العوامل التي لا أبحث عنها الآن، وقد بيَّنت في كتاب آخر قوة المثل الأعلى فأثبتُّ أنه لا يتزعزع من غير أن تتزلزل دعائم البنيان الاجتماعي الذي يقوم عليه، وإذا كان كثير من الناس يترددون اليوم في آرائهم ومعتقداتهم، ويسيرون طائعين خلف اندفاعات كثيرة التناقض؛ فذلك لأنهم ذوو مثل أعلى ضعيف على رغم ما يتصفون به أحيانًا من ذكاء هو غاية من السمو والرقي.

وما في المتعصبين من قوة فيُشتق من خضوعهم لمثلهم الأعلى الخطر خضوعًا تامًّا، واليوم نشاهد ذلك في الاشتراكيين الذين سحرهم مثلهم الأعلى، فقد ثقلت وطأة هذا المثل على حياتنا القومية، وهو السبب في سن قوانين مهددة لنمو هذه الحياة.

إذ لم يكن المثل الأعلى مبدأ نظريًّا يمكننا أن نتغاضى عن تأثيره، فمتى يعم أمره فإنه يكون ذا تأثير عظيم في أدق شؤون الحياة، حتى إن الذين ينكرون نفوذه يعانون هذا النفوذ على رغم أنوفهم.

والمعتقدات دينية كانت أم اجتماعية أم سياسية لا تكون ذات قوة إلا إذا أصبحت مثلًا أعلى مقبولًا بوجه عام، وعندما يلتئم المثل الأعلى المذكور مع مقتضيات الزمن وممكناته، فإنه يسبب عظمة الأمة التي تعتنقه، ولكن حينما يكون مناقضًا لسير الأمور الطبيعي، فإنه يؤدي إلى انقراض تلك الأمة.

(٤) الاحتياجات

الاحتياجات هي من أكبر العوامل في تكوين الرأي وكل تطور اجتماعي، ونعد الجوع أكثرها شدة؛ فهو الذي ساق أجدادنا الأولين من الكهوف والمغاور إلى سلم الحضارة، وهو الذي تسعى لقضائه أكثرية البشر، ولولاه لما ترك البرابرة أرضهم البور وغيروا مجرى التاريخ بتدهورهم على روما، وليس شأنه اليوم بأقل منه في الماضي، فلقد أصاب من قال: إن الاشتراكية هي مسألة مِعَدٍ.

وكلما تقدمت الحضارة فإنه يضاف إلى قائمة الاحتياجات القديمة احتياجات جديدة، وما الاحتياج إلى الأكل، وإلى التناسل، واللباس، والدين، والأمور الأدبية، والكمال، سوى عناوين لمقتضيات الحياة والعاطفة التي تقودنا، والتي تنشأ عن علَّتَي الحركة في الموجودات؛ أعني اللذة والألم. ويؤدي إيجاد احتياجات جديدة في الجموع إلى ظهور آراء حديثة، ويعرف أقطاب السياسة أن يحدثوا احتياجات تفيد بلادهم، فما الاحتياج إلى الاتحاد في ألمانيا ثم إلى إنشاء أسطول حربي قوي سوى احتياجين مصنوعين أكرِهت البلاد عليهما.

وقد أوجب تطور الصناعة العلمي حدوث احتياجات جديدة كالخطوط الحديدية والتليفون، ومن سوء الحظ أن بلغت هذه الاحتياجات من النمو مبلغًا زاد على الوسائل الضرورية لقضائها، فصارت مصدرًا للاستياء الذي هو عامل قوي في انتشار الاشتراكية.

والاحتياجات هي أيضًا سبب التسليح المؤدي إلى الإفلاس في أوروبا؛ لأنه لما عظمت الاحتياجات كثيرًا في أوروبا، وأصبح تنازعُ البقاء فيها أشد منه في الماضي، صارت كل دولة فيها تطمع في الاغتناء على حساب الدول المجاورة لها، فالألماني الذي كان منذ زادت احتياجاته بغتةً أصبح محاربًا متوعدًا، ثم لما كان الألمان يزدادون عددًا، وأوشكوا أن يكونوا من الكثرة بحيث لا تكفي بلادهم لإطعامهم، فإن الوقت الذي تتعلل فيه ألمانيا بإحدى العلل الواهية كي تستولي على الأمم المجاورة، وتشاركها في أمر معيشتها قد قرب، وهذا السبب وحده هو الذي يدفعها الآن إلى بذل نفقات باهظة في سبيل جيشها وبحريتها.

(٥) المنفعة

ليس من الضروري أن نطنب في بيان تأثير المنفعة في تكوين آرائنا؛ ذلك لأن هذا الأمر شيء مسلم به، ويمكننا أن نعتبر أكثر الأشياء من عدة وجوه؛ أي من حيث المنفعة العامة، أو من حيث المنفعة الخاصة.

وللمنفعة ما للحرص من قدرة على تحويل ما يلائمها إلى حقيقة؛ ولذلك فهي في الغالب أقوى من العقل حتى في المسائل التي يظهر أن العقل هو المهيمن عليها. خذ الاقتصاد السياسي مثلًا تَرَ أن مبادئه المختلفة مشبعة من البحث في المنفعة الشخصية بحيث نستطيع أن نقدِّر بها مقدمًا ميلَ الرجل ذي المهنة المعينة إلى نظام حرية المبادلة، أو نظام الحماية.

وتقلبات الرأي تتبع تقلبات المنفعة بحكم الضرورة، فالمنفعة الشخصية هي العامل الأصلي في الأمور السياسية، فالنائب الذي انتقد ضريبة الدخل بما أوتي من قوة لا يلبث أن يدافع عنها بعزم لا يقل عن السابق عندما يأمل أن يصير وزيرًا، وكذلك الاشتراكيون فإنهم يصبحون محافظين بعد أن يغتنوا.

ولا يقتصر أمر المنفعة على تكوين الآراء، بل إنها بعد أن تستفزها الاحتياجات تضعف أدب الإنسان وحسن سيرته؛ فالقاضي الذي يطمع في الرقي، والجراحي الذي يعمل عملية جراحية لا تفيد، والمحامي الذي يزيد الدعوى تعقيدًا، تنحطُّ أخلاقهم أكثر من ذي قبل عندما يحرك احتياجُهم إلى النفائس منفعتهم.

وشأن المنفعة الأدبية هو كشأن المنفعة المادية في تكوين الآراء، فإذا أوردنا عزة النفس المكلومة مثلًا نرى أنها تولِّد أحقادًا شديدة، وما ينشأ عن هذه الأحقاد من آراء، فمصدر حقد أبناء الطبقة الوسطى على الأشراف وانتقامهم منهم أيام الثورة الفرنسوية هو على الخصوص ازدراء هؤلاء لأولئك في العهد السابق، ولو أدرك (مارا) — الذي انتقم لنفسه من سادته السابقين — و(هبرت) — الذي أوجب قطع كثير من الرؤوس بعد أن كان ملكيًّا متحمسًا — دور الإمبراطورية ونالا فيه وظائف وألقابًا لأصبحا كخصومها من المحافظين المتأججين.

(٦) الحرص

إن المشاعر الثابتة الموصوفة بالحرص هي أيضًا مصدر الآراء والمعتقدات والحركة، وبما أن بعض أنواع الحرص تنتقل بالعدوى فإنه يسهل عليها أن تتسرب في الجموع حيث تصبح ذات تأثير لا يُقاوَم، وما أكثر المرات التي تدهورت فيها بعض الأمم بفعل الحرص على البعض الآخر في غضون أجيال التاريخ!

وقد يحرك الحرص نشاط الإنسان، ولكنه في الغالب يفسد سداد الرأي، ويمنع الإنسان من أن يرى الأمور كما هي، وأن يفهم صورة تكوينها، وسبب كثرة الأغلاط في كتب التاريخ أنَّ الحرص هو الذي أملى أنباءها.

نرى مما تقدم أن الحرص ذو تأثير عظيم في آرائنا وفي تكوين الحوادث، ومن دواعي الأسف أن أنواع الحرص ذات التأثير الكبير هي التي ليست محلًّا للاعتناء والاعتبار، فلقد حقق (كانت) ما لهذه الأنواع الرديئة من الشأن الاجتماعي العظيم؛ حيث بيَّن أن الخبث هو عامل كبير في رقي البشر، ويظهر أن الناس لو اتبعوا مبدأ الإنجيل القائل: «ليُحب بعضكم بعضًا» بدلًا من أن يتبعوا مبدأ الطبيعة الذي يشير عليهم بأن يقتتلوا لظلوا عائشين في الكهوف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤