الرسالة التاسعة عشرة

من جون جراهام في فرع شركة جراهام وشركاه بنيويورك إلى ابنه بييربون في يونيون ستوك ياردز بشيكاجو. وقد التقى الأب في رحلة عودته إلى الوطن بفتاةٍ أثارت اهتمامه وبدا عليها هي الأخرى اهتمامها بالسيد بييربون.

***

١٩

نيويورك، ٤ نوفمبر …١٨٩

عزيزي بييربون، من تكون هيلين هيث تلك، وما نواياك في علاقتك معها؟ إنها تعرف عنك أكثر من اللازم إن لم تكن نواياك جادة، وأنا أعرف عنها أقل من اللازم إن كانت نواياك كذلك. لم نكد نَبتعِد عن اليابسة حتى تعرَّفنا بطريقةٍ أو بأخرى، وظلَّت تُعاملني معاملة الأب طوال رحلتنا عبر الأطلسي. إنها فاتنة الجَمال، وبالِغة الأدب، ومُرهفة الحس؛ بل إنها بالضبط الفتاة التي أُحِب أن أراك تتزوَّجها لدرجةٍ تجعلني أخشى أنها ليست كذلك.

إن راتبك بالطبع ليس كبيرًا، ولكن يُمكنك أن تُؤمِّن لنفسك قدرًا كبيرًا من السعادة بخمسين دولارًا في الأسبوع حين تتزوَّج المرأة الصالحة لتكون مسئولةً عن إدارة شئون بيتك. وإن كنتُ لا أُحبِّذُ مبدأ «عُش الحب» والزواج القائم على الحُب دون النظر إلى الجوانب الأخرى، فإنَّني أرى أن «شقة الحب»، براتب خمسين دولارًا أسبوعيًّا كبداية، أمرٌ لا بأس به، إن كانت الفتاة لا بأس بها. أما إن لم تكن كذلك، فأيًّا ما كانت بدايتك معها، ستكون نهاية الأمر خاطئة.

لا يَنبغي أبدًا أن يكون المال الاعتبار «الوحيد» في الزواج، وإن كان لا بدَّ أن يكون «أحد» الاعتبارات دائمًا. فحين لا يُفكر الفتى والفتاة في المال بالقدْر الكافي قبل الزفاف، فسيَجدونه يستحوذ على كل تفكيرهم بعدَه. وحين يَقضي الرجل أمسياته في البيت في حساب المصروفات، سيكون غريبًا عليه أن يُحاول أن يضمَّ زوجته إلى صدره قليلًا.

ليس صحيحًا ما يُقال عن أن فردَين يُمكنهما أن يعيشا بأقل مما يعيش فردٌ واحد. فالزوجة الصالحة تُضاعف نفقات الرجل وتُضاعف سعادته أيضًا، وفي هذا استثمار جيد إن كان لدى الرجل مالٌ ليستثمره. لقد التقيتُ نساءً قلَّلن نفقات أزواجهنَّ إلى النصف، ولكنَّهن صادرن النصف الآخر لأنهن ضاعفن نفقاتهنَّ الشخصية. ويُمكنني أن أضيف هنا أيضًا أنني التقيتُ الكثير من الأزواج الذين اقتطعوا نصف نفقات زوجاتهم، والحديث عن هؤلاء سيدخل في أيِّ نقاشٍ يخصُّ تجارتنا؛ لأنهم خنازير. ثمة نقطة يتحوَّل فيها الاقتصاد إلى رذيلة، وهي النقطة التي يُلقي فيها الرجل عبء ممارسته على كاهل زوجته.

إن الرجل الأعزب يُشبه إلى حدٍّ بعيد قطعة الأرض غير المُستصلحة: ربما تكون قيمتها كبيرة للغاية، ولكنها لا تصلح لشيءٍ سوى استصلاحها والبناء عليها. ومشكلة الكثير من الرجال في أيامنا هذه هي أنهم «كالأرض الاصطناعية»، لو تعمقتَ في الحفر في دواخلهم قليلًا فستصطدم بطبقات من الوحل والسوائل أسفل طبقة الدولارات التي رماها آباؤهم على السطح. والطريقة الوحيدة للتعامُل مع أرض من هذا النوع هي أن تزيل الكثير من الركام من العمق حتى تصل إلى حجارة صلبة، ثم تضع حديدًا وأسمنتًا حتى تحصل على أساسٍ يُمكنك البناء عليه. غير أن الكثير من النساء سيدخلن في العلاقة دون أي ترتيبات، ثم يتعجَّبن حين تتصدَّع الجدران وتخرُّ الأسقف فوق رءوسهن.

لم تُصادفني أبدًا حالة من هذا النوع دون أن يجول جاك كارتر بخاطري، كان والده قد مات قبل حوالي عشر سنوات وترك لجاك مليون دولار، وعيَّنني وصيًّا على جاك وعلى المال حتى يصل إلى الخامسة والعشرين من العمر. لم أُحبِّذ هذه الوظيفة؛ لأن جاك كان أشبَهَ بكعكة شارلوت روس المليئة بالكريمة المخفوقة والكعك الإسفنجي وخلاصات النكهات الباهظة، دون أي حشو ذي قيمة. لم يكن به آفة من نوع خاص تُذكر، ولم يكن به مأثرة أيضًا، وأنا دائمًا ما أشعر أن هناك أملًا في إصلاح الرجل الشرير أكثر من الرجل التافه الوضيع. كان جاك يرتدي ملابس فاخرةً وستراتٍ جذَّابة، وكانت جميع الفتيات يَقُلنَ إنه فتى أحلامهن المثالي، ولكنني لم أكن أبدًا ممَّن يجدون شيئًا مُرضيًا في الأحلام.

من النادر للغاية أن أَحضر استعراضات الخيول، ولكن في الشتاء الذي تلا تَسَلُّمي لميراث جاك، وكان حينها في الثالثة والعشرين من العمر، ظلَّت والدتك تُلحُّ عليَّ بشدةٍ لكي أمتطي صهوة جوادي وأسمح لها أن تصطحبني لمقابلةٍ في رالستون ذات مساء. بالطبع كنتُ في فئة البيرشيرون، لذا فقد اكتفَيت بالمكوث في مكاني مع الكثير من جياد الجر، التي كان يَنبغي لها أن ترتاح في اصطبلاتها، وشاهدتُ الخيول في عمر الثلاث سنوات تتبخْتَر وتَرقُص حول الحلقة. كان جاك يمتطي أحدها بالطبع، ويرقص مع أصغر بنات تشرشل، ويضمُّها إليهِ بقوة رأيتُ أنها ربما تزيد قليلًا عن الحدِّ الذي يمنعها من أن تسقط. كان يُعمِل جسده كلَّه أثناء الرقص؛ فكان يُساير حتى أصغر النغمات الموسيقية كما كان يتحدَّث بحديثٍ مُطَّرد من الكلام المعسول. وطوال الوقت كان ينظر إلى تلك الفتاة بتركيزٍ وتلهُّفٍ كما ينظر كلب صيد اسكتلندي في جُحر فئران.

وتصادَف حينها أنني كنتُ أقف في ركنٍ في المكان مع امرأتَين أو ثلاثة كنَّ يُراقِبْنه بشغف؛ هنَّ إيديث كورزون، السمراء الجميلة الضخمة الجسم، التي كنتُ أعرف أن جاك يتودَّد إليها، وميبل مور الصغيرة، وهي شقراء لطيفة مُمتلئة الجسم، ولم يَستغرق الأمر الكثيرَ من الوقت لأُدرك أنهما كانتا تُتابعان جاك برغبةٍ شديدة في الانقضاض عليه انتقامًا منه. بل وبدا لي أنَّ الوغد الشاب كان شهيرًا أكثر مما هو معروف عنه.

انسحبتُ من المكان مبكرًا، ولكن في مساء اليوم التالي، وأنا أجلس في غرفة التدخين الصغيرة الخاصة بي، دخل جاك عليَّ مُندفعًا، ودون مُقدِّمات انطلق في الحديث وقال:

«أليسَت مُذهلة يا سيد جراهام!»

فسلَّمتُ بأن الآنسة كورزون مُذهلة فعلًا.

فقال في ازدراء: «الآنسة كورزون، بالطبع. إنها مُذهلة بمقاييس جمال الفتيات السُّمر المُمتلئات، ولكن الآنسة تشرشل …» وبدأ يبحث في عقله عن الصفات المناسبة.

أجبتُه: «ولكن كيف لي أن أعرف أنك تقصد الآنسة تشرشل؟ لم يَفُت أسبوعان منذ أن أخبرتني أن الآنسة كورزون فائقة الجمال والسِّحر، وأنها ستملأ عليك حياتك وتُحوِّلها إلى جنة، أو شيء من هذا القبيل. نسيتُ كلماتك بالضبط، ولكنَّها كانت تُعبر عن أفكار جميلة للغاية وجعلتك محلَّ احترامي.»

تأوَّه جاك وقال: «لا تُذكِّرني. أشعر بالغثيان كلما تذكرتُ كم كنتُ حمارًا حينها.»

فسلَّمت أنَّني أنا نفسي شعرت بشيء من الغثيان، ولكنَّني أخبرته أنه في هذه المرة على الأقل قال كلامًا به شيءٌ من المنطق؛ وأن الآنسة تشرشل فائقة الجمال وعلى قدرٍ من الثراء لا يثبت عليها أي صفةٍ أسوأ من سوءِ تقديرها للأمور على إعجابها به؛ وأن أفضل ما يفعله هو أن يكفَّ عن حماقاته، ويتقدَّم لخطبتها، ويرقُص معها كلَّ أنواع الرقصات التي يعرفها لما تبقَّى من أيام حياته.

تلجلج وتنحنح قليلًا ردًّا على كلامي، ثم أخيرًا صدر عنه الرد التالي:

«هنا يكمن الحظ العَثِر. فأنا غارق في فوضى عارمة: أريد أن أتزوَّجها؛ فهي الفتاة الوحيدة المناسبة لي في هذا العالَم والفتاة الوحيدة التي أحببتُها فعلًا وقد تقدَّمت، أعني أريد أن أتقدَّم لخطبتها، ولكنَّني مخطوبٌ سرًّا لإديث كورزون.»

فقلت له: «أظنُّ أنك ستتزوَّجها إذن؛ لأن الانطباع الذي أخذته عنها هو أنها ليست الشابة التي ستخسر مليون دولار دون أن تجعل لهذا عاقبة وخيمة.»

فتابع جاك حديثه: «وهذا ليس أسوأ ما في الأمر.»

«ليس أسوأ ما في الأمر! ماذا تقصد؟! لم تتزوَّجها سرًّا أيضًا، أليس كذلك؟»

«كلَّا لم أتزوَّجها سرًّا، ولكن هناك ميبيل مور أيضًا.»

لم أكن أعرف ما حدث، ولكني خمَّنت. فقلت له: «لم تبلغ بك الحماقة بأن تكون حمارًا ذا وجهَين لتُعشِّمها هي الأخرى بالارتباط بك؟»

«كلَّا، كلَّا؛ ولكنَّني قلتُ لها كلامًا ربما أساءت تفسيره لو كانت ممَّن يميلون إلى أخذ الكلام بمعناه الحرفي.»

فقلت له: «بالطبع هي كذلك. لم يسبق لي أن رأيتُ فتاة شقراء لطيفة وسمينة قد تعامَلَت مع عرضٍ بمليون دولار على أنه مُزحة ثقيلة. ما الذي قلتَه لها؟ هل قلتَ لها «أحبكِ يا عزيزتي» أم قلتَ لها شيئًا بهذا المعنى ولكن بعبارة مراوغة ومبهمة.»

«ليس كذلك، ليس كذلك أبدًا، ولكنها ربما حمَّلت ما قلتُه أكثر مما يحتمِله ليعني ذلك.»

حين سمعتُ ذلك هاجمتُه هجومًا شديدًا، رغم أنني رأيت أنه لم يظنَّ ذلك لباقة من جانبي. لم يخفِ أبدًا رأيه فيَّ بأنني عجوز بالِغ الفظاظة، وما ارتسم على وجهه في تلك اللحظة بيَّن لي أنني كنتُ أجرح مشاعره المرهفة.

وقال لي: «أظنُّ أنني تصرَّفتُ بطيش، ولكن عليَّ أن أقول إنني توقعتُ شيئًا مختلفًا منك، بعد أن صارحتُك بما فعلت واعترفتُ بخطئي. وبالطبع إن لم تكن مهتمًّا بمساعدتي …»

قاطعتُه. وقلت: «مِن واجبي أن أساعدك. ولكنَّني أريدك أن تُخبرني بالحقيقة. كيف استطعتَ أن تمنع كورزون تلك من أن تُعلن خطبتها لك؟»

فقال وقد ارتسمت على شفتَيه ابتسامة إحراج وخوف: «حسنًا، أخبرتُها أنك كوصيٍّ عليَّ بموجب وصيةِ والدي، تملك صلاحيات كريهة على أموالي؛ في الواقع، إن معظم تلك الأموال ستئول إلى أختي إن تزوَّجتُ بخلاف إرادتك، وأنك لا تُحبُّها، وأن عليها أن تنال إعجابك قبل أن نتمكَّن من إعلان خطبتنا.»

فهمتُ على الفور أنه قال الشيء نفسه لميبل مور، وأن هذا هو سبب الأدبِ الجمِّ الذي تعاملَتْ به الفتاتان معي في الليلة الماضية. لذا رددتُ عليه مُغاضبًا دون إبطاء.

«لقد خطبتَ الآنسة مور تلك أيضًا، أليس كذلك؟»

«أخشى أنني فعلت.»

«ولِمَ لم تتصرف كالرجال وتقول هذا الأمر منذ البداية؟»

«لم أستطع يا سيد جراهام. بطريقةٍ ما شعرتُ أن هذا سيزيد الوضع سوءًا، وأنت تتعامَل مع تلك الأمور بمنظورٍ باردٍ وخالٍ من أي تعاطف.»

"ربما أنا كذلك؛ أجل أخشى أنني كذلك. إلى أيِّ مدًى وصل التزامُك تجاه الآنسة تشرشل؟»

تهلَّلت أسارير جاك على الفور. وقال: «موقفي لا بأس به على الأقل. فهي لم تردَّ عليَّ جوابًا.»

«إذن فقد تقدَّمتَ لخطبتها؟»

«حسنًا، لقد فعلتُ؛ أو على الأقل قلتُ ما يُمكنها أن تُفسِّرَه بأنه طلبٌ للزواج. ولكنَّني لا أهتمُّ بما ستعتبره هي؛ فأنا أريد أن أرتبط بها؛ لا يُمكنني العيش بدونها؛ وهي الوحيدة …»

وجدته قد بدأ يبالغ في الحديث مرةً أخرى، فقاطعته مباشرة قبل أن يُكمل. وأخبرتُه أن يدَّخر حديثه حتى الزفاف. وأجلستُه في مكتبي، وأملَيتُه خطابَين، واحدٌ يُرسله إلى إديث كورزون والآخر إلى ميبيل مور، وجعلته يوقِّعهما ويختمهما على الفور. تلوَّى وتململ وحاول أن يتملَّص منِّي، ولكنني لم أترك له مساحةً لذلك. وجعلته يَعترف بأنه نذلٌ وخسيس وأنه ارتكب خطأً، وأن الأمر برمَّته لاغٍ، وإن كنت قد اخترتُ صياغةً مختلفة للكلام، وزخرفته بكلماتٍ مُنمقة وعبارات راقية.

كما ترى، لقد توصلتُ إلى أنَّ أحسنَ السيئِين كانت تلك الفتاة تشرشل، ولم أقترح أن يطلُب منها أن تلتزم تجاهه بأيِّ شيءٍ أيضًا حتى أتمكَّن من إزالة أنقاض المصائب الأخرى. ثم فكَّرتُ في أن أُضفي طابعًا رسميًّا على خطبتهما بأن أُعلنها بنفسي وأقف فوق رأس جاك وفي يدي بندقية لأتأكَّد من عدم تكرار تلك التفاهات. لقد كان كلاهما طائشًا وخفيفَ الوزن وخفيف الحركة، لدرجةٍ جعلتْني أظن أن كلًّا منهما قد خُلِق للآخر.

مدَّ جاك يده إلى الخطابَين بعد الانتهاء من كتابة العناوين عليهما وهمَّ بوضعهما في جيبه، ولكنَّني كنتُ قد مددتُ يدي قبلَه. أظن أنه كان قد قرَّر أن شيئًا ما قد يحدث لهما في طريقهما إلى مكتب البريد؛ ولكن شيئًا لم يحدث؛ لأنَّني استدعَيت الخادم وطلبتُ منه أن يخرج مباشرة لإرسال الخطابَين في التوِّ واللحظة.

وضعت على الخطابَين تاريخًا وعنوان منزلي، وجعلتُ جاك يمكث الليلة عندي. ذلك لأنَّني قدرتُ أن الأفضل لي استبقاءه على مقربةٍ منِّي ليوم أو اثنين. وعند الإفطار في الصباح التالي جاء وكأنه عِجل يُساق إلى الذبح، وفهمت أن أفكاره كانت مشغولة بتتبع رجل البريد الذي كان يوصل الخطابين. حاولت أن أُخفِّف عنه بأن أقرأ له مُقتطفات من جريدة الصباح عن بعض مشاكل الآخرين، ولكنه لم يبدُ مهتمًّا بها.

وأخيرًا قال وهو يُكشِّر في فنجان القهوة: «لا بدَّ أنهما قد استلمَتا الخطابَين الآن. لِمَ أرسلتُهما! كيف ستظنَّان بي الآن! ستقطعان علاقتهما بي ولن تتحدَّثا إليَّ ثانيةً أبدًا.»

دخل الخادم قبل أن أتمكَّن من إخباره أن هذا بالضبط ما نُريده منهما، وقال: «معذرةً يا سيدي، ولكن هناك سيدة تطلُب الحديث إليك عبر الهاتف.»

فقال جاك: «سيدة! أخبرها أنَّني لستُ هنا.» كانت فكرة الحديث إلى إحدى الفتاتَين حتى ولو من على مسافةٍ آمنة أمرًا مُستبعدًا بالنسبة له. شحب وجهه شحوب خنزير يقف على الثلج لمجرَّد التفكير في هذا الأمر.

فقال الخادم: «معذرةً يا سيدي، ولكنَّني أخبرتها بالفعل أنك تتناول فطورك الآن. وقالت لي إن الأمر مهم.»

بدا على جاك أن فضوله غلب فزعه. وأخيرًا تغلَّب على خوفه وقد شعر بما يدور في نفسي بأنه قد يكون من الأفضل أن نسمع ما لدَيها. شاركتُه الرأي، وذهب إلى الهاتف وصاح «مرحبًا!» بصوتٍ حاول أن يجعله عاليًا وشُجاعًا ولكنه صدر مُرتجفًا قليلًا.

عرفتُ ما جرى من الطرف الآخر من المكالمة حين انتهى منها.

قالت الفتاة كورزون بصوتٍ ناعم: «مرحبًا! أهذا أنتَ يا جاك؟»

«أجل أنا. من المتحدِّث؟»

جاءه الرد: «إديث. وصلَني خطابك، ولكنَّني لم أفهم المقصود منه. تعالَ ظهر اليوم وأخبرني ما كنت تقصده؛ فنحن ما زلنا صديقَين مُخلِصَين، أليس كذلك يا جاك؟»

تلعثم جاك وقال: «بلى … بالطبع!»

«وستأتي؟»

أجابها: «أجل» ثم أغلق الخط.

لم يَكد يستفيق من هذه الصدمة حتى دخل عليه مرسال ومعه رسالة، مكتوبة بخط امرأة.

فقال وهو يفتح الرسالة: «الآن حان دور الأخرى» ولما فضَّ خاتمها قرأ:

«عزيزي جاك: رسالتك الفظيعة لم تَقُل شيئًا مفهومًا، ولم تُفسِّر شيئًا. احضر بعد ظهر اليوم وأخبرني ما تقصده.

ميبيل.»

فقال جاك مُعقبًا: «هذا مُنعطَف جديد للأحداث» وقد بدا عليه السرور بطريقةٍ خبيثة. وسألني: «ما رأيك يا سيد جراهام؟»

«لا يُعجبني ما يحدث.»

فسألني: «تظنُّ أنهما تنويان تمزيقي.»

«كآلة النقانق؛ وإن كنتُ لا أفهم كيف يُمكنهما الحديث معك بعد ذاك الخطاب.»

«حسنًا، هل أذهب؟»

«أجل، في الواقع أرى أنك لا بدَّ أن تذهب؛ ولكن تصرَّف كرجلٍ يا جاك. أخبرهما بصراحةٍ ووضوح أنك لا تُحبُّهما إلى حدِّ أن تتزوَّج منهما؛ قل لهما إنك قابلتَ حبيبتَك القديمة قبل أيامٍ واكتشفت أنك لا زلتَ تُحبها، أو شيئًا من هذا القبيل، والزم هذه الرواية. تقبَّل منهما ما تستحقُّه. ولو نصبتا لك المشانق، تقبَّل أيَّ شيءٍ يَصدُر عنهما بصدرٍ رحبٍ مهما كان سيئًا. حينها سينتهي الأمر. كن حازمًا.»

«سأكون حازمًا كصخرةٍ صماء يا سيدي.»

طلبتُ من جاك أن يتناول الغداء معي، ولكنه حين جلس معي في الثانية ظهرًا بدا كقطٍّ يتسلَّق السلالم الخلفية إلى حيث يعرف أن هناك وجبةً من لحم عصفورٍ تنتظره؛ خائف ولكنه سعيد، لدرجةٍ دفعتني لأن أُكرر عليه ما قلته: «كن حازمًا يا جاك.»

فجاءني ردُّه قاطعًا: «حازمٌ يا سيدي.»

«ولا تلِن.»

«كالحرس القديم.» وأخذ جاك نفَسًا عميقًا حتى بدا منتفخًا كحمامةٍ على سطح مخزنٍ للغلال، وتبختر في مشيته في الشارع وهو يَبدُو بمظهرٍ رجولي من الخلف.

لم أُلاحِظ هذه التفاصيل من قبل، ولكنَّني جمعت خيوطها معًا فيما بعدُ. عند الزاوية كان هناك متجر للزهور. دخله جاك وأرسل صندوقًا من الورد مع مِرسالٍ خاصٍّ إلى الآنسة كورزون، حتى يجد شيئًا يبدأ الحديث به حين يَصل إليها. وبعد ذلك المتجر بشارعَين مرَّ بمتجر زهور آخر، دخله وأرسل بعض الزنابق إلى الآنسة مور خوفًا من أن تظنَّ أنه قد نسِيَها خلال الوقت الذي سيحتاجه قبل أن يتمكَّن من التوجُّه إلى منزلها. ثم واصل السير حتى وجد متجر أزهار ثالثًا، ومنه أرسل بعض أزهار البنفسج إلى الآنسة تشرشل ليُذكِّرها أنها قد وعدَته أن ترقص معه هو أولًا في حفل عائلة بلير في تلك الليلة. أخبرتني أمُّك أن جاك يَملك حدسًا جيدًا تجاه الأمور الصغيرة التي تحبُّها النساء، وأنه يَبذل مجهودًا كبيرًا في اختيار الأزهار التي يُرسِلها إليهن. وأنا من واقع خبرتي أرى أن المخلوق الذي يملك حدسًا بدلًا من أن يَملك إحساسًا مكانه الشجيرات وسط العصافير.

لم يعرف أحدٌ إطلاقًا ما حدث لجاك خلال الساعات الثلاث التالية. ثم أتى في حوالي الساعة الخامسة وعلى وجهِه ابتسامة زهوٍ كبيرة، ولكنها اختفَت تمامًا وكأن الزنبرك الذي يُثبتها قد انقطع حين لمحني أنتظِره في غرفة القراءة.

سألني وهو يُلقي بنفسه على كرسي: «أنت هنا؟»

فقلت له: «بالتأكيد. أردتُ أن أسمع منك كيف تعاملتَ مع الأمر. هل لي أن أعتبر أنك قد انتهَيْتَ منه؟» ولكنَّني كنت أعلم علم اليقين من هيئته أنه لم يُنهِ أيَّ شيء.

«ليس … ليس تمامًا بمعنى نهائيًّا؛ ولكنَّني بدأتُ بداية مُرضية.»

«أعدتَ الأمور إلى سيرتها الأولى على ما أظن.»

كانت عبارتي هذه قريبة إلى الحقيقة لدرجة أنَّ جاك قفَز من مكانه رغمًا عنه، ثم انطلق في السبِّ واللعن. اندهشتُ اندهاشًا شديدًا حين سمعتُ منه هذا المستوى من الحديث.

«اللعنة على ذلك يا سيدي. لن أتحمَّل المزيد من تدخُّلك اللعين في شئوني. هذان الخطابان كانا ضربًا من القسوة المشينة. إنَّني أعمل على قَطْعِ علاقاتي بالفتاتَين، ولكنَّني اخترتُ أن أفعل ذلك بطريقةٍ أكثر لطفًا، وبطريقةٍ كريمة أكثر، كما آمُل.»

«جاك، أنا لا أُصدِّق أيًّا من هذا الهراء. أنت الآن مربوط بهما أوثق وأقوى من أيِّ وقتٍ مضى.»

فهمتُ أنني أصبتُ كبد الحقيقة حين رأيتُ جاك قد بدأ يضجُّ، ولكنَّني قاطعتُه وقلت:

«ضيِّع نفسك كما شئت» وخرجتُ من المكان. أظنُّ أن جاك شعر بانزعاجٍ لمدةٍ لم تَزِد على الساعة، غير أنه تناول وجبة غداء جيدة أخرجَت كلَّ الكدَر من نفسه. فقد عرف أن الآنسة مور لا تَنوي الذهاب إلى حفل آل بلير، وأن الآنسة كورزون قد خطَّطت للذهاب للرقص برفقة أُختها في مكانٍ آخر، لذا فقد حسب أن الطريق بات خاليًا أمامه ليرقص كما يحلو له مع الآنسة تشرشل.

تفاجأت أُمُّك كثيرًا حين أخبرتُها ذاك المساء أنَّني أنا نفسي سأذهب إلى حفل آل بلير؛ ذلك لأنَّني رأيتُ أن نهاية هذه المأساة ستُرسَم هناك، ورأيتُ أن الأفضل لي أن أكون موجودًا حينها، احترامًا لصداقتي مع والد جاك، رغم أنَّني لم أرَ أملًا في أن أُقحِم شيئًا من الوعي في رأس ابنه.

كان جاك يتحدَّث مع الآنسة تشرشل حين دخلتُ إلى الغرفة، وكان منغمسًا فيما يفعل لدرجة أنه لم يَرَني وأنا أقترب منه من أحد جوانب الغرفة، ولم يرَ أختَ إديث كورزون، السيدة ديك الضخمة القوية الشابَّة، وهي تَقترب من الجانب الآخر، ولم يرَ الآنسة كورزون التي كانت تضَع إحدى ورداتِهِ في شعرها وهي تُراقِبُهُ من أحد جوانب الغرفة. لا بدَّ أن الأختَين قد عقَدَتا مجلس حربٍ عصر ذلك اليوم، وعقَدَتا العزم على تغيير خطتهما للمساء.

figure
«الآنسة كورزون التي كانت تضَع إحدى ورداته في شعرها وهي تُراقبه من أحد جوانب الغرفة.»

سبَقتْني السيدة ديك في الإمساك بجاك، ولكنَّني كنت قريبًا جدًّا منها. لم يرَها حتى ربَّتت بمروحتها على ذراعه.

وقالت بنعومة وابتسامة: «جاك يا عزيزي، جاك يا عزيزي. لقد سمعتُ للتوِّ الخبر. إديث أخبرتني، رغم أنني كنتُ أتشكَّك أن شيئًا ما سيحدث قبل وقتٍ طويل؛ يا لكَ من ولدٍ شقي مُشاغب» ثم ناولته ضربةً أخرى مازحة بمروحتها.

بدا جاك في صورةٍ تُشبه الصورة التي رأيت عليها السيدة كرلي العجوز، رئيسة منظمة فرسان الهيكل الصالحين في بلدتنا في ميزوري، في حفلةٍ حين كادت تبتلِع ملعقةً كبيرة من المثلَّجات قبل أن تكتشف أن بها نكهةً من الخمر.

غير أنه همهم بشيءٍ ما، وحثَّ الآنسة تشرشل على الابتعاد، لكن لم يلبَث أن هزَّه رجلٌ من ذراعه وقال: «مبروك يا رفيق. لقد سمعتُ الخبر للتو.»

كانت الفكرة الوحيدة المُسيطرة على جاك هي أن يَبتعد كثيرًا وسريعًا، فسحب شريكتَه إلى الطرف الآخر من الغرفة، وتبعتُهما أنا. كِدنا نقطع الغرفة كلها حين جفل جاك الذي كان يُحدق أمامه بقوة بالغة، وتجمَّد في مكانه؛ ذلك لأنه وجد في الطرف الآخر من الغرفة وعلى مسافةٍ لا تَزيد على عشرة أقدام، الآنسة مور واقفة وفي يدِها زنابقه التي أرسلَها، ووجهها مُتورِّد مُبتسِم على شيءٍ كان الشاب بليكلي يقوله لها.

أظنُّ أن جاك خمَّن هذا الشيء الذي كان بليكلي يقوله، ولكن في تلك اللحظة لمحَه بليكلي وهرول نحوه وقال:

«أُهنئك يا جاك. الآنسة مور فتاة فاتنة.»

في تلك اللحظة أفلتَت الآنسة تشرشل يدَها من ذراعه واستدارت ونظرَت إليه. كانت شفتاها تضحكان، ولكنَّ شيئًا ما في عينَيها جعل جاك يتجنَّب النظر إليها.

وقالت ضاحكة: «يا لك من محظوظ يا جاك. يا لسعادة حظك مرتَين.»

اكتفى جاك بالاستسلام وتمتمَ قائلًا: «لا بد أن خطأً فظيعًا قد حدث في مكانٍ ما. الجو حارٌّ جدًّا هنا؛ سأُحضر لك كوبًا من الماء» وانطلق مُبتعدًا. تمكَّن من تفادي الآنسة مور، وقام بحركةٍ جانبية مكَّنتْهُ من المرور بالآنسة كورزون بسلام ومنها إلى الباب. واصل طريقه؛ وتبعتُهُ أنا.

كان عليَّ الذهاب إلى نيويورك في رحلة عمل في اليوم التالي. وكان جاك قد وصَل إليها بالفعل، وحجز تذكرةً إلى أوروبا، وكان يتسكَّع على الميناء مُحاولًا استعجال وقت انطلاق الباخرة. ذهبتُ لأودِّعه، وبدا بائسًا لدرجة أنني كنتُ سأشعر بالأسف لأجلِهِ لو لم أكن شاهدتُهُ مُبتئسًا من قبل.

وسألني في تذلُّل: «أتظنُّ أن الخبر قد انتشر يا سيدي؟ ألا يُمكنك أن تمنع انتشاره بطريقةٍ أو بأخرى؟»

«أمنع انتشاره! أستطيع أن أفعل ذلك إذا كنت تستطيع أن تُصفِّر للقطار السريع وتتوقَّع منه أن يتوقَّف لأجلك.»

«سيد جراهام، كل ما هنالك أني حزين على كل ما حدث. أعرف أنني لن أصِل إلى ليفربول. سيجنُّ جنوني في طريق الرحلة وسأُلقي بنفسي من على متن الباخرة. إني لا أقوى على تَحمُّل أمرٍ كهذا.»

«يا لك من فأر بالغ الرقة! أنت أجبن من ألَّا تتحمَّل الأمر وتنتحِر. تمالك نفسك وكن رجُلًا، وليكن هذا درسًا لك. إلى اللقاء.»

سلَّم جاك على يدي بطريقةٍ شِبه ميكانيكية ونظر إليَّ وهو لا يراني؛ ذلك لأن عينَيه المُطفأتَين من الحزن قد لمَعتا وهما تتقلَّبان على ظهر السفينة حين رأتا امرأةً جنوبية جميلة اسمها فاني فيرفاكس. وحين انصرفتُ كان هو يَميل عليها بطريقتِه المعهودة، وينظر في عينَيها البُنيتَين وكأنه رأى فيهما كل ما تطيب له نفسه.

وسمعتُه يقول: «تفكيري في «وجودكِ» على متن السفينة يجعلني أسعدُ رجال الأرض حظًّا. أقسم أنني كذلك!»

نفضتُ يدي من جاك، وأعرف أن امرأةً كانت فيما مضى خليلةً مهجورة تُسيطِر عليه الآن. لا أُعوِّل كثيرًا على النساء المُطلَّقات، ولكنَّني أُقرُّ أنها أبلت بلاءً حسنًا إلى حدٍّ بعيد. ذلك لأنها روَّضت جاك لدرجة أنه بات يأكُل من يدَيها، ودرَّبتْهُ لدرجة أنه لا يسمح للغرباء بمُلاطفتِه.

تحمَّلتُ عبء ميراث جاك مرة؛ لم يكن أمامي خيارٌ آخر. غير أنَّني لا أُفضل أن أستيقظ ذات صباحٍ وأجد جاك آخَر في العائلة. لذا أدعوك أن تكتب لي وتُوضِّح الأمر من جهتك.

والدك المحب
جون جراهام

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤