الفصل الثالث

الطراز

(١) تأثير الطراز في عناصر الحياة الاجتماعية

ينشأ عن تقلب الإحساس والشعور بتقلب البيئة والحاجات والتقاليد روحٌ عامة تتبدل بتبدل الأجيال، وكثيرًا ما تتغير الروح المذكورة في غضون الجيل الواحد، وهذه الروح التي تنتشر على عجل بفعل العدوى النفسية تسمى «طرازًا».

فالطراز هو أحد العوامل القوية في شيوع أكثر عناصر الحياة الاجتماعية، ومنها آراؤنا ومعتقداتنا، ولم يمتد سلطانه إلى اللباس وحده، بل تناول فن التمثيل، والآداب، والسياسة، والفنون الجميلة، حتى الأفكار العلمية، وهذا هو العلة في أن تشاهد بعض الآثار أصدق لسان يعبر عن حال أحد الأدوار.

ولما كان الطراز يؤثر تأثيرًا غير شعوري فإننا نعانيه من حيث لا ندري، ولا تقدر أكثر النفوس استقلالًا على التخلص من حكمه، فالمتفننون والكتَّاب الذين يأتون بأثر ليس عليه مسحة من أفكار الوقت هم أندر من الكبريت الأحمر.

وأحيانًا يجعلنا الطراز — بما له من النفوذ — نعجب من أشياء لا نلبث أن نستبشعها بعد بضع سنوات، وقلما يكون الأثر الفني ذاته ذا وقع في النفس، وإنما تشتق قيمته مما يحوم حوله من أفكار فيتحول بتحولها، وفي الغالب يفرض الطراز أمورًا يبعد تصديقها كإيجاد لغة أو إصلاح كتابة. خذ لغة «الفولابوك» التي ظهرت سنة ١٨٨٠ مثالًا تَرَ أن الطراز قد يسَّر لها نجاحًا باهرًا؛ لأنه تأسس في عشر سنوات ٢٨٠ ناديًا، و٢٥ جريدة لنشرها، ثم تبدل الطراز فصرنا اليوم لا نكاد نجد رجلًا يعرف «الفولابوك»، وقد قامت لغة «الإسبرانتو» مقام «الفولابوك» فلقيت مثلما لقيته هذه من النجاح، إلا أنها أخذت في هذه الأيام تفسح المجال للغة أخرى تسمى «الإيدو»، ولا ريب في أننا سنستمر على إيجاد لغات مصنوعة حتى نعلم أن تكوين اللغات هو أمر إجماعي لا يتم إلا ببطء؛ أي يقع ابتداءً بصنع أحد الناس.

ولكون تقلبات الطراز تتناول جميع المواضيع، ولكون ما فينا من شعور وإحساس يتغير بفعل كثير من المؤثرات، يمكننا القول: إن الشكل الذي نفكر حسبه، ونعرب به عن مشاعرنا يتحول تحولًا سريعًا.

والعاطفة التي هي مصدر الطراز لم تتخلص من عناصر العقل، وهذا يتضح عند البحث في زي النساء الذي هو أكثر مظاهر الطراز تقلبًا في الظاهر؛ إذ نرى حينئذ أن دائرة التقلب المذكور محدودة إلى الغاية.

(٢) قواعد الطراز: الطراز مزيج من عناصر عاطفية وعناصر عقلية

إذا كان الطراز عنوان العاطفة فإن العقل هو الذي يعيِّن وجهته، ومن هذين المصدرين يشتق طراز الآداب، والفنون، والعمارة، والأثاث، واللباس، وغيره من الأشياء، ويتضح هذا الاشتقاق عند البحث في الأزياء النسائية ذات التقلب الكبير.

إن ما في زي النساء من عناصر عقلية ناشئ عن مقتضيات الاقتصاد، والمخترعات، والحاجات الحديثة، وحكم الوقت … إلخ، وتلاحظ هذه المؤثرات في تبدل الأزياء الذي أوجبه استعمال السيارات، فقد اضطرت المرأة في دورنا القائم على مبدأ السرعة إلى مجاراة الرجل في غدوِّه ورواحه في الشوارع الكبيرة، فعمَّ لذلك الزي المشذب — الذي كان يخص بعض الألعاب الرياضية — مع قليل من التعديل، وأما الأثواب الأخرى فقد ضُيِّقت فيها أكمام الدرع لتنساب في الجزر بسهولة، غير أن ذلك جعل نصف المرأة الفوقاني الذي حُرج على هذا الوجه غير مستظرف، ومن أجله نُقص اتساع البذلة التحتاني، وألغيَ الجيبان كي تبدو مُكتَّفة، ثم إن المرأة طمعًا في إيقاظ شهوة الناظرين لم تألُ جهدًا في جعل بذلتها تلاصق جسمها ملاصقة تامة، مبدية من وجودها ما يمكن الرجل أن يستدل به على ما بقي.

ولا اعتراض على النساء اللواتي يقطن المدن إذا لبسن ألبسة حريرية خفيفة أيام الشتاء بعد أن عمَّ تدفئة البيوت بالبخار ذي الحرارة المرتفعة، والمرأة المتسربلة بالحرير تنال في ذلك الفصل ما تحتاج إليه من الحرارة من عباءة الفرو حينما لا تكون في بيتها.

تلك هي العناصر العقلية التي تؤثر في تكوين الزي، فلنتكلم الآن عن العناصر العاطفية ذات الشأن في ذلك التكوين: نقول قبل كل شيء: إن الزي هو كاللغات والأديان من عمل المجموع لا من عمل الفرد؛ ولذلك يتعذر على أي رجل أن يوجبه على الآخرين، والناس يظنون أن الخياطين والممثلين وعارضي الألبسة هم الذين يوجدون الزي بوجه عام. نعم إنهم مخطئون في ظنهم؛ لأن الواقع يدل على أن هؤلاء لا يفعلون بالحقيقة سوى التعبير عن مناجي الناس وميولهم التي هي نتيجة بعض الحاجات والأفكار والأحوال.

والأزياء — وإن كانت تختلف من فصل إلى آخر — لا يتحقق الأمل في تبديلها إلا ضمن دائرة محدودة. أجل، إن الزي لا يروق النفس إلا إذا استوقف النظر، ولكن لا يتم نجاحه إلا إذا لم يبتعد من الزي الذي تقدمه، وهذا ما يوضح لنا السبب في كون الزي المبتكر من كل وجه لا يدوم طويلًا، ولا يستقيم أمر الزي إلا بالتدريج، فالجلاليب الواسعة التي كان النساء يستعملنها منذ ثلاثين سنة لم تتحول إلى حلل ضيقة ملاصقة للجسم إلا شيئًا فشيئًا.

والزي ذو سلطان كبير، فهو الذي يجعل المرأة تصطبر على أشد الكُلَف، كأن تمسك ثوبها بيدها؛ خوفًا من أن تجرر ذيله، وأن تحمل بيدها الثانية كيسًا يشتمل على محتويات جيبها في الماضي، وكأن تكابد ما ينشأ عن لبس الأثواب المسماة «الحلل المشكولة» من ألم في المشي، والمتمدنات من هذه الجهة يشبهن نساء الهمج اللواتي يحتملن أوجاع الخرصان التي يزينون بها أنوفهن إذعانًا لحكم الزي.

والخضوع للزي — كما وصفنا — يثبت لنا ما للعدوى النفسية من التأثير والقوة، فأكثر النساء استقلالًا وهمةً وسعيًا في نيل جميع الحقوق لا تجرؤ على لبس بذلة قصيرة في وقت يُلزِم الزي الناس لبس بذلات طويلة، ولا تجسر على صنع جيب في البذلة في زمن يحرم الزي استعمال الجيوب، ولا تُقدم على زَرِّ درعها من أمام في آنٍ تزر بقية النساء دروعهن من خلف، فليس من يقدر منهن على مخالفة الزي، ولم يُطِعْنَ في الماضي أوامر لآلهة إطاعتهن لأحكام الزي في جميع العصور والأجيال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤