الرسالة العشرون

من جون جراهام في فرع شركة جراهام وشركاه في بوسطن إلى ابنه بييربون في يونيون ستوك ياردز بشيكاجو. بعد أن أرسل السيد بييربون توضيحًا إلى والِده عن حقيقة علاقته بالفتاة، وتلقَّى مباركة مُحدَّدة.

***

٢٠

بوسطن، ١١ نوفمبر …١٨٩

عزيزي بييربون، إن كان الأمر كما قلتَ لي، فلا بأس في ذلك. ولا يُمكنك أن تستعجِل الزواج لتُرضي والدك. أنا أُفضِّل أن تكون الخطبة قصيرةً والزيجة طويلة. ولا أرى أيَّ معنًى في أن يتردَّد الرجل ما دام قد عقد عزمَه على شيءٍ ما. والوقت المناسب لتقييم قوة الطرف الآخر هي فترة ما قبل الخطبة.

بعض الرجال يتقدَّمون لخطبة الفتاة قبل أن يعرفوا ما إذا كان شعرُها بلونٍ واحدٍ في مقدمة رأسها كما في مؤخِّرته، ثم يَصيحون بأنهم عالِقون حين يَكتشفون أنها عرجاء وعمياء أيضًا. لا يُوجَد لديَّ مثقال ذرة من التعاطُف مع هؤلاء الرجال. يبدءون حياتهم على مبدأ أن المُتزوِّجين لا يَتناولون إلا وجبةً واحدة في اليوم، وهي وجبة من المحار المَقلي ومثلَّجات الفواكه بعد الخروج من المسرح. بالطبع تكون الفتاة في مزاج أفضلَ ووجهٍ مُشرق في تلك الظروف؛ ولكن الأجدر معرفته هو كيف تتعامَل مع لحم الخنزير والبيض في السابعة صباحًا، وكيف تبدو على مائدة الفطور. يجعل الفتاة تؤمِن أنه سيقضي معها كل الوقت بين الثامنة والحادية عشرة مساءً طوال ما تبقَّى من حياتها حامِلًا إيَّاها وهي التي تَزِن مائة وأربعين رطلًا من اللحم على رجله، ويقول إنها خفيفة كالريشة. والأجدر أن يعرف ما إذا كان سيستطيع الاستمرار في حمل طفلٍ وزنُه عشرة أرطال بين ذراعَيه لمدة خمس دقائق وكأنه يحمل طنًّا.

يُمكن للفتاة عادة أن تسمع حتى الهمسات التي تقول إنها أجمل النساء، ولكنَّ المُهم هو أن يتأكد الرجل أن سمعَها حادٌّ بما يَكفي لتسمع صراخَه وهو يُخبرها أنها تُسرف في الإنفاق، وأن عليها تقليص مصروفاتها. بالطبع ستجد الفتاة سعيدةً تُخرخر كما القطط إن أنت دلَّلتها وأطعمتها، ولكن لا شيء يُعادل أن تُثير حفيظتها قليلًا من آنٍ لآخر حتى ترى ما إذا كانت تنفث الحِمَم واللهيب حين تغضب.

أريد أن أُخبرك هنا أنه ما من شيءٍ يُثير الكدَر في هذا العالم أكثر من المرأة التي تُصبح مزعجةً حين تغضب إلَّا المرأة التي تُصبح هادئةً حين تغضب. فالأولى تُنفِّس عن غضبها في الأواني الفخارية، أما الثانية فتغلي ببطءٍ من الداخل وكأنها محرك قطار شحن على القضبان بجوار مكان نومك؛ فتظل دائمًا خائفًا ومُتأهبًا للقفز خوفًا من أن تنفجر في أي لحظة؛ ولكنها لا تَنفجر وتُنهي الأمر، وإنما تخرج غضبها في صورة رذاذٍ مُتقطِّع.

يُمكنك أن تلكم أخاك حين يلعب دور الضحية، ولكنك مُلزم بِحُب زوجتك. المرأة العنيفة تدفع الرجل إلى شُرب الخمر، أما المرأة النَّكِدة فتدفعه إلى حافة الجنون. إذ تأخذ أخطاء الرجل وتربطها إليه كالعلبة الصفيح المربوطة إلى ذيل كلب ضال، كلما زاد من سرعته في الركض مبتعدًا عنها زاد صخبها وضجيجها.

وأنا أكتفي بذكر هذه الأمور عَرَضًا، وبروح الواعظ الذي يُلقي موعظته في جنازة رجلٍ عاديٍّ؛ ذلك لأن العادة جرَت على إلقاء بعض الملاحظات الملائمة في تلك المناسبات. ومن واقع ما رأيته من هيلين هيث، أظن أنها لا تملك أيًّا من تلك الصفات السيئة. ذلك لأنها من وجهة نظري شابة مؤهَّلة للزواج على أكمل وجه؛ فهي جميلة، وذكية ومُرهَفة الحسِّ ولا تملك أي ثروةٍ تجعلها حمقاء وتجعلك أحمق. الحق أنك إن قرَّرتَ أن تتزوَّجَها فسيكون عليك أن تسهر لياليَ لتُصبح جديرًا بها، حتى وإن كنتَ تكسب مليون دولار وليس خمسين دولارًا في الأسبوع.

إن لديَّ إيمانًا عميقًا بقُدرات النساء داخل البيوت، ولكنَّني لا أضع ثقةً كبيرة عليهنَّ في أماكن العمل، وإن كنتُ أرى أنني مُتحيِّز ضدهنَّ في هذا الجانب، وأنهنَّ ينوين البقاء ما دُمنَ قد نزلنَ إلى أماكن العمل. لم أدخل أبدًا في عملٍ مع امرأة دون أن أتذكَّر واقعةً صغيرة حدثت في بداية زواجي من أمك. فقد أسَّسنا منزل الزوجية في أحد الأكواخ التي قرأتَ أنت عنها في كتُب الحكايات، ولكنَّك تنأى بنفسك عنها إن طُلب منك أن تعيش في واحدٍ منها. في الشرفة الأمامية للكوخ كانت هناك نباتات مُزهرة مُتسلِّقة جميلة، ولكن المطبخ لم تكن به مياه جارية؛ وكانت الساحة الأمامية تحتوي الكثير من الزهور العتيقة الطراز، ولكن القبو مُمتلئٌ بالجرذان؛ كانت المساحة الفارغة خلف الكوخ من الخارج تصل إلى نصف فدان، أما المساحة داخله فكانت شحيحة لدرجة أنني كنتُ أضطرُّ إلى الجلوس وقدماي تتدلَّى من النافذة. كان الكوخ مكانًا مناسبًا للذهاب لنزهة، ولكنَّني من واقع خِبرتي أقول إن الرجل يُنهي معظم نزهاته قبل أن يتزوَّج.

كانت أُمك تطهو، وكنتُ أنا أجاهد للحصول على أشياء لنطهوها، رغم أنني كنتُ أجرب حظي في الطبخ من آنٍ لآخر وأُحرِّك عضلاتي في تقليب شرائح الكعك. كانت الحياة صعبة بالطبع، ولكنَّنا تمكَّنا بطريقةٍ أو بأخرى من الفوز بقدْرٍ كبير من الرضا عنها؛ لأننا كنَّا قد قرَّرنا أن نصطحب معنا مرَحَنا وسعادتنا أينما حلَلنا. وبالنسبة إلى معظم الناس، كانت السعادة أمرًا يُمكن تأخيره ليومٍ أو لبعض الوقت. أما أنا فقد وضعتُ قاعدة لنفسي بألَّا أُؤجِّل شعوري بالسعادة إلى الغد. لا تَقبل أبدًا كمبيالات تَصرف بها سعادتك؛ لأنك ستجد أنها كلَّما حان موعد تحصيلها، لا تُسدَّد أبدًا، وإنما تُجدَّد لثلاثين يومًا أخرى.

كنتُ موظفًا في متجرٍ عام، ولكنَّني كنتُ أضعُفُ قليلًا أمام الماشية، حتى في ذلك الحين؛ ورغم أني لم أكن أملك الإمكانيات المادية التي تُمكِّنني من الدخول بكل قُوَّتي في هذا المجال، فقد تمكَّنتُ من شراء خِنَّوصٍ واعد فكرت في تربيتِهِ خلال الصيف وحساب مصاريف تربيته لتقديمها للمالك في الخريف. كان مجرَّد خنزير حين أدخلناه إلى بيتنا ووضعناه في زريبةٍ صغيرة، ولكنَّنا لم نلبث أن أدركنا أنه لم يكن مُجرَّد خنزيرٍ عادي ينخر وينبش عن الطعام. وتفاجأتُ حين عرفتُ أن أُمَّك كانت تُناديه باسم توبي، وأنها فكَّت رباطه. وكان يُجيبها حين تُناديه باسمِه وكأنه كلب أليف. لم يسبق لي أبدًا أن رأيتُ خنزيرًا اجتماعيًّا مثله. كان يرغب دائمًا أن يجلس في الشرفة الأمامية معنا، ويُحاول الدخول إلى المنزل في المساء. واعتاد أن يركض في الشارع فرحًا عند رؤيتي وأنا عائد من العمل.

كنَّا قد اقتربنا من شهر نوفمبر، وكان توبي يستغلُّ الفرص الموجودة أمامه أحسنَ استغلال. لم يَسبق أن رأيتُ خنزيرًا يُحوِّل الذرة إلى دهون بهذه السرعة، وكلما زاد اكتنازًا، حسنت فرصُه المستقبلية أيضًا. أظنُّ أنني أنا نفسي كنتُ أُحبه، من طرفٍ خفي، ولكنَّني كنتُ مُحبًّا للحم الخنزير أيضًا، وقد كنَّا في حاجةٍ إلى توبي في المطبخ. لذا فقد أرسلتُ في طلب جزار وطلبت ذبحه.

حين عدتُ على الغداء في اليوم التالي، لاحظتُ أن أُمَّك واجمة للغاية وهي تضع لحم الخنزير أمامي، ولكنَّني شردتُ بذهني وأنا أُشرِّحه، ولا بد أنني كنتُ شاردًا تمامًا حين قلت لها:

«تُريدين قطعةً من توبي يا عزيزتي؟»

حينها نظرت إليَّ للحظةٍ ثم انفجرت في البكاء وهرولت مُغادرةً طاولة الطعام. ولكنَّني حين لحقتُ بها وسألتها ما الخطب، توقفَت عن البكاء وسرعان ما دخلت في حالة غضبٍ عارم. ونعتَتني بأنني آكِلُ لحومٍ عديمُ القلب وقاسٍ. وبدا أن هذا خفَّف عنها قليلًا، فعادت إلى البكاء ثانية. وتوسَّلَت إليَّ أن أُخرج توبي من محلول التخليل وأن أدفنه في الحديقة. حاولتُ أن أُعيدها إلى صوابها، ولكنَّني في النهاية أقنعتُها أن أي جنازة لتوبي، في ظلِّ وصول أسعار لحم الخنزير إلى ثمانية سنتات للرطل، ستكون مُكلِّفةً للغاية بالنسبة إلينا. ولكنها في نهاية المطاف نجحت في أن تضيع شهيتي لدرجة أنني لم أَعُد أشتهي لحم خنزير ساخنًا على الغداء، ولا لحم خنزير باردًا على العشاء. وفي تلك الليلة أخذتُ ما تبقَّى من توبي إلى صاحب متجر في كروسينج، كنتُ أعرف أنه سيَقدر على التحديق في لحم الخنزير دون أن يجهش بالبكاء، وبعتُه بثمن معقول.

وأنا أذكر توبي هنا عَرَضًا، كمثالٍ على سبب إيماني بأن النساء لم يُخلقنَ للعمل؛ على الأقل لم يُخلقنَ للعمل في تجارة لحم الخنزير. وقد تعاملتُ مع عددٍ لا بأس به منهن، ووجدت في النهاية أنهنَّ حين يكنَّ في موقفٍ ضعيف، يُدخلنَ جنسهنَّ في المعادلة ويَفُزنَ في النهاية، وحين يكنَّ في موقف قوة، يُخرجنَ جنسهنَّ من المعادلة ويتعاملنَ معك معاملةً أشدَّ من معاملة الرجال. ومن ثمَّ فإن الفوز من نصيبهنَّ في كلتا الحالتَين، وأنا لا أُحب أن أدخل لعبةً لا يُسمح لي بالفوز فيها. حين يقع موظفٌ لديَّ في خطأ غبي، فإنني لا أريد أن أستسمحه قبل أن ألفتَ نظرَه، ولا أريد أن يحمرَّ وجهه خجلًا ويرتعد ويذرف الدمع في منديل جيب أنيق حين أفعل ذلك.

قليل من التغيير مُريحٌ للغاية، وأنا أُكنُّ بالِغ المحبة لأساليب النساء في البيت لدرجة تمنعني من أن ألتفت إليها في العمل. فبدلًا من أن أُعيِّن نساءً، أحاول تعيين أزواجهن، وحينها عادةً ما يكون الرجل وزوجته في خدمتي. ولا شيء يُشجِّع الرجل في عمله مثل وجود امرأةٍ في المنزل.

والرجل المُتزوِّج يستحقُّ راتبًا أكثر من الرجل غير المتزوِّج، لأن زوجته تجعله جديرًا بالزيادة. ذلك لأنه يميل إلى النوم مبكرًا والاستيقاظ مبكرًا أكثر من الأعزب، وأن يذهب إلى العمل بوتيرةٍ أثبتَ، وأن يجِدَّ في عمله أكثر من الرجل الذي يتسلَّى بفتاةٍ مُختلفة كل ليلة، ولا يُمكنه أن يبقى في المنزل ليفعل ذلك. لذا فإنني سأزيد راتبك إلى خمسة وسبعين دولارًا في الأسبوع حين تتزوَّج هيلين، ولهذا السبب سأتوقَّف عن كتابة رسائلي إليك؛ فقط سأُسلِّمك لها وأتركها تُقيم شئون حياتك. وأراهن أنها ستفعل ذلك أفضل مما فعلتُ أنا.

والدك المحب
جون جراهام

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤