الرسالة الخامسة

من جون جراهام رئيس شركة جراهام وشركاه في يونيون ستوك ياردز بشيكاجو إلى ابنه بييربون جراهام عند بحيرة موسجاتشيماوا في غابات ماين. وقد أرسل السيد بييربون إلى والده ليتراجَعَ عن اقتراحه السابق.

***

٥

٧ يوليو …١٨٩

عزيزي بييربون، إنَّ الرسالة التي بعثتها إليَّ في الرابع من الشهر الحالي كان لها إيقاع أعجبَني، ورغم عدد كلماتها فإنها تقول أكثر من أيِّ رسالةٍ أخرى تلقيتُها منك. أذكر أنَّني قرأت ذات مرة أن بعض الرجال يستخدمون اللغة ليُخفوا تفكيرهم؛ ولكنَّني بتُّ أعرف من واقع خبرتي أن العديد منهم يستخدمونها بدلًا من التفكير.

يجب أن تخضع محادثات أي رجل أعمال لِقواعد أقلَّ وأبسط مما يحكم مُحادثات أيَّ وظيفةٍ أخرى. وتلك القواعد هي كما يلي:

أن يكون لديه ما يقوله.

أن يقوله.

أن يتوقَّف عن الكلام بعدها.

ذلك لأنك إن بدأتَ الكلام قبل أن تَعرف ما تُريد قوله، وإن واصلت الحديث بعد أن تُنهي ما يجب عليك قوله؛ سيَنتهي بك الحال في قاعات المحاكم أو في مآوي المُعوزين؛ والأولى ليست إلا طريقًا مختصرًا للثانية. ولهذا السبب أقمتُ في الشركة قسمًا قانونيًّا يُكلفني الكثير من المال، ولكن مهمَّته الوحيدة هي أن يُبعدني عن الوقوع تحت طائلة القانون.

لا بأس وأنت تُواعد فتاة أو تتحدَّث مع الأصدقاء بعد الغداء أن تختار موضوعًا للحديث من قبيل مواضيع نُزهة مدرسة الأحد، مع التوقُّف لقطف الأزهار؛ ولكن وأنت في العمل يجب أن تكون جُمَلك قصيرة قدْر الإمكان. اختصر المقدمات والديباجات، وتأنَّ بعدَ أولًا قبل أن تَنتقِل إلى ثانيًا. فالموعظة القصيرة هي ما يُجدي مع المُذنبين؛ وحتى الواعظون أنفسهم لا يُحبون المواعظ الطويلة. اجعل الكلمة الأولى للحمقى والكلمة الأخيرة للنساء. ذلك لأن اللَّحم دائمًا ما يكون في منتصف الشطيرة. وبالطبع، قليل من الزبد على كِلا جانبي اللحم لن تضير إذا كانت الشطيرة لشخصٍ يُحب الزبد.

وتذكَّر أيضًا أن الظهور بمظهر الحكيم أسهل من التحدُّث بالحكمة. وأنت تتحدَّث إلى شخصٍ آخر، استمع أكثر مما تتكلَّم؛ ذلك لأن الرجل المُصغي لا يكشف عن أسراره، وفي نفس الوقت هو يُطري على مُحدِّثه.

لا يحتاج مُعظم الرجال إلا إلى مستمعٍ جيد حتى يَبوحوا بكل ما لديهم؛ ولا تحتاج معظم النساء إلَّا إلى أوراقٍ كبيرة بما يكفي ليُدوِّنَّ فيها كلَّ ما يُردنَ قوله. للمال أيضًا لغته، ولكنَّ حديثه لا يكون مُسيئًا إلا إن كان لصاحبه لسان مُنفلت. وللفقر أيضًا حديثه، ولكنَّ أحدًا لا يُحبُّ الإصغاء إليه أبدًا.

وأنا أذكر هذه الأمور هنا عَرَضًا؛ لأنني أخشى أنك تميل إلى أن تكون المُتكلم دائمًا؛ كما أنَّني أخشى قليلًا من أنك تُشبه رجل المبيعات الجائع حين يدخل مطعمًا يُتيح أكل أيِّ شيءٍ بدولار في اليوم؛ فستميل إلى سدِّ شهيتك بأكل الكعكة المُخصَّصة للتحلية حتى قبل أن تأتيَك المُقبِّلات.

يسعدني بالطبع أن أراك قد عدتَ إلى رُشدك وبتَّ تتعامل بالرُّوح المناسبة مع مسألة العودة إلى هنا والبدء في العمل؛ ولكن عليك ألا تُبالغ في الحماس قبل أن تأخُذ الخطوة الحاسمة وتبدأ العمل فعلًا؛ ذلك لأنك بطبيعة الحال ستشعر بالصدمة عند بداية العمل كما تَشعُر ببرودة الماء أول نزوله. لقد رأيت الكثير من الشباب الصالح يمرُّون على هذا العمل. في أول أسبوع يأتُون إلى العمل والخوف يملؤهم من أن يُفصَلوا من العمل؛ وفي الأسبوع الثاني والخوف يَملؤهم من ألا يُفصَلوا من العمل. وبمجرَّد أن يصل الواحد منهم إلى الأسبوع الثالث يَعرف الحد الأدنى من العمل الذي عليه أن يُؤدِّيَه حتى لا يُفصل من وظيفته؛ في حين أنَّ العاقل يتمسَّك بمكانه في وظيفته الحالية بيدٍ، ويبدأ البحث عن الوظيفة التالية باليد الأخرى. ولا أقصد بذلك أنه يُهمِل في عمله؛ وإنما أقصد أنه بدأ يُلاحظ ما يجري حوله، وتلك علامة مُبشِّرة لدى الموظف الشاب والأرملة الشابَّة على حدٍّ سواء.

عليك أن تُعامل سنواتك الأولى في العمل كما تعامل خيلًا خبابًا. هيِّئ نفسك قليلًا قبل البدء في الوظيفة؛ ليس بالحد الذي يستنزفه، وإنما بالحد الذي يَكفي ليستعد ويتحمس. ولا تبدأ بوتيرةٍ لا يمكنك أن تسرع عنها، وإنما تقدَّم بقوةٍ وثبات حتى تقطع رُبع المسافة. هنا زد جهدك قليلًا، ولكن احتفظ بقدْرٍ من الهدوء يسمح لك أن تصل إلى نصف المسافة دون فتور، وكن على قدرٍ من الجَلَد يكفي لئلَّا تعود وسط المُلاحقين. وحين تقطع ثلاثة أرباع المسافة ينبغي أن تكون سرعتك كافية لأن تشقَّ غبار من هم مُتقدِّمون عنك، وأن تنطلِق كما يَنطلق القطار السريع على القضبان الحديدية. ثبِّت ناظرَيك إلى هدفك طوال الوقت، حتى لا تَشغلك العوارض الصغيرة التي تظهر على جانبَي المضمار. امشِ برأسٍ مرفوع وقامةٍ مُنتصبة، هكذا يَظهر الفائزون في الصور القديمة لسباقات الخيل. وتلك هي الهيئة التي أُريدك أن تدخُل بها على أبيك في نهاية العام، حين نَنشر أسماء الموظفين الذين أبلَوا بلاءً حسنًا بما يكفي لترقيتِهم ونختار قائمة الرواتب التي تحتاج إلى زيادة.

لقد آمنتُ دائمًا بفكرة أن «نسَب» الإنسان سيُحدِّد ما إذا كان ميثوديًّا، أو أن «الوراثة» ستُحدد ما إذا كان توحيديًّا؛ ولا أُريدك أن تأتي بعد كل هذا العمر وتَقضي على معتقداتي الدينية. في هذا العالم الذي نعيش فيه، ثمَّة تشابُك كبير بين حبِّ المرء لأولاده وإحساسه بكرامته؛ تَشابكٌ يعجز معه عن أن يفصل بين الأمرَين. إنني أُكثِر التفكير فيك، وفي الشركة، وأريد أن أراكما تسيران معًا بتناغُمٍ ولا أجد نفسي في موقف مُتعارض بينكما. ولِيَحدث ذلك، عليك أن تبدأ بدايةً صحيحة. ذلك لأن ترك انطباعٍ أول جيدٍ أمرٌ ضروري في التجارة تمامًا كما هو مُهمٌّ عند التقدُّم لخطبة امرأة. وستقرأ الكثير عن «الحب من النظرة الأولى» في الروايات، وأرى أن هذه المسألة قد يكون فيها شيءٌ من الوجاهة، ولكنني أؤكد لك أن التجارة ليس فيها ما يُشبه الحب من النظرة الأولى. إذ إنَّ الرجل عليه أن يصحب عمله زمنًا طويلًا، وأن يَحضُر مبكرًا ويَنصرف متأخرًا ويكون دائمًا بالقرب منه، قبل أن يحصل على وظيفةٍ مناسبة أو امرأة مناسبة. لا شيء يأتيك في هذا العالم دون أن تسعى في طلبه، وبعد أن تَطلبه، سيكون عليك بشكل عامٍّ أن تمدَّ يدك إليه لتأخذه.

وقد اكتشَفَ شبابنا النبيه كيف يصنع مُنتجًا مميزًا من الدجاج المُعلَّب، ولا يحتاجون أيَّ مساعدة من الدجاجات لذلك؛ وبوسعكَ أن تشمَّ رائحة نبات النَّفَل في زبدتنا الصناعية إن كنتَ اكتسبتَ الجانب الشاعري من حاسَّة الشم؛ ولكن أحدًا من الشباب لم يكتشف أي شيءٍ يمكن أن يُغني عن العمل، حتى في نُزُلٍ، وإن كنت لا أنكر المحاولات الجهيدة التي قاموا بها في سبيل ذلك.

ما زلتُ أذكر حين كنتُ أبيع بعض البضائع لحساب جوش جينينجز العجوز، في الستينيات، ونجحت في ادِّخار حوالي ألف دولار في أحد البنوك — ألف دولار كسبتُها بشق الأنفس واحدًا تلو الآخر، وكل واحدٍ منها عليه علامة صغيرة مكان أسناني حيث عضضتُ عليه — كنتُ حينها أسكن مع موظف في متجر للملابس الجاهزة اسمه تشارلي تشيس. كان تشارلي يتوق إلى أن يُصبح ثريًّا؛ غير أنه، بصورةٍ أو بأخرى، لم يكن يرى أيَّ رابط بين هذا التوق وبين طريقة إنفاقه للمال، باستِثناء أنه كان يُلمح لي أحيانًا عن فتاةٍ ورثت ثروةً طائلة من والدها واعتادَت أن تُبدِّدها بشكلٍ مُخزٍ ليُرافقها تشارلي. ولكن حين نتحدَّث عن تحقيق الثراء بعيدًا عن تجارة الملابس الجاهزة، وتحقيق الثراء السريع، فتشارلي هو أفضل مثال على ذلك.

فبحلول مساء الثلاثاء من كل أسبوع، وكان تشارلي يَقبض راتبه يوم السبت، كان يجلس في المنزل ويبدأ التخطيط. كان يبدأ في الثامنة مساءً وربما يُؤسِّس مجلة، وقبل حلول منتصف الليل كان يرفض المُشتركين لأن مطابعه لم تتمكَّن من طباعة نسخٍ كافية من العدد. أو ربما لم ينزل عليه الإلهام الأدبي في تلك الليلة، وبعد ذلك كان يخترع منظومةً للمضاربة بالقمح، ويستمر في تكديس مُشترياته حتى يجني مبلغًا من المال يُمكِّنه من أن يشتريَ هرم خوفو كما يشتري المرء كوبًا من المثلجات ثمنه خمس سنتات. لم يكن يحتاج إلَّا إلى مئات قليلة كرأس مالٍ للبداية، ولكي يُحقق ذلك، قرَّر إشراكي في الأمر من بدايته. وهنا أودُّ أن أقول إنه أينما قرَّر شخصٌ إشراكك في أيِّ أمر من بدايته، فالآمَن لك أن تَصعد أنت بنفسك إلى نهايته. لم أرفض إقراض تشارلي رأس المال اللازم له رفضًا صريحًا، ولكنَّ التسوية التي وصلنا إليها صبيحة اليوم التالي، حين كان مُتعجلًا للذهاب إلى عمله حتى لا يُفصَل، كانت نصف دولار.

figure
«أخبرني تشارلي تشيس أنه يرأس شركة كلوندايك إكسبلورينج لاستكشاف الذهب والهجرة.»

مرَّ عليَّ في مكتبي الأسبوع الماضي، وكان جسمُه هزيلًا وهيئته رثَّة، ولكنه احتفظ بالحماس المُتَّقد الذي كان يُبديه في الأيام الخوالي. أَخبَرَني أنه يرأس شركة كلوندايك إكسبلورينج لاستكشاف الذهب والهجرة، وهي شركة يُقدَّر رأس مالها بعشرة ملايين. خمَّنت أنه بالطبع العضو الوحيد في مجلس إدارة الشركة المذكورة، وأنه هو أيضًا صاحب أسهم رأس المال، وهو المُستكشِف والمهاجر؛ خمَّنت في واقع الأمر أنه كل شيء في تلك الشركة، إلا أن يكون كما تقول بطاقة الأعمال التي أرسلها إليَّ؛ ذلك لأنَّ تشارلي كان دائمًا موهوبًا في العثور على أصحاب المطابع الذين يُمكنهم الوثوق به. وأخبرني أنه، إكرامًا لعشرتنا القديمة، سيَسمح لي بامتلاك بضعة آلاف من الأسهم بخمسين سنتًا للسهم، وأنَّني سأتمكَّن من أن أكسبَ مقدار ما دفعتُ في ظرف عامٍ واحد. انتهى بنا الحديث إلى حلٍّ وسط؛ وهو أن أُعطيه قرضًا مقداره عشرة دولارات، وخرج تشارلي من عندي سعيدًا.

إن المُستنقعات من حولك مليئةٌ بالتماسيح ذات الحراشيف المدبَّبة على شاكلة تشارلي، الأشخاص الذين يُفضلون كسب مليون دولار في الليلة في خيالهم على أن يَكسبوا خمسة دولارات في اليوم نقدًا. وقد وجدت إقراض الرجال من هذه العيِّنة القليل من المال أوفر لي دائمًا من تعيينهم في شركتي. والحق أنني لم أعرف أبدًا رجلًا يملك من الذكاء ما يَكفي ليُدبر للشركة أمورها نهارًا ويُدبر أمور نفسه ليلًا. ومَن يُحاول أن يفعل ذلك عادةً ما يكون ضعيف العقل، ويكون قليل النفع لنفسه وللشركة؛ وإن اضطرَّ إلى الاختيار، فإنه لا يختار ما يكون في صالح الشركة أبدًا.

وأنا أكتفي بذكر هذه الأمور بشكلٍ عامٍّ هنا. وإن أصغيتَ إلى ما أقوله بشأن بعضها، فستُوفِّر على نفسك الكثير من المتاعب. وثمَّة أمور أخرى لا أتحدَّث عنها؛ لأنَّ الحياة أقصر من ذلك، ولأن الواحد منَّا يحب أن يضغط الزناد بنفسه ليَعرف ما إذا كان مسدَّسه عامرًا بالذخيرة أم لا؛ والدرس الذي يتعلَّمه من فوَّهة المسدَّس لا ينساه أبدًا.

احضُر في الثامنة بالضبط صباحًا في الخامس عشر من الشهر الجاري وقدِّم نفسك إلى ميليجان في الشركة. وربما الأفضل لك أن تَحضُر إلى هنا يوم الرابع عشر؛ ذلك لأن ميليجان رجل آيرلندي حادُّ الطباع، وقد أجد وقتًا لأُخبرك بنقطة أو اثنتَين عليك ملاحظتهما لتتجنَّب إثارة أعصابه. كما أنه يشعر بشيءٍ من الضيق حين يَقبل في قسمه رجلًا لم يُعيِّنه بنفسه.

والدك المحب
جون جراهام

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤