الفصل الرابع

بحث في بعض الحوادث اللاشعورية التي هي مصدر المعتقدات

(١) تأثير الإيمان في الأعضاء والشفاء

سأذكر بين المباحث القائمة على التجربة تأثير بقايا أجساد القديسين، والحج، والمياه ذات المعجزات … إلخ، والمؤمنون من كل دين يسلِّمون بأن هذه الأشياء قادرة على الشفاء، يؤيد ذلك ما عُلِّقَ على جدران معابد الآلهة من الذخائر المنذورة منذ القرون الغابرة.

ومن المحقق أن حج ألوف من المؤمنون سواء إلى (مكة)، أو إلى (لورد)، أو إلى ضفتي نهر (الغانج) لم يكن عبثًا في كل وقت، فعندما يحرك الإيمان الشديد قوى اللاشعور الخفية تبدو هذه القوى في الغالب أشد تأثيرًا من الوسائل التي يتذرع بها علم الطب لمداواة الأمراض، ومما أعتقد أنه يفتح أفقًا واسعًا غير منتظر في علم وظائف الأعضاء هو إيضاح درجة تأثير التلقين الناشئ عن الصلوات، وبقايا أجساد الأولياء، والتعاويذ، والتمائم، في الأعضاء.

لا ريب في أن هذا البحث المهم لا يكون جديًّا قبل أن يمضي وقت كبير؛ إذ لم يبحث حتى الآن عن الشفاء القائم على تأثير الخوارق غير أناس مرتابين متصلبين في ارتيابهم، أو مؤمنين أعمى الإيمانُ بصائرَهم، فيما أن هاتين الصفتين متساويتان في شل قوة الاختبار في الإنسان، ولا يلبث المرتاب في تلك المواضيع أن يكون في بعض الأحيان معتقدًا من حيث لا يشعر، لم يسهل الوصول إلى حقائق واضحة فيها.

ولقد بقيت جميع تلك الأمور — وهي مجحودة، أو مسلَّم بها على غير دليل تجريبي — مُقْصَاة في ميدان المعتقد غير جديرة بالاهتمام، وما كان يلوح للأعين شيء أكثر استحالة من تحقيق وعود المبشرين القائلين بتأثير المياه، والمساحيق العجيبة، وبقايا القديسين، وخواتم السحر … إلخ.

إلا أن المباحث العصرية في التلقين دلتنا على أن تلك المزاعم ليست عبثًا؛ إذ أدت في الغالب إلى شفاء في الجسم، وزيادة في قوته، ومنحت القلوب شجاعة، وأحيت في النفوس آمالًا، وهكذا ظهر لنا أن الحقائق العلمية ليس فيها ما في الأضاليل من فائدة في بعض الأوقات.

وهل في الأعضاء من قوى مجهولة تعمل عملها بتأثير الخيال؟ لم يستطع أحد حتى الآن أن يجيب عن هذا السؤال جوابًا قاطعًا، ومع ذلك يمكننا أن نأتي بالفرضية الآتية، وهي: أن الخيال لمَّا كان صادرًا عن أحوال عضوية فإن استمراره قد ينعكس على تلك الأحوال فيؤثر فيها، ولهذا يكفي لنيل الشفاء إحداث خيالات نفسية شديدة.

وقد عُلم ذلك الأمر منذ زمن بعيد، فقد أشار الفيلسوف الإيطالي (بومبانازي) في رسالة نشرها سنة ١٥٢٥ إلى أن عظامًا للحيوانات بيعت على أنها من أجساد القديسين المشهورين كانت تشفي الناس كعظام هؤلاء القديسين الحقيقية، ثم إن الشفاء بفعل الإيمان قد استعان به الطبيب الشهير (شاركو) في أيامنا الحاضرة مرات عديدة.

(٢) الأوهام الناشئة عن تلقين الفرد وتلقين الجماعة

للتلقين سلطان عظيم على النفوس، فبه آمن مدة سنتين أفاضلُ علماء الطبيعة — الذين أشرنا إليهم آنفًا — بوجود أشعة خاصة لم تلبث أن اختفت بعد أن علموا أنها عبارة عن أوهام، وهو الذي يجعل الناس يسلِّمون بصحة حوادث مستحيلة كتجسيم الأرواح بغتةً، على هذا الوجه اعتقد الكيماوي الشهير (كروكس) خروج شبح (كاتي كينغ) من الوسيطة، مع أن هذا الشبح لم يكن غير الوسيطة نفسها، وقد قُبض أخيرًا على هذه الوسيطة في برلين عند ارتكابها جرم التدليس الذي كانت بمثله أوهمت العالم الإنكليزي المشار إليه.

أفلا يوجد في العالم أناس ذوو قدرة عظيمة على التلقين يستطيعون أن يؤثروا بها فيمن يحيط بهم من الناس تأثيرًا كبيرًا؟ يظهر أن بعض الحوادث تؤيد ذلك، ومنها حوادث الرفع التي يأتي بها الوسطاء أمام الجمهور قائلين إنهم اقتبسوها من دراويش الهند.

وللتلقين في الأمور الروحانية تأثير عظيم إلى الغاية، وقد اعترف بذلك دعاة المذهب الروحاني أنفسهم، فقد قال (ماكسويل): «يلقن الحاضرون بعضهم بعضًا، فلا يلبثون أن يكون عندهم هوس جامع، ومما سمعته أن أحد الحضور أشار إلى أنه يرى نورًا في جهة معينة، فالتفت الباقون ورأوا ما رآه، ثم أعلن رجل أنه يشاهد صورة فشاهد الآخرون ما شاهده. هذا هو هوس الجماعة، وقد أيدت لي تجاربي الشخصية أن حاسة البصر هي أكثر الحواس استعدادًا لقبول الانطباعات الوهمية.»

للتلقين في بعض الأحيان تأثير خارق، فقد بلغ في إغوائه للسحرة في القرون الوسطى مبلغًا جعلهم يرضون مطمئنين بحرقهم كتكفير عن خطيئاتهم الخيالية، ويلوح لنا أن مزاج المختبرين النفسي في الوقت الحاضر — ومنه أفاضل العلماء — يقرب من مزاج أولئك السحرة من هذه الجهة؛ لأننا على رغم ادعائهم بأنه لا سبيل للوهم فيهم إلا في أحوال شاذة نراهم عاجزين عن التفلت من حكمه، فليس من الهين أن يتحرر الإنسان من ربقة المعتقد، وكلما حاول ذلك عاد إليها بفعل التلقين الذي يستولي على عقله وبصيرته.

وقد أوضح الأستاذ (غراسيه) هذا الأمر إيضاحًا جيدًا حيث قال: «إن من الأمور الغريبة ما يطرأ على المختبرين من أحوال غير طبيعية عندما يحاولون درس ذلك، فبعد أن أوضح (لومبروزو) في مذكراته تجارب علمية دقيقة في أمور الطب أخذ يشرح فيها صحة ظهور الأموات ومناجاتهم ورفع الأشياء من غير أن تُمس كدوران (هوم) حول نوافذ أحد القصور دورانًا أفقيًّا من دون أن يلمس شيئًا، وكركض أخوي (روفو) الصغيرين خمسة وأربعين كيلومترًا في مدة لا تزيد على خمس عشرة دقيقة، وكتقمص الأرواح لقسم من جوهر الوسيط تقمصًا مؤقتًا كي تبدو تامة الأعضاء، وهكذا نرى أن خيرة العلماء ينسون قواعد العلم ومناهجه حينما يكونون إزاء حوادث السحر.»

ولكن هذا الاستعداد النفسي يختلف باختلاف الأفراد والشعوب، فقد أتى الوسيط الواحد بنتائج مختلفة في إنكلترا وفرنسا وإيطاليا؛ أي إن هذه النتائج كانت كالعدم في إنكلترا، ومتوسطة في فرنسا، وباهرة في إيطاليا.

ويتجلى ما لتلقين بعض الوسطاء للحضور، ومنهم العلماء، من التأثير الكبير بمطالعة تقرير معهد العلوم النفسية في باريس الباحث عن الوسيطة (أوزابيا)، وإليك المثال الآتي الذي ننقله منه: «رَجَتْ الوسيطة (أوزابيا) الموسيو (دارسونڨال) أن يرفع الخوان المستدير، فرفعه بسهولة، ثم منعته من الرفع فلم يقدر على زحزحته، ثم وضعت يدها على الخوان فرفعه بدون صعوبة، ثم قالت للخوان: كن خفيفًا، فرفعه على وجه أسهل من ذي قبل.»

تثبت هذه التجربة تأثير بعض الوسطاء في الناس بواسطة التلقين، ومع ذلك سألتُ مستغربًا عن تسليم ذلك العضو في المجمع العلمي بأن أحد الناس قد يكون ذا قدرة خارقة يستطيع أن يغير بها وزن الأجسام تغييرًا متفاوتًا إلى الغاية من دون أن يخطر بباله أن يحقق الأمر بالميزان. نعم حاول معهد العلوم النفسية أن يعيد تجاربه مرة أخرى، إلا أنه أجراها في أحوال اعترف بأنها لا تنشئ طمأنينة في النفس، فمثل تلك الحادثة يقتضي تكريرها ألف مرة لا مرة واحدة.

ويحتمل أن الوهم قد استحوذ على الموسيو (دارسونڨال) عندما تصور بتأثير تلقين (أوزابيا) أنه حقق تغيير وزن الشيء الواحد كما استحوذ عليه وقتما توهم وجود أشعة (N)، فألقى عنها محاضرة حماسية قال فيها بصحة جميع حوادثها المزعومة، فالسهولة التي لُقِّن بها جميع علماء الطبيعة الفرنسويين فيما يتعلق بتلك الأشعة هي من الأدلة البارزة التي يُستدل بها على عظم شأن التلقين في تكوين المعتقدات.

(٣) تحول الأرواح الفردية إلى روح جامعة

إن مبحث تكوُّن روح الجموع هو أحد مباحث علم النفس الغامضة التي يجب الاكتفاء إزاءها بالملاحظة والمشاهدة، وما يمكننا أن نقوله في ذلك هو أن الجموع ذات وحدة في المشاعر لا في الذكاء، وما في المشاعر من الاستعداد للانتقال بالعدوى يوضح لنا السبب في كون الناس عندما يجتمعون يكتسبون ما تتصف به الجماعة من صفات وأخلاق؛ أي تتكون في الاجتماع المذكور روح جامعة على الفور، فيظهر فيه زعيم ومسوسون.

وما هو كنه تلك العدوى؟ إشعاع ذو طبيعة خاصة أم شيء آخر؟ يستحيل علينا أن نجيب عن ذلك، ويصعب علينا أيضًا أن نكتشف طريقة تجريبية تؤدي إلى حل المسألة المذكورة، فتكوين روح الجماعات وتطورها وانحلالها عبارة عن ألغاز في علم النفس، وكل ما يقوله علم النفس هو أن روح الجموع ذات تأثير جوهري في حياة الأمم.

(٤) انحلال الذات

تكلمت عن هذه الحادثة في فصل سابق، فعندي أن الذات هي ثمالة تنتقل بالإرث ملتحمة الأجزاء على قدر الإمكان، إلا أن كثيرًا من المؤثرات كالتنويم المغناطيسي، وملازمة الوسطاء، والحوادث الثورية الشديدة … إلخ، تحل تلك الثمالة فتتألف من أجزائها ذاتٌ جديدة مؤقتة، تختلف بأفكارها وأقوالها وأعمالها عن الذات الأصلية اختلافًا تامًّا، وقد طبقت هذه النظرية على بعض رجال الثورة الفرنسوية الذين لم يبدُ منهم قبل نشوبها ما يدل على ما سيقترفونه فيها من الآثام، والذين لم يدركوا كنه المحرض على ذلك بعد سكونها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤