الفصل الثاني

تأثير آراء الجموع ونتائجها

(١) صفات الآراء الشعبية

شأن الجموع الزائد في الحياة السياسية يجعل البحث عن الآراء الشعبية ذا أهمية، ولما فسرتها كتيبة من المحامين والأساتذة الذين حرَّفوها وأخفوا تقلباتها وعدم اتساقها وسذاجتها ظلت معروفة قليلًا، وقد بلغ تملقهم للشعب ذي السيادة مبلغ التذلل لأشد الملوك استبدادًا في الماضي، ولا يزالون معجبين بحرصه الدنيء وشهواته ذات الجلبة والضجيج، ورغائبه الخرقاء، ولا قيمة للحوادث والحقائق عندهم، فهم يرون أنه يجب على الطبيعة أن تخضع لأهواء العدد.

وتتصف الروح الشعبية التي بحثت عنها في مؤلفات أخرى بكونها تخضع للمبادئ العاطفية، والمبادئ الدينية خضوعًا تامًّا، وما فيها من اندفاعات مصدرها المشاعر والدين فلا يزجره أي دليل عقلي، ولذلك فإنها تسير حسب هذه الاندفاعات غير مترددة.

جهة الدين في روح الجماعات أشد نموًّا من جهة العاطفة، وهذا هو علة احتياجها الشديد إلى عبادة معبود ربًّا كان أم صنمًا أم وجيهًا أم مذهبًا، والاحتياج المذكور يتدفق اليوم نحو الاشتراكية التي هي دين جديد قادر على تجديد البشر! وقد شوهد التدين الشعبي في جميع الأجيال، وإذا لم يتجلَّ في المعتقدات اللاهوتية فإنه يستولي على المبادئ السياسية، فكل صفحة من صفحات تاريخ الثورة الفرنسية تدعم قولنا.

أعود فأقول: إن عجز العقل عن التأثير في الجموع هو أهم صفاتها، فالأفكار التي تؤثر فيها هي المشاعر التي صُبَّت في قالب أفكار لا الأفكار العقلية، ومع أنه وجب أن تكون هذه الحقائق معروفة عند الجميع، فإن ساسة العرق اللاتيني يثبتون بسيرهم أنهم لا يزالون غير مدركين لها، وسيظلون في الفوضى حتى يطلعوا عليها.

(٢) كيف يبقى شيء من الثبات في الشعب على رغم تقلب آرائه؟

نصادف في الآراء الشعبية صفتين متباينتين: التقلب والثبات، فالتقلب يظهر أنه هو القاعدة، إلا أنه ينطوي تحت هذا التقلب عناصر هي غاية في الثبات، كما أنه يوجد تحت أمواج البحر المحيط السطحية مياه البحر الساكنة، ويتجلى لنا جميع ذلك عند النظر إلى ما طرأ علينا من التقلب منذ عصر.

حقًّا يوجد خلف تقلب الجموع الدائم، وغيظها الشديد، وحماستها، وغضبها العظيم، وأحقادها التي أوجبت انقلابات عديدة غرائز محافظة متينة ثابتة، فقد ظلت أشد الجموع اللاتينية ثورة شديدة المحافظة كثيرة التمسك بالتقاليد، لم تلبث أن أعادت النُّظم التي حطمتها بأسماء جديدة.

ولم يفقه زعماء الجماعات أنها وإن كانت تأتي بالثورة فعلًا إلا أنها محافظة بمشاعرها، فقد يسهل تحريك روحها بآراء سياسية يومية، وأما مزاجها النفسي الأساسي فالزمان وحده هو الذي يؤثر فيه.

والعمل الآتي الذي قامت به الحكومة الإنكليزية حديثًا يثبت لنا جهل الساسة للروح الشعبية، وما ينطوي تحت تقلباتها من ثبات، وهو: لما تمَّ انتخاب مجلس نواب جديد في إنكلترا لم يمنح الحكومة أكثرية كافية لإصلاح مجلس اللوردات ظنت أنها بخوضها معركة انتخابية حامية الوطيس تقدر على جعل الجموع الإنكليزية تنتخب نوابًا موالين يكفون لتنفيذ برامجها، ولكن على رغم ما أتت به من ضغط عنيف لم ينتخب الشعب سوى أعضاء المجلس السابق؛ إذ إن الأكثرية التي كانت تستند إليها الحكومة قبل الحل بعد أن كانت ١٢٤ نائبًا أصبحت ١٢٦ نائبًا؛ أي إن ما أتت به الحكومة من مجهود كبير لم يؤدِّ إلا إلى زيادة عضوين مواليين.

وما كان الوزراء بحاجة إلى وقوف كبير على علم النفس كي يعلموا تلك النتيجة قبل وقوعها، وكيف ظنوا أنهم — بعد أن استعملوا في المرة الأولى جميع ما بأيديهم من وسائل ليؤثروا في روح الشعب — يستطيعون في بضعة أشهر أن ينالوا غير النتيجة السابقة؟ أتاهم ذلك الظن من اطلاعهم على سرعة التقلب في الجموع، ناسين أن الثبات هو رائدها في عدد من المواضيع الجوهرية، ومن هذه المواضيع المبدأ الذي اتخذ أساسًا للمعركة الانتخابية الثانية والذي يلائم مناحي الإنكليز التقليدية التي يتعذر تحويلها.

وتصعب إدارة الروح الشعبية من غير أن يُنفَذ فيها، وقد أثبت مرات عديدة كيف يجهل أولو الأمر كنهها، فقد أتى قانون تقاعد العمال الجديد ليؤيد صحة أقوالنا دفعةً أخرى، وجهل هؤلاء الساسة لروح الأمم الأخرى أشد وأنكى، يدل على ذلك سياسة الإدغام والتمثيل التي يسيرون عليها في حكم مستعمراتنا.

(٣) قوة الآراء الشعبية قبل الجيل الحديث

لم ينحصر تأثير الآراء الشعبية في الوقت الحاضر وحده، بل أجرى حكمه العظيم في أدوار التاريخ المختلفة، والسبب في كوننا لم نطلع على ذلك هو أن تاريخ الأمم لم يبحث إلا عن الملوك، فكأن ما حدث في أيام دولتهم من وقائع وأعمال قد تم بمشيئتهم، ومع أن الكتب أغفلت أمر البحث في تأثير الآراء الشعبية فإن شأن هذه الآراء كان عظيمًا في جميع الأزمنة، ومتى يأخذ التاريخ في درس هذه الشعوب بعد أن يفرغ من الاهتمام بأمر الملوك يظهر لنا أن الجموع هي التي أوجبت بالحقيقة وقوع الحوادث الخالدة كالحروب الصليبية، والحروب الدينية، وملحمة (سان بارتلمي)، وإلغاء مرسوم (نانت)، وإعادة الملكية، وتوطيد حكم (نابليون) … إلخ. فلولا الآراء الشعبية لما استطاع ملك أن يأمر بوقوع مذبحة (سان بارتلمي)، ولما قدر (لويس الرابع عشر) صاحب السلطان المطلق على إلغاء مرسوم (نانت).

ومن غير أن أخوض غمار التفصيل في الموضوع أكتفي بأن أشير إلى أن (لويس الرابع عشر) لم يفعل تلك الفعلة إلا بتأثير الرأي العام، قال (فاغيه): «لا شيء يدل على الشعبية مثل إلغاء مرسوم (نانت)، فهو تدبير أملته السيادة القومية، وهو عمل جارت به الأكثرية على الأقلية، وهو أسلوب ديموقراطي من كل وجه.»

إن أكثر الحوادث التي سعى الجموع في وقوعها هي أشد حوادث التاريخ شؤمًا، ومن حسن الحظ أن البلايا الصادرة عنها قليلة، والفضل في ذلك لصفوة الرجال الذين ضعف نفوذهم الآن، ولكنه كان قبلًا قادرًا في الغالب على تحديد تقلبات العدد وهيجانه.

(٤) زيادة تأثير الجموع الحاضرة في تكوين الآراء ونتائج ذلك

لما كان تأثير سلطان الجموع الزائد أحد العوامل التي لا مناص منها في الحياة الحديثة، فإنه يقتضي أن نعرف كيف نعانيه، وقد سلَّم (باسكال) بذلك حيث قال: «لماذا نتبع الأكثرية؟ ألأنها أكثر عقلًا؟ لا، بل لأنها أعظم قوة.»

وبناء على ما في العدد من قوة، أو على ما أعطي قادةُ العدد من سطوة تعتقد الجماعة التي هي العدد أنها قادرة على فعل كل شيء، وبذلك زاد عدد مصانعيها حتى أصبح الوزراء والمشترعون عبيدًا لها، وما أضعف رجال السياسة أمام صخب الجموع وهزيزها! فأكثرهم اعتدالًا يذعنون لها وفرائصهم ترتعد فرقًا، ولا يتأخرون — كما لوحظ في بريست — عن التوقيع على بيان لترويج مرشح للبرلمان مجرد عن الوطنية إذ أمرتهم بذلك لجان الانتخاب الساقطة.

على أن تلك العبودية هي الناموس السائد لجميع الأجيال، فمتى طمع شعب في الحرية، أو تقهقر إلى الاستعباد فإنه يجد أساتذة ومحامين يبررون اندفاعاته تبريرًا عقليًّا مهما تكن هذه الاندفاعات خطرة ذات أهوال، واليوم آراء الجموع هي التي تملي على المشترعين أمر سن القوانين، وبما أن الأهواء المؤقتة لا الضرورة هي مصدر القوانين المذكورة فإن عاقبتها القضاء على الحياة الصناعية والاجتماعية والاقتصادية في البلاد، وأما أولو الأمر الإداريون فإنهم يقتصرون على اتباع تقلبات الرأي لشعورهم بالعجز عن تكييفه؛ فيزيدون ضغثًا على إبالة.

يشاهد وقوع ذلك كل يوم، ومن الأمثلة المحزنة في هذا الباب هو اعتصاب الملاحين الأخير الذي كاد يقضي على تجارة بلاد الجزائر، فمنذ إعلان الاعتصاب المذكور أصبحت الجزائر في حالة حصار بحري، وهكذا قُطعت المواصلات بين الجزائر والأقطار الأخرى ثلاثة أشهر سنة ١٩٠٤، وشهرًا واحدًا سنة ١٩٠٧، وشهرين سنة ١٩٠٩، وقد كان يكفي لمعالجة ذلك الحصار أن تعدل الدولة مؤقتًا عن نظام احتكار الملاحة الفرنسوية لبلاد الجزائر، وأن تسمح للمراكب الأجنبية بأن تكون صلة اتجار بين الجزائر وفرنسا لأجل معين، غير أن ميل النواب إلى مداراة النواتي ذوي الحق في الانتخابات النيابية أوجب عدم اكتراثهم لخسارة الجزائر التي تقدر بملايين كثيرة.

فإزاء تلك الطاعة العمياء لأوامر الجموع أصبحت هذه الجموع أكثر تجبرًا من ذي قبل، وبما أن الروادع التي كانت تزجرها قد تحطمت على هذا الشكل فإنها ترغم النواب على سن قوانين لا تلائم قاعدة العدل والإنصاف، ويقتضي الإتيان بشيء من التفصيل لإثبات الكيفية التي تتدرج بها الزواجر الاجتماعية إلى الانفصام بعدما كانت في الماضي تسكن أهواء الجماعات واندفاعاتها.

تشتق روح التمرد في الجموع من المبدأ القائل إن الوعيد والتخريب يكفيان لجعل أصحاب الأمر والنهي يخضعون لها، والحوادث التي تدل على انتحاء تكل الروح كثيرة إلى الغاية، فهذه الحوادث تثبت ما طرأ على المزاج النفسي من تبدل أدى إلى زعزعته مبادئ الحقوق التي كانت تعتبر حصينة منيعة الجانب، وإني أكتفي على سبيل المثال بذكر قانون كان يظهر عند سَنِّه — أيام اعتصاب موظفي الخطوط الحديدية — أنه متين ذو مقصد إنساني إلا أنه أوجب في نهاية الأمر شللًا مؤقتًا في حياة الأمة.

كانت الشركات تؤدي إلى مستخدميها رواتب تقاعد أعظم مما يناله موظفو الدولة، فإذا اعتبرنا الأرقام التي ذكرت في مجلس النواب ترى أن راتب تقاعد مديري المحطات كان ٣٥٠٠ فرنك مع أن الحد الأعظم لرواتب تقاعد المعدنين ٣٦٠ فرنكًا، ولرواتب معلمي المدارس الابتدائية ١١٠٠ فرنك، ولرواتب أساتذة المدارس الثانوية ١٣٨٥ فرنكًا. ثم قال الخطيب الذي أورد هذه الأرقام: إن راتب تقاعد مستخدمي الخطوط الحديدية ليس مما تجب زيادته.

ولكن لما كان مستخدمو الخطوط الحديدية ذوي شأن في الانتخابات، وتذرعوا بأنواع التهديد على صفحات الجرائد، ظنَّ ممثلو الشعب في البرلمان أنه يسهل تنفيذ مطاليبهم، فاقترعوا لزيادة رواتب تقاعدهم من دخل مساهمي الشركة، وقلما يجرؤ مستبد على اتخاذ هذه الطريقة قائلًا للمساهمين: يحسن بي أن أخفض دخلكم القليل لأزيد رواتب طبقة من المستخدمين أنا في احتياج إليهم، فأطيعوني وأدوا ما أفرضه عليكم.

إن الخطوط الحديدية هي عبارة عن مشاريع خاصة قامت على عقود لا يقدر على نقضها غير العاقدين، ومع أنه كان يقتضي أن يتأمل في هذه الحقيقة مشترعون، لم تعمهم النظرية القائلة إن الدولة التي تمثل الجموع قادرة على فعل كل شيء، لم يظهر في مجلس الشيوخ سوى الموسيو (ريمون بوانكاره) لبيان ما ينتج عن مداخلة البرلمان التي ترمي إلى سلب طبقة من طبقات الأمة في سبيل طبقة أخرى من نتائج سيئة، وما كان هذا السياسي الفاضل واثقًا كثيرًا بصحة كلامه، فبعد أن بيَّن محاذير لائحة الحكومة الخطرة كان من أول المقترعين لها، وبذلك أعان على اختراق حرمة مبادئ الحقوق الجوهرية.

وقد رأى موظفو الخطوط الحديدية في نجاح وعيدهم ما شجعهم على المطالبة بزيادة رواتبهم زيادة عظيمة، فأزمعت الشركات على المقاومة، فنشأ عن ذلك أن أتى أولئك الموظفون باعتصاب أخلَّ بجميع خطوطنا الحديدية.

ولم يكن ذلك كله سوى فاتحة أمور أخرى؛ إذ إن العمال ذوي الرواتب المؤلفة من مائتي أو ثلاثمائة فرنك لم يرضوا طبعًا بهذه الرواتب بعد أن رأوا زملاءهم الموظفين في الخطوط الحديدية سينالون بالعنف رواتب تقاعد مقدارها ألفا أو ثلاثة آلاف فرنك، وعلى ذلك أخذ معبِّدو الطرق، وعمال دور الصناعة، والمعدنون، ولفافو التبغ، يكثرون من رغباتهم التي طلبوا فيها زيادة رواتب تقاعدهم زيادة نسبية، ولكن ما العمل وقد أعمت المنافع الانتخابية النواب عن إدراك ما ستلده الأيام من أمور مخيفة.

وبالعصيان الجديد الذي وقع في مدن إحدى المديريات، وحدث به نهب وحرائق تجلت زيادة عنف الجموع عندما لا تطاع في الحال، والذي يجعل الجموع تتمادى في سيرها هو نذالة المشترعين الذين يؤيدونها في جميع ما تأمرهم به، وقد غفل المشترعون عن حدود الممكنات والحقائق، فظنوا أنهم يسيرون بنا إلى الرقي والحرية، ولو فكروا في الأمر قليلًا لرأوا أنهم يقودوننا إلى الاستعباد والانحطاط، وما ينشأ عنهما من الاستبداد.

(٥) تأثير الجموع في ثبات بعض العناصر الاجتماعية

إن ما تؤدي إليه الجموع من التخريف لم يكن سوى صفحة من صفحات تأثيرها؛ لأنه يوجد خلف تقلبها الظاهر روح تقليدية ثابتة يصعب تقويضها، وبفضل هذه الروح تعود الجموع إلى حالها الماضية، وما في الروح الشعبية من المحافظة يشاهد على الخصوص في الزمر الاجتماعية الآتية؛ وهي: الطبقات، والمؤتمرات، وطوائف العمال، والنقابات، والمجامع العلمية … إلخ.

وفي الغالب يكون عمل هذه الزمر المتجانسة خلاف عمل الجموع المتباينة التي بحثنا عنها آنفًا؛ إذ لما كانت الزمر المذكورة غير مبدعة ولا مخربة فإنها تعمل في توطيد آراء جديدة تأتي بها صفوة الناس؛ أي في إثبات بعض عناصر الحضارة المهمة، وهي: اللغات، والفنون، والأزياء، والمعتقدات، حتى النظريات العلمية.

إن عمل الفرد على جانب عظيم من الأهمية، ومع ذلك لا تزهر مبتكرات العبقرية التي هي أمر فردي إلا بعد أن تصبح جامعة، فإذا كانت مباحث الفرد هي أساس الحضارة والرقي فإن أمرهما لا يتم إلا بعد أن تستمرئها روح المجموع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤