الفصل الثالث

الشأن المنسوب إلى العقل والإرادة في تكوين المعتقد

(١) استقلال العقل واستقلال المعتقد

تعلن المباحث التي دَرست أمر تكوين المعتقدات أن هذه المعتقدات إرادية عقلية، ومصدر هذا الخطأ هو الشأن الكبير الذي نسب إلى العقل في كتب علم النفس، وأما نحن فقد فرَّقنا في هذا الكتاب بين الذات العاطفة والذات العاقلة، وأثبتنا أنه يسيطر على هاتين الذاتين أنواع منطق مختلفة، وأن العقل الذي هو عنوان الذكاء مستقل عن المعتقد الذي هو عنوان المشاعر وخلق التدين، وقد زدنا هذا الاستقلال وضوحًا عندما قررنا أن المعتقد والمعرفة يستندان في تكوينهما إلى طرق وأساليب متباينة كل التباين.

ولو نظرنا إلى أكثر منازعاتنا السياسية والدينية لرأينا ناشئة عن زعمنا الوهمي الذي نريد أن نجعل به الأمور المتباينة يؤثر بعضها في بعض؛ كالمعتقد والمعرفة مثلًا، ولا نقدر على استكناه قوة المعتقدات إلا إذا اعترفنا بأنها بعيدة من أي مؤثر عقلي، وقد يلوح للقارئ أنه ليس من المفيد أن نعود إلى هذا الموضوع مرة أخرى، ولكن ليعلم أن الأدلة مهما تكن عديدة فإنها لا تكفي لمقاتلة أوهام مستعصية كهذه.

ولو كان العقل قادرًا على التأثير في المعتقدات لأصبح كل ما هو مخالف للصواب منها في خبر كان، فنرى — والحالة هذه — أن تلك المستحيلات العقلية لا تزال ثابتة في النفوس، ولذا ترانا مكرهين على التسليم بأنه لا مستحيل عند المؤمن، وبأن المرء ليس حرًّا في الاعتقاد وعدمه.

إن المؤثرات العاطفية والدينية التي هي أساس المعتقد — هي كما قلت غير مرة — تختلف عن سلسلة المعقولات التي تستند إليها المعرفة، فلا فحص ولا تحقيق في أمر المعتقد، وأما في أمر المعرفة فالتدقيق هو القاعدة، وعلى حكمه ينزل كل معترض.

ومما تتصف به المعتقدات هو كونها تولد أوهامًا في النفوس، وترغم هذه النفوس على الخضوع لسلطانها، ثم إن الإنسان قد يتخلص من ربقة الظلمة المستبدين، ولكنه يعجز عن التحرر من سيطرة المعتقدات على الدوام، ويعد الذين هم مستعدون للتضحية بأنفسهم في سبيل المعتقدات بالألوف مع أنه لا يعرِّض واحد من هؤلاء نفسه للخطر انتصارًا لإحدى الحقائق العقلية.

ولم يقدر دور العقل الذي دخل البشر فيه حديثًا بفضل مبتكرات العلوم على زعزعة قوة المعتقدات، بل ربما لم تظهر معتقدات سياسية أو دينية أو اجتماعية عديدة في زمن مثل ظهورها فيه، ولا سيما في أميركا وروسيا؛ حيث يتكون كل يوم معتقد جديد.

(٢) عجز العقل عن التأثير في المعتقد

قد يسيطر العقل على المعتقد عندما يلحق المعتقد قبل أفوله وهنٌ ودروس بفعل تطور الأشياء الطبيعي، وأما المعتقد في دور انتصاره فإنه لا يحاول أن يقاتل العقل؛ نظرًا لأن هذا الأخير لا يعارضه في ذلك الحين.

حقًّا ليس ما هو أندر من ظهور أناس في دور الإيمان هم من الاستقلال بحيث يجادلون في أمر المعتقد مجادلة عقلية، فيثبت لنا مثال (باسكال) ماذا تكون نتائج التنازع بين المنطق العاطفي والديني من جهة، والمنطق العقلي من جهة أخرى: كان هذا المفكر الشهير يكتب في زمن يخضع الناس فيه للحقائق الدينية غير مناقشين؛ أي في زمن لا يجرؤ فيه غير أولي العبقرية مثله على فحص هذه الحقائق فحصًا عقليًّا، ولكن ما أصابه من الفشل في مسعاه يؤيد مرة أخرى لنا عجز العقل عن التأثير في المعتقد.

ساق ذكاء (باسكال) الواسع إلى إطلاعه على بطلان القصة القائلة إن الله انتقم لنفسه من ابنه على الخطيئة التي ارتكبها أحد خلقه في بدء العالم، ولكن سرعان ما خرَّ منطقه العقلي ساجدًا أمام اندفاعات منطقه الديني؛ إذ لما استحوذ عليه ما ألقاه المنطق الديني في قلبه من خوف الجحيم، وكان مع ذلك يود أن يدافع عن معتقده ببراهين مقبولة، اعتبر حياة الآخرة كناية عن مراهنة مخيفة؛ لأن العذاب الأبدي واقع إن كان وجود جهنم متحققًا، قال هذا الفيلسوف مؤكدًا: «إزاء هذا الارتياب تجب المراهنة على وجود حياة في الآخرة، ويجب على الإنسان أن يسير كأن هذه الحياة موجودة.»

وبعد أن اقتنع (باسكال) بذلك على هون حاول — ولكن عبثًا — أن يدعم عقيدته بمنطقه العقلي، فالمعجزات والإخبار بالغيب من جملة البراهين التي تذرَّع بها هذا المفكر العظيم ليثبت صحة إيمانه عقليًّا، ولكن بما أن هذه الأدلة قد التجأت إليها جميع الأديان، فإنه لم يسعه سوى إنكار ما حكت عنه هذه الأديان؛ إذ قال: «يستطيع كل إنسان أن يأتي بمثل ما عمله (محمد) الذي لم يجئ بمعجزة، ولم ينبئ بغيب، وأما ما أتى به يسوع المسيح فلن يقدر أحد على فعل ما يدانيه.» غير أن منطق (باسكال) الديني لم يسمح له بالبحث عن السبب في كون الإسلام والبوذية لهما ما للنصرانية من الأنصار والتابعين.

ومع ما في برهنة هذا الحكيم من الدقة كان يشعر بضرورة دعم إيمانه بأدلة قد لا يرضى بمثلها العقل السديد، ثم كان يقول إن الإيمان واجب للنجاة من نار جهنم على فرض وجودها، ولكن كيف يدخل الإيمان في قلب الإنسان؟ اسمع ما يقول: «إن كنتم تريدون أن تكونوا مؤمنين فباشروا الأمر كأنكم مؤمنين؛ أي اشربوا ماء المعمودية، وأقيموا القداس … إلخ، وبذلك تصبحون من المؤمنين.»

يثبت لنا مبحث (باسكال) عجز العقل عن مقاتلة المعتقد، وبهذا العجز نفسر بضع حوادث تاريخية غامضة في ظاهرها كحادثة (بور رويال) التي كدَّرت صفاء جانب من عهد (لويس الرابع عشر)، كان في ذلك الدير بضعة رهبان أتقياء لهم رأي خاص في نظرية المشيئة الأزلية، ولو نظرنا إلى مباحثهم في الغفران، وتناول القربان، وقضايا (جانسينيوس) الخمس من الوجهة العقلية لتبيَّن أنها لا تستحق الاهتمام، ومع ذلك أوجبت في القلوب غضبًا شديدًا أدى إلى نسف الدير المذكور وتشتيت شمل رهبانه، مع كونهم عنوان الفضيلة والصلاح، فلو كان العقل ذا تأثير في وقوع مثل ذلك الحادث لتعذَّر إيضاح أمره.

وتلك المعتقدات تنضج في عالم اللاشعور؛ فلا سلطان للعقل، ولا للإرادة عليها، وهي نتيجة تلقين كالتلقين الذي يأتي به جميع المنومين في الوقت الحاضر. نعم، قد يلقي العقل في النفس شوقًا إلى الاعتقاد، ولكنه يعجز عن حمل الإنسان عليه، ولن يكون المرء ذا اعتقاد باتباع نصيحة (باسكال) القائلة إن الرجل يصير معتقِدًا بعد أن يُرغم نفسه على الظهور بمظهر المؤمن، فالإرادة مهما تكن قوية لا تقدر على إدخال الإيمان إلى القلب.

ولأن المعتقَد مستقل عن العقل، فإننا لا نعجب — كما لاحظ (ريبو) — «من مشاهدة ذوي العقول السامية الذين انقطعوا إلى مناهج العلم وأصوله، يؤمنون في أمور الدين والسياسة والأخلاق بآراء صبيانية، يترفعون عن المجادلة فيها ثانيةً واحدة لو كان المؤمنون بها غيرهم.»

وفي الغالب نعاني المعتقدات غير مناقشين فيها، وحسنًا ما نفعل، فسوف يشيخ العالم كثيرًا قبل أن يوازن العقل خلق التدين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤