الفصل الأول

التوكيد والتكرار والمثال والنفوذ

(١) التوكيد والتكرار

بحثت عن شأن العوامل التي درجتها في هذا الفصل في كثير من مؤلفاتي؛ ولذا أكتفي الآن بتلخيص تأثيرها:

إن التوكيد والتكرار عاملان قويان في تكوين الآراء وانتشارها، وإليهما تستند التربية في كثير من المسائل، وبهما يستعين رجال السياسة والزعماء كل يوم في خطبهم، ولا يحتاج التوكيد إلى دليل عقلي يدعمه، وإنما يقتضي أن يكون وجيزًا حماسيًّا ذا وقع في النفس، ويمكننا أن نعد البيان الآتي الذي نشر في الصحف نموذجًا لهذه الصفات الثلاث:

من ينتج القمح؛ أي الخبز الذي نحتاج إليه؟ هو الفلاح! ومن يزرع الجلبان والشعير والحبوب كلها؟ هو الفلاح! ومن يربي المواشي والأنعام ذات اللحوم الطرية؟ هو الفلاح! ومن يربي الضأن للحصول على أصوافها؟ هو الفلاح! ومن ينتج الخمر والنبيذ؟ هو الفلاح! ومن يطعم الطرائد؟ هو الفلاح!

ولكن من يأكل أطيب الخبز وأطرى اللحوم؟ ومن يلبس أفخر الثياب؟ ومن يشرب خمر «بوردو» و«الشمبانيا»؟ ومن ينتفع بالطريدة؟ هو ابن الطبقة العليا الثرية!

ومن يتسلى ويستريح كما يريد؟ ومن يتمتع بأطايب النعم؟ ومن يسيح للنزهة؟ ومن يتفيأ في الصيف ويتدفأ في الشتاء؟ هو ابن الطبقة العليا الثرية!

ومن يأكل طعامًا غير شهيٍّ؟ ومن يندر شربه للخمر؟ ومن يشتغل بدون انقطاع؟ ومن يكابد حَمارَّة الصيف، وصَبارَّة الشتاء؟ ومن هو شديد البؤس كثير الشقاء؟ هو الفلاح!

والتوكيد لا يلبث بعد أن يُكرَّر تكرارًا كافيًا أن يحدث رأيًا ثم معتقدًا، والتكرار هو تتمة التوكيد الضرورية، ومن يكرر لفظًا أو فكرًا أو صيغةً تكريرًا متتابعًا يحوله إلى معتقد، وإذا نظرنا إلى سلسلة الرجال التي تبتدئ بمؤسس الديانة لتنتهي بتاجر السلع رأينا أنها تستعين بمبدأ التكرار على إقناع الناس.

والتكرار من القوة بحيث يجعل الرجل يؤمن بالكلمات التي يكررها، ويسلِّم بالأفكار التي يعرب عنها عادةً، فلما رجا مجلس الشيوخ أن يهيئ (بومبي) الكبيرُ الأسبابَ اللازمة للدفاع عن الجمهورية قال هذا الأخير مكررًا: «إن (يوليوس قيصر) لا يهاجم روما.» والاعتقاد الذي أوجبه هذا التكرار في نفسه منعه من الالتجاء إلى التدابير التي يمكنه أن يحمي بها روما وينقذ رأسه من القطع ولو لأجل معلوم.

والتاريخ السياسي حافل بالعقائد التي نشأت عن التكرار على الوجه المذكور؛ فقد كان قادتنا وأولو الأمر منا قبل سنة ١٨٧٠ يقولون مكررين: «إن الجيوش الألمانية هي دون جيوشنا قوة.» وبفعل هذا التكرار اعتقدوا صحة ذلك اعتقادًا جازمًا، وكلٌّ يعلم ماذا كانت عاقبة الاعتقاد المذكور. ولا يلبث الرجل السياسي بعد إقباله على آراء مفيدة له أن يعتنقها بتأثير نضاله عنها حتى يصبح غير قادر على تبديلها عندما تقتضي منفعته ذلك التبديل.

(٢) المثال

المثال هو أحد وجوه التلقين الفعالة، ولكن يجب أن يكون ذا وقع في النفوس ليكون مؤثرًا، ففي عالم التربية نرى أن مثالًا بارزًا خير من مئات من الأمثلة الضعيفة التي لا تنفذ القلوب، وقد أتيح لي أن أحقق هذا المبدأ عندما روَّضت خيلًا شوامس؛ إذ رأيت أن نكزها بالمهماز مرة واحدة أشد فعلًا من ضربها مرات عديدة ضربًا خفيفًا.

وقد تجلى تأثير الأمثلة البارزة التي تقرع المخيلة في تمرينات الجيش الكبيرة التي تمت سنة ١٩١٠، فقد كررت الطيارات حركاتها العادية دون أن تضيف إليها شيئًا آخر سوى حمل البرقيات، بيد أن هذه الفائدة المفترضة أيام الحرب جعلت الحكومة تعزم على تكوين فرقة للطيران، وأوجبت أن يعلن وزير الحربية أن الطيران هو سلاح جديد تقتضي إضافته إلى المشاة والمدفعية والخيالة.

وفي عالم السياسة نرى أن تأثير المثال في تكوين الآراء وانتشارها أمر قاطع، فقد أدى نجاح بعض مرشحي الاشتراكية لعضوية البرلمان إلى اعتناق كثير من الأساتذة الشبان لأشد مبادئ ذلك المذهب ضررًا، وقد بيَّن الموسيو (بوردو) ذلك في العبارة الآتية:

بينما نرى في ألمانيا شبيبة الجامعة، وشبيبة الطبقة الوسطى الراقية تبتعد من الاشتراكية بعد أن دنت منها، وتعود إلى حظيرة المشاعر القومية المتطرفة نشاهد الاشتراكية في فرنسا تثابر بالعكس على جميع جنودها من أساتذة الفلسفة وخريجي دار المعلمين فنازلًا.

(٣) النفوذ

تبحث رسائل المنطق بحثًا دقيقًا عن العناصر التي يتكوَّن منها الحكم، ومع ذلك سهت عن العدوى والنفوذ، والعدوى والنفوذ هما الناظمان لأكثر آرائنا.

سأبحث عن العدوى النفسية في فصل آتٍ، وهنا أدرس النفوس درسًا موجزًا؛ لأني قتلته تمحيصًا في كتب أخرى.

في المدارس يتعلم الطلاب أن التجربة والاختبار حلَّا مكان النفوذ، ولكنه يسهل إثبات خطل هذا الزعم: فلو نظرنا إلى الآراء العلمية — دون أن نلتفت إلى الآراء الدينية والسياسية والخلقية، حيث لا شأن للدليل فيها — لراينا أنها في الغالب لا تمثل سوى نفوذ قائلها، وأنها تنتشر بالعدوى، ولا يكون الأمر خلاف ذلك؛ إذ لمَّا كان أكثر التجارب والاختبارات العلمية من التعقيد بحيث يصعب تكرارها، فإنه يُسَلَّم بكلام العالم الذي يشرحها، ولذلك يحق لنا أن نقول: إن نفوذ الأستاذ في الوقت الحاضر هو كما في زمن (أريسطوطاليس)، ويزداد هذا النفوذ كلما أصبح الاختصاص العلمي أعظم منه في الماضي.

ولكون النفوذ أساس أكثر الآراء التي تلقيها التربية في الذهن فإننا نتدرب على اعتقاد رأي يبديه عالم ذو نفوذ بسهولة. أجل إننا قد نأتي بأحكام هي على جانب من الإصابة في مواضيع مهنتنا، وأما المسائل الأخرى التي يأتي بها رجل نافذ فإننا نفضل أن نسلِّم بها تسليمًا أعمى على إعمال الفكر فيها مباشرةً.

ويتوقف مصير أقطاب السياسة، وأرباب الأعمال، والمتفننين، والكتَّاب، والعلماء، على ما فيهم من نفوذ خاص وقدرة على تلقين الناس تلقينًا غير شعوري، وقد ينجح الأبله أحيانًا في نشر رأيه؛ لأنه لما كان غير شاعر ببلهه لا يتردد في توكيد رأيه، ويصبح بذلك ذا نفوذ.

وسنثبت بأمثلة بارزة — عندما نعود إلى هذا الموضوع في الباب الذي خصصناه للبحث عن المعتقدات بحثًا تجريبيًّا — أن النفوذ هو في الغالب أحد العوامل التي تجعل العالِم النِّحرير معتقدًا. وللنفوذ الذي هو موجد الآراء وسيد العزائم قوة أدبية تعلو القوى المادية، فلما عاد (نابليون) وحده من جزيرة «إلب» افتتح بنفوذه جميع فرنسا في بضعة أيام، وقد خرست أمام إكليل مجده مدافع الملك، وتشتت شمل جيوشه، وقد كان نفوذ (نابليون) عظيمًا حتى إنه أثَّر في أعدائه، فبدلًا من أن تمقت (ماري كارولين) — زوجة أمير من عائلة البوربون المالكة — ذلك العدو الرهيب عدَّته إلهًا، وإليك ما جاء في إحدى رسائلها:

إن (بونابارت) هو أعظم رجل أظهرته العصور، فأعجب به من رجل قوي ذي نجدة ومروءة ونشاط وعبقرية لا تبارى! ويا سعادة الأمة التي يوجد على رأسها ملك مثله! ولذلك تراني على ما فيَّ من كره للنظام الجمهوري، وحب لتقويض دعائمه أرجو بقاء (بونابارت).

وقد كان شأن النفوذ في شوكة الملوك عظيمًا إلى الغاية، حتى إن (باسكال) قال: «يجب على المرء أن يكون ذا عقل نقي خالص لكي ينظر إلى ملكه — وهو في قصره الذي يحرسه أربعون ألف جندي — كما ينظر إلى بقية الناس.» وفي الجيل الحاضر الذي هو جيل المساواة نرى نفوذ الملوك لا يزال محافظًا على شأنه، فيجمل بالملوك أن يحافظوا عليه بحكمة.

كتب الموسيو (نوزيار) مراسل إحدى الصحف المهمة: «إن جميع من حضروا جنازة ملك إنكلترا قد عجبوا من تأثير إمبراطور ألمانيا في الجميع حينما كان يمشي في وسط الملوك، حقًّا إن (غليوم) يكتسب باعتقاده أنه ظِلُّ الله في الأرض عظمة غريبة تدهش الناس.»

والجماعات — نظرًا لاحتياجها إلى العبادة — لا تلبث أن تعبد أشخاصًا يؤثرون فيها بنفوذهم، والزعيم لا يحافظ على نفوذه بالتملق لها، فهي وإن كانت تبحث عن مداهنين لها إلا أنها سرعان ما تحتقر من يتملقها.

ومع أن النظام العسكري يقوم على نفوذ الضباط فإن جهل روح الجماعات أدى إلى ترك هذا المبدأ؛ إذ قد أمر الضباط بأن يعاملوا الجنود كإخوة، وأن يبذروا فيهم حب الطاعة بقوة الحجة والبرهان. يرضى ابن الطبقة الدنيا مختارًا بمثل هذا المبدأ، ولكنه يحتقر ضباطه الذين يطبقونه كثيرًا. وماذا يكون مصير الجيش بعد أن يخسر هؤلاء نفوذهم؟

وينشأ بعض الفوضى الحاضرة عن كون رخاوة الطبقات القائدة قد جردتها من نفوذها، وما مصير الملوك، والشعوب، والأفراد، والنظم، وكل عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية سوى الاضمحلال عندما لا يبقى لهم نفوذ يؤثرون به.

يمكننا أن نلخص تأثير الأسباب في انتشار الآراء والمعتقدات التي ذكرناها في هذا الفصل بالكلمات الآتية؛ وهي: «لا رأي، أو لا معتقد يظهر بلا نفوذ»، و«لا رأي، أو لا معتقد يسيطر بلا توكيد»، و«لا رأي، أو لا معتقد يبقى بلا مثال ولا تكرار».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤