الفصل التاسع

بهر شهاب بفتنة، وكانت تصغره بسنوات ليست كثيرة، وحين خرج من الكباريه بصحبة حماد قال له: واضح أن هذه ليست أول مرة تأتي فيها إلى هنا.

– أتيت قبل اليوم مرات قليلة.

– ولماذا لم تصحبني؟

– هل جننت؟! كنت سكرتير الوزير في حكومة مخابرات، لو عرفوا أنك تأتي إلى هنا فالله أعلم بالعواقب.

– لك حق، الأمور اليوم فيها انفراج كبير.

– هل أعجبتك السهرة؟

– أنا مصمم على المجيء إلى هنا أغلب أيام الأسبوع.

– من أجل فتنة فقط أم من أجل الجو العام؟

– فتنة أهم ما في هذا الجو العام.

– البنت هبلتك.

– أنعم وأكرم بهذا الهبل.

•••

منذ ذلك اليوم وشهاب لا يكاد ينقطع عن الذهاب إلى الكباريه والجلوس إلى فتنة سواء كان حماد معه أم لم يكن.

وعرف أن فتنة فتاة نالت قدرًا من التعليم صحبه قدر كبير من البؤس حتى التقت في بيت إحدى صديقاتهما بالراقصة الشهيرة ناهد فكري وطبعًا كانت شهرتها ناهد فقط. وكانت ناهد في سن لا تسمح لها بالبقاء على مسرح الرقص فترة كبيرة وكانت تملك الكباريه الذي تعمل به؛ فانتهزت من فتنة فرصة لا تعوض؛ فقد رأت فيها فتاة في ربق العمر تتمتع بقسط وافر من الجمال والنضارة، وكانت ظروف فتنة تجعلها ترحب بما عرضته عليها ناهد من العمل كراقصة لديها بالكباريه، وماذا سأخسر؟ لست ابنة أسرة كبيرة تحافظ على اسمها، أما شرفي فأنا قادرة على المحافظة عليه، ولكن ربما أجد في الزبائن من يتزوجني وليس هذا شيئًا بعيدًا. وهكذا قبلت فتنة ما عرضته ناهد وبدأت حياتها كراقصة ما لبثت أن نالت إعجاب من يرتادون الملهى، وحرصت فتنة أن تقوم بكل ما تقوم الراقصات به من مجالسة ومشاربة، كما حرصت في حزم عن مصاحبة أحد إلى ما يدعوها إليه.

وكان بين الرواد عادل صبري الذي كان يحمل رتبة بك قبل أن تُلغى الرتب، وكان مولعًا أشد الولع بفتنة، ولم يكن شابًّا بل كان رجلًا في الخمسين من عمره له ابنان متخرجان في الجامعة، وكان على قدر من الثراء؛ فقد كان من القليلين الذين يوردون الأحذية إلى روسيا، وقد بذل كل جهده المصحوب بعروض مالية تغري مثيلات فتنة إغراءً شديدًا، ولكنها أصرت على التمسك بعرضها رغم العروض الخيالية التي قدمها إليها عادل بك صبري، والتي كانت تعلم أن بوسعه المالي أن يجعل هذه العروض حقيقة لا شك فيها، وكان الحفاظ على شرفها هذا يزيد جنون عادل بك بها، وربما كان هذا الجنون بها هو الذي ترمي إليه فتنة؛ فمع أنها كانت في سن باكرة إلا أنها كانت حريصة ألا يكون مصيرها كمصير الراقصات اللواتي يرخصن أنفسهن حتى إذا علت بهن السن أصبحن كالخرقة الممزقة تعافهن النفوس، ويهرب منهن الأصدقاء القدامى الذين كانوا يرتمون تحت أقدامهن.

وهكذا لم يجد عادل وسيلة معها إلا أن يعرض عليها الزواج.

– أهذا معقول؟

– ولماذا لا يكون معقولًا؟

– وزوجتك وأولادك؟

– لا شأن لك بهم.

– إذن لي شرط.

– كل شروطك مقبولة.

– أن أظل في عملي.

– وما حاجتك إلى عملك وأنت ستكونين في غنًى عنه كل الغنى؟

– أنا لي اسم وشهرة والزبائن تحب رقصي، وقد تطلقني فيكون من الصعب كل الصعوبة أن أستعيد ما أتمتع به اليوم من شهرة.

– إذن موافق على أن تقبلي شرطًا لي.

– ما هو؟

– ألا أعلن زواجنا؛ فإني أخشى بهذا الزواج أن أسيء إلى ولديَّ بين زملائهما من الموظفين أو قد يعوق هذا زواجهما، وقد أصبح كلاهما موشكًا على الزواج، فأرجوك وأقبل يديك أن تقبلي هذا الرجاء ولا أسميه شرطًا.

وفكرت فتنة لحظات وقالت: ربما كان رجاؤك خيرًا؛ فما دمت سأعمل في الكباريه فالأحسن لي ألا يعرف الزبائن أني متزوجة فهم لا يحبون المتزوجات.

– إذن اتفقنا.

وتم الزواج فعلًا وكان عادل فرحًا بهذا الزواج غاية الفرح، وقد تمثلت سعادته في إغداق المال على زوجته الجديدة، أما فتنة فقد أسعدها المال ولم تلقَ كثير اهتمام إلى فارق السن بينها وبين زوجها.

وشأن رواد الكباريهات ما لبث عادل أن زهد في زوجته الثانية، وبدأ يبحث عن أخرى في الكباريه، ولم يكن الطريق وعرًا ليجد أخرى، وما يحدث في الكباريه هيهات أن يكون سرًّا على العاملين فيه.

وانفجرت فتنة في زوجها: رضينا بالهَم والهَم لا يرضى بنا.

– أما أنكِ حقًّا تربية كباريهات! أكل هذا العز الذي جعلتك تعيشين فيه هَم؟

– لا تنسَ فارق السن بيني وبينك، والعز الذي تقول عنه تعويض عن سنك، وعن كونك زوجًا لغيري، وأبًا لولدين متخرجين.

– ماذا تريدين الآن؟

– أنا قبلت أن أكون زوجة ثانية، ولكن لا يمكن أن أكون زوجة ثالثة.

– وهل أنا تزوجت؟

سيكون هناك ثالثة على كل حال سواء بالزواج أم بغيره وهذا ما لا أقبله.

– المهم ما غرضك؟

– الطلاق.

– أنت طالق.

– مع السلامة ولا تنسَ المؤخر والنفقة.

– بجملة ما صرفته عليك.

وتم الطلاق وأعطاها المؤخر والنفقة الشهرية في مبلغ واحد، وأصبحت فتنة حرة مرة أخرى، واستمر طبعًا عملها في الملهى الذي تعمل به، وفي هذا الملهى عرفت شهابًا وعرفها شهاب وجُن بها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤