الفصل الأول

تكوين الآراء بتأثير الجموع

(١) تأثير العرق في المعتقدات

الجموع لها شأن كبير في تكوين كثير من الآراء، وهي الناظمة لها، وليس عند أكثرية البشر الساحقة سوى آراء الجموع، حتى إن أغلب الناس استقلالًا لهم ما لزُمَرهم الاجتماعية من آراء. وقد بيَّنا ذلك سابقًا، وسيظهر الآن على شكل أوضح عندما نبحث عن المؤثرات الاجتماعية في تكوين آرائنا ومعتقداتنا، وهذه المؤثرات هي: العرق، والبيئة، والعادة، والزمرة.

فلنباشر في البحث في تأثير العرق: دلت التجربة والاختبار على أن للأمم ذات الماضي الطويل آراء ومعتقدات واحدة في بعض المواضيع الأساسية، وتظهر هذه الوحدة بعد تكوين روحها القومية، ولاختلاف هذه الروح باختلاف الأمم فإن الحوادث الواحدة توجب في الأمم المختلفة انعكاسات متباينة.

ليس اليوم ما يسمونه العروق الخالصة موجودًا بالمعنى العلمي الصحيح، وإنما لمَّا خضعت أمم تنتسب إلى جنس واحد، أو إلى أجناس كثيرة متقاربة قرونًا طويلة لمعتقدات واحدة، وأنظمة واحدة، وقوانين واحدة، ولغة واحدة تكوَّن منها عِرق تاريخي — كما فصلت ذلك في كتاب آخر — حينئذ صار لهذا العرق في كثير من المواضيع — سياسية كانت أم أخلاقية أم دينية — أفكار ومشاعر مشتركة أصبحت راسخة في النفوس بحيث يسلِّم بها جميع أبنائه غير مجادلين.

إذن ليست روح الشعب عبارة عن تصور نظري، بل هي حقيقة ذات حياة تكونت من تقاليد، وأفكار، وأساطير، وخيالات متكاثفة في النفس تكاثفًا إرثيًّا، وحسب متانة هذه الروح تكون قوة الشعب.

وإذا كان اتحاد الناس ناشئًا عن فتوحات قسرية فإنه يتكون منهم مجموع مؤقت سريع الانحلال ما داموا عاطلين من روح قومية، وإذ لم ينالوها يظلون برابرة؛ لأن القضاء على مقومات الماضي النفسية يؤدي حتمًا إلى وقوع الشعب في طور الهمجية.

ويكون اختلاف الآراء عند الأمة ذات الروح القومية المتينة في المواضيع التي لا أهمية لها، وأما في الأمور الكبيرة فإنه يحدث عندها إجماع في الرأي، وقد أتى الإنكليز بمثال بارز على ذلك في حرب الترنسفال، فإنه عندما توالى انكسار الجيوش البريطانية أمام فلاحي البوير سنحت لجرائد الحزب المعارض فرصة مهاجمة الوزارة، ولكن ذلك لم يخطر على قلب كاتب، ولو خطر على باله لردعته روحه القومية عنه.

ولا تتجلى الروح القومية إلا فيما يتعلق بالمنافع العامة العظيمة، وهذه الروح لا تمنع الأفراد من أن يكونوا ذوي آراء شخصية ذات ثبات، كما أن صفات النوع في التاريخ الطبيعي لا تمنع ذلك النوع من اتصافه بصفات الجنس الذي يشتق منه.

قد لاحظنا آنفًا أن تكوين الروح المشتركة لا يتم إلا في الأمم التي لا يختلف بعضها عن بعض إلا قليلًا، فإذا كانت على اختلاف كبير فإنها لا تلتحم؛ لأن أفرادها لما كانوا مختلفين روحًا فإن تأثير الأشياء الخارجية فيهم يكون متباينًا، وهذا ما يمنعهم من أن يكونوا ذوي آراء مشتركة في أي موضوع، فحال التشيك والمجر في النمسا، والإيرلنديين في إنكلترا يؤيد صحة هذا الناموس.

توالد الشعوب الكثيرة الاختلاف يغير المؤثرات الإرثية، ولكن الأفراد يفقدون بهذا التوالد كل ثبات نفسي، ولذلك يتعذر حكم الأمة المولدة، يثبت هذا ما هو واقع في جمهوريات أميركا اللاتينية من الفوضى.

ويرسخ ميراث الماضي كلما شاخت الأمة، وما كان سر قوة الأمة يصبح بفعل الزمان سبب ضعفها، وكلما صعب التئامها مع أي مبتكر حديث أصبحت أفكارها وآراؤها أكثر تقيدًا منها في السابق.

ويقع كل يوم تصادم بين الشعور الذي يهيمن عليه العقل وبين المحرضات الإرثية التي لا تأثير للعقل فيها، وما تأتي به الأمم من ثورات عنيفة لنتخلص بها من نير الماضي الثقيل فذو تأثير غير دائم؛ لأن الثورات وإن أمكنها أن تهدم الأشياء وتخربها فإنها لا تبدل النفوس إلا قليلًا، وعلى هذا نرى أن آراء فرنسا القديمة ومعتقداتها ذات تأثير عظيم في فرنسا الحديثة، وما وقع فيها من تغيير ففي الظواهر فقط.

(٢) تأثير البيئة في الزمر الاجتماعية

تؤثر البيئة الاجتماعية في آرائنا وسيرنا تأثيرًا شديدًا، فهي تولد فينا أدلة غير شعورية تقودنا من حيث لا ندري، ويتألف من كتب أحد الأدوار وجرائده ومناقشاته وحوادثه وسطٌ هو مع خفائه يعيِّن وجهة سيرنا، وفي هذا الوسط بذور لمبادئ فنية، أو أدبية، أو علمية، أو فلسفية، يكسوها أولو العبقرية أحيانًا شكلًا ساطعًا زاهرًا.

وما في البيئة من آراء متين، حتى إن الرجل الذي يغير بيئته يضطر إلى الإذعان لآراء بيئته الجديدة، ولهذا السبب يسهل على اشتراكي فوضوي أن يصبح محافظًا عندما يقبض على ناصية الحكم، فكلٌّ يعلم كيف استطاع (نابليون) أن يحول بسهولة غيلان العهد الذين لم يتسع لهم المجال ليتمادوا في فصل الرقاب إلى دوكات وحُجَّاب وبارونات.

تأثير البيئة الاجتماعية عام، وأما الزمرة التي ننتسب إليها فهي التي تؤثر تأثيرًا خاصًّا، وما في المرء من معتقدات أو آراء شخصية مصدرها اختباراته وتأملاته فقليل إلى الغاية، فأكثر الناس لهم رأي زمرتهم؛ أي طائفتهم، أو طبقتهم وأهل مذهبهم، أو حزبهم، أو أرباب مهنتهم.

إذن فلكل طبقة من طبقات الشعب — عمالًا كانوا، أم قضاة، أم ساسة — آراء خاصة، وهذه الآراء هي مقياس لما يأتي به أفراد تلك الطبقة من الأحكام، فالأمور في نظر هؤلاء الأفراد تكون صوابًا أو خطأ حسبما تكون ملائمة أو غير ملائمة لآراء الزمرة التي ينتمون إليها، وإذا قبل أحد رأي زمرته فبلا جدال، وإن لم يقبله لا يستطيع أن يعيش فيها.

ويؤدي التطور الحديث نحو الاشتراكية والنقابية إلى زيادة عدد الزمر ولا سيما التي تدير بها الدولة احتكاراتها، وما بين هذه الزمر من تحاسد فذو جفوة، ولتلك الجفوة لا يبدو من الزمر المذكورة سوى العداوة والإهانة، ولما لم تكن ذات تضامن يربط بعضها ببعض فإن انحلال مصالح الحكومة يزيد يومًا فيومًا، وهذا هو أحد الأسباب العميقة العويصة في تقهقر احتكارات الحكومة، وقد ذكرت ذلك في كتاب سابق فأثبت أن في احتكار الدولة لأي مشروع بلية على ماليتها.

وتباين الآراء بين زمر الموظفين التي هي بالحقيقة سيدة البلاد لخفائها يبدو للجمهور قليلًا، وأما آراء زمر العمال فهي بالعكس ذات ضجيج يجعلها ظاهرة منظورة، وقد أخذت أحقادها على الطبقات الأخرى تصبح عاملًا قويًّا في التطور السياسي الحديث.

وتتصور زمر العمال بتلقين زعمائها أنها وحدها هي التي أوجدت الثروة منكرة شأن رأس المال والذكاء، وقد أصبحت أممية قائلة بمبدأ نزع السلاح، فَعَدَّ العمال لذلك زمرَ الحرف وطنهم الحقيقي غير ناظرين إلى الأمم الموجودة فيها تلك الزمر.

(٣) تأثير العادة

تشتق قوة المجتمعات والأفراد من العادة، فالعادة تُغني في أي حال يبدو ليُنظر فيه، والبيئة والعدوى والتربية تُثبِّت العادة في الإنسان، والقوانين تؤيدها، ولا تكون القوانين قوة إلا إذا دعمت عادة موجودة قبل سنِّها.

وإذ قد بحثت عن العادة آنفًا فإنني أكتفي الآن بالعبارة السابقة، وسندرس في الفصل الآتي صفات آراء الجموع، وقيمتها، وتأثيرها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤