الرسالة السابعة

من جون جراهام، في فرع شركة جراهام وشركاه في أوماها، إلى بييربون جراهام في يونيون ستوك ياردز، بشيكاجو. بعد أن عبَّر السيد بييربون أن الأساليب التي يَتبعها السيد الجليل ميليجان لا تروقُه، وأطلق العنان لِلِسانه أكثر من اللازم في التعبير عن رأيه.

***

٧

أوماها، ١ سبتمبر …١٨٩

عزيزي بييربون، لم يُعجبني كل ما قرأته في رسالتك التي أرسلتها في الثلاثين من الشهر الماضي. لا أُحب أن أسمعك تقول إنك لن تعمل تحت قيادة السيد ميليجان أو أي رجلٍ غيره؛ لأنَّ ذلك يكشف عن ضعف جوهري في شخصيتك. كما أنَّ الشركة غير مهتمَّة برأيك في مديرك، وإنما برأيه هو فيك.

أنا أعرف ميليجان جيدًا. إنه عجوز آيرلندي غَضوب حادُّ الطباع والمزاج، يقسو على موظَّفِيه في العمل ستة أيام، ويجلس في اليوم السابع يُخطِّط للطريقة التي يُمكنه أن يزيد لهم بها رواتبهم، وينشغل بذلك عن الإنصات لموعظة الأحد؛ ولا يتردَّد في تقريع المُوظف الذي يبعث رسالة إلى مدينة أوشكوش بدلًا من إرسالها إلى مدينة كالامازو، ثم يتوسَّل شفاعةً له كي لا يُفصَل من عمله حين يُقرِّر والدُك فصلَه. وهو في المُجمَل عجوزٌ قاسٍ مُتبرِّمٌ، وسخي وطيب القلب ومُتنمِّر ووفيَّ، ويعمل في الشركة منذ أن فتحَت أبوابها أول مرة، وسيظلُّ فيها إلى أن تُغلِق أبوابها آخِر مرة.

وبعيدًا عن هذا كله، عليك أن تفهم أنك ستُقابل طوال حياتك رئيسًا مثل ميليجان، وإن لم يكن ميليجان فسيكون جونز أو سميث؛ والحق أنك ستَجد التعامُل مع أيٍّ منهم أصعب من التعامُل مع هذا العجوز. وإن لم تُقابل ميليجان أو جون أو سميث، وإن لم تكن أنت أصلًا تعمل في تجارة اللحوم، وإنما تعمل كاهنًا أو حتى رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية، فسيكون قِمص أو حتى الحكومة التي تُحاسبك. لا يُوجد في الحياة شيء اسمه أن تكون رئيس نفسك، إلَّا إن كنت مُشرَّدًا أو مُتسوِّلًا، وحينها سيكون عليك أن تتعامَل مع الشرطة.

حاول أن تُحبَّ ميليجان العجوز إن استطعت، ولكن لا تمنحه سببًا كي لا يُحبك. وحافظ على احترامك لنفسك بأيِّ ثمن، وعلى رَباطة جأشك في جميع الظروف. لا يُمكن للمرء أن ينتقد غيره إلَّا إنْ كان أعلى منه درجة أو منصبًا، وفي اللحظة التي تَكتشف فيها أن رئيسك غير كفؤ، عليك أن تطمئن أن مَن يدفع له راتبَه كل شهرٍ يَعرف ذلك أيضًا. وتعلم أن تَجود بقدرٍ إضافي من طاقتك ومجهودك لتُساعد رؤساءك في إنجاز العمل المطلوب، وستجد أنهم مُقابل ذلك يفسحون لك المجال لتتقدَّم. إن للرؤساء قدرة ضعيفة على تحمُّل الأخطاء، والاعتذار عند الخطأ لا يعني بالنسبة لهم علاجًا ناجعًا. وتذكَّر أنك حين تكون مُحقًّا، فلديك ما يسمح لك بأن تحافظ على رباطة جأشك؛ وحين تكون مُخطئًا فلا يُمكنك أن تُغامر بألا تحافظ عليها.

حين تكون لديك بقرة جفولة، فلا بأس بأن تربط عُقدة في ذيلها إن لم تكن عطشانًا وكانت غايتك الوحيدة منها هي الإثارة والتسلية؛ أما إن كنتَ تسعى إلى راحة البال وإلى الفوز بحليب البقرة، فإنك بطبيعة الحال ستَقترب منها من الجانب لا من الخلف، وستُحدثها برفق وبنفس النغمة التي تستخدمها حين تطلُب من فتاتك المفضلة أن تسمح لك بأن تُمسِك يدَها.

وسيكون عليك بطبيعة الحال أن تطَّلع على تاريخ الأبقار الطبيعي وتتعلَّم أن تُميِّز بين البقرة التي ترفس ولكنها تُحجم عن ذلك حين يتمُّ التعامُل معها بالاحترام اللازم، وبين البقرة الشرسة بطبيعتها وترفس على أي حالٍ أيًّا ما كانت الطريقة التي يتمُّ التعامُل معها بها. لا فائدة تُرجى من إثارة غيظ حيوان من النوع الثاني، سواءٌ كان هذا الحيوان بهيمةً أم إنسانًا. والحل الأسلم لك هو أن تقف على الجانب الآخر من السور أو تتسلَّق أقرب شجرة لك.

حين كنتُ موظَّفًا في ولاية ميزوري، انتقل رجل اسمه جيف هانكينز إلى الولاية قادمًا من ولاية ويسكونسن واشترى قطعة أرضٍ صغيرة على تخوم البلدة. كان جيف كثير الحديث قليل الاستماع؛ لذا فقد عرفنا منه الكثير عن طريقة سير الأمور في ويسكونسن، ولكنه لم يستوعِب منَّا كثيرًا من المعلومات عن طبائع الحيوانات في ميزوري. وفيما يتعلَّق بالأبقار، كان قد حصل على تعليمٍ حُرٍّ وكانت أموره تسير بشكلٍ لا بأس به، ولكن بمرور الوقت، وصلنا إلى وقت الحرث، واشترى جيف بغلةً ضئيلةً مزعجة، لها عينان حزينتان حالِمتان وأُذنان مُتهدِّلتان مُتموِّجتان تتحرَّكان بشكلٍ دائري بسهولة وكأنهما مُثبَّتتان على محمل كريَّات. لم يُحسِن صاحب البغلة الأول تأديبها، ولكن جيف كان منشغلًا بإخبارنا عن مدى اتِّساع معرفته بالجياد لدرجة أنه لم يُولِ انتباهًا كافيًا لما كان الجميع يقوله عن البغال. لذا تمكَّن صاحب البغلة من بيعها له، وأخبره أنه لن يُواجِهَ أي مُشكلة في الإمساك بها إن اقترَب منها على النحو الصحيح، وهرول بالخروج من الحظيرة.

وعند شروق شمس اليوم التالي، أحضر جيف لجامًا ليُمسك البغلة ويبدأ الحرث، وبدأ يُصفر بألحان أغنية «بافلو جالز» — وكانت لدَيه موهبة التصفير قوية للغاية لدرجة أنه كان يستطيع التغلب على «الطائر المُحاكي» مع وجود تفاوتات. كانت البغلة ترعى بسلامٍ وكأنها جزءٌ من لوحة مرسومة بألوانٍ مائية، ولم تتزحزح من مكانها؛ ولكن حين بدأ جيف يقترب، انتصبَت أُذناها على رقبتها وكأنَّ أحدًا قد صبَّ فيهما الرصاص. كان يعرف ما يَعنيه هذا الأمر لدى الحيوانات، لذا أخذ يَقترب بشيءٍ من الحرص، بحثًا عن الزوايا السليمة وناداها بقرقرة وقال: «بغلتي يا بغلتي، تعالَي إلى هنا يا بغلتي؛ يا لكِ من بغلة طيبة»، وكأنه يَسعى لتهدئتها ومُلاطفتها. مع ذلك لم تتحرَّك من مكانها، ومدَّ جيف يدَه إليها ووضع ذراعه على ظهرها وبدأ يتقدَّم باللجام، وهنا وقَع ما وقع. لم يَستطع أبدًا تفسير ما حدث بالضبط، ولكنَّنا فهمنا من العلامات الموجودة على جسمه أن البَغلة تقدَّمت ورفسته بإحدى قدمَيها الخلفيتَين؛ ثم تراجعت لتُمسك آخِر زرٍّ في صدريته بإحدى قدمَيها الأماميتَين اللدِنتَين؛ وقد لوَت رقبتها المرنة وقضمت جزءًا من شعره. حين استعاد جيف وعيَه، خمَّن أن الطريقة السليمة الوحيدة للاقتراب من أيِّ بغلةٍ هي الهبوط عليها من منطاد.

وإني لأذكر هذه الواقعة عَرَضًا كمثالٍ على أن بعض الحيوانات لم تُخلَق ليُمازحها الإنسان. وستجد أن القاعدة العامة هي أن الفئات البشرية من شاكلة هذه الحيوانات ليسوا ممَّن يقسون عليك حين تُخطئ كما يفعل ميليجان. وإنما ستجدهم وسط الرجال اللطفاء الذي يتحلَّون بقدْرٍ من اللطف أكثر مما يُسمَح لأيِّ حيوان يسير على قدمَين أن يَملِكه، حينها عليك أن تتوخَّى الحذر مما يُخفونه من أسلحة قاتلة.

ولا أقصد هنا أن عليك تخوين أي رجلٍ ليِّنِ الجانب، وإنما عليك أن تتعلَّم كيف تُميز بينه وبين الرجل الذي يتحلَّى بهذه الصفات بقدرٍ أكثر من اللازم. وعبارة «أكثر من اللازم» هنا هي ما يُحدِّد الفرق بين الرجل الصالح والرجل السيِّئ. إن المُخادعين ليسوا بكُثُرٍ في الأرجاء، ولا يَتبعون جميعًا نفس الأسلوب في التضليل والخداع. وحين يتعلَّم المُشتغِل في تصنيع اللحوم كلَّ ما يلزم تعلُّمه عن ذوات القوائم الأربع، فإنه لم يتعلَّم حينها سوى ثُمن ما يَلزم تعلُّمه عن تجارتِه وعمله، وتتعلَّق الأثمان السبعة المُهمَّة الأخرى بتأمُّل من يَمشُون على قدمَين.

وأنا أسهب في الحديث عن هذه النقطة لأنَّني أشعُر بقليل من خيبة الأمل في أنك وقعتَ في خطأ كهذا عند تقييمك لميليجان. إنه ليس أذكى رجلٍ في الشركة، ولكنه يَدين لي وللشركة بالولاء، وحين تقضي في التجارة عُمرًا كالذي قضيتُه أنا فيها، ستجد في نفسك ميلًا إلى إعطاء قيمةٍ كبيرة للولاء. فالولاء هو البضاعة التي ليس لها أيُّ قيمة سوقية، وهو أيضًا البضاعة الوحيدة التي تستحقُّ أن يُبذَل لها الغالي والنفيس. يُمكنك أن تأتمن أي عددٍ من الرجال على أموالك، وقلة فقط هم من يُمكنك أن تأتمِنهم على سُمعتك. ونصف من يكونون في صفِّ الشركة يوم قبض رواتبهم، يَقفون ضدَّها في سائر الأيام الستَّة الأخرى.

يحضر إليَّ كثير من الشباب بحثًا عن عمل، ويَبدءون بالشكوى من وضاعة الشركة التي كانوا يعملون فيها؛ ومدى الانزعاج الذي يشعرون به عند التعامُل مع أحد الشركاء فيها؛ وضحالة تفكيره وتواضُع ذكائه. لا أضيع الكثير من وقتي مع مخلوقات من هذه الفئة؛ لأنني أعرف أنهم لن يُحبُّوني ولن يُحبُّوا شركتي إن عملوا فيها.

figure
يحضر إليَّ كثير من الشباب بحثًا عن عمل، ويَبدءون بالشكوى من وضاعة الشركة التي كانوا يعملون فيها.

لا أعرف شيئًا أجدر بأي رجل أعمالٍ شابٍّ أن يحتفظ به لنفسه أكثر من آرائه السلبية فيمَن لا يُعجبه أمرهم، إلا لو كانت آراؤه تلك إيجابية. إن الاحتفاظ بأيٍّ منهما في نفسك له كُلفة غالية، غير أن التعبير عنها إفلاس. لا بأس أن تَكتفيَ بذِكر محاسن الموتى، والأفضل من ذلك هو أن تكتفي بذكر محاسن الأحياء أيضًا، خصوصًا إن كان الأحياء هم أصحاب الشركة الذين يَدفعون لك راتبك.

وأخيرًا، أودُّ أن أذكر شيئًا قبل أن أُنهي حديثي، كما اعتاد هوفر العجوز أن يقول لنا وهو في خِضمِّ موعظته، وقبل أن يصل إلى منح البركة. لقد لاحظتُ أنك تميل إلى أن تتحرَّك في المكتب بشيءٍ من الخُيَلاء والتكلُّف. لا بأس بالنسبة لأصحاب الأدمغة الفارغة أن يَسيروا بخيلاء ويَلفتُوا الانتباه إليهم. ولكن حين تبدأ في مقابلة الرجال الذين فعلوا شيئًا يجعلهم جديرين بأن تُنفِق وقتك في لقائهم، ستجد أنهم لا يضعون حولهم حواجز، تُشبه اللافتات التحذيرية من قبيل «لا تَسِر على الحشائش» أو «احترس من الكلاب»، وأنهم لا يُشيرون إلى الأوركسترا لكي تعزف لهم موسيقى تصويرية بطيئة أثناء حديثهم.

إن التميُّز يدفع كل رجلٍ لأن يشعر بمن هم مثله. إنه الملاطفة دون التملُّق؛ ولِين الجانب دون رفع الحدود؛ والاكتفاء الذاتي دون الأنانية؛ والبساطة دون زيف. وهو إعطاء الزبون البضاعة بوزنها الصافي دون حساب وزن العبوة، ولا يحتاج إلى زخرفة وبهرجة لينجح.

سنُغادر المكان هنا ونعود إلى شيكاجو. أشعر بقليلٍ من خيبة الأمل مما يفعله هذا الفرع لشركتنا. وعند المقارنة سنجد أنه لا يُخرِج من الخنازير الموجودة فيه بقدْر ما يُخرِج مقرُّنا في شيكاجو. لا أستطيع أن أُحدِّد بالضبط أين يكمن الخطأ، ولكنهم إن لم يُحسِّنوا أداءهم الشهر القادم، فسأعود إليهم ببندقية وسأُوقِع الكثير من القتلى وسط رجال الصف الأول هنا.

والدك المحب
جون جراهام

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤