مقدمة
في هذه المقدمة القصيرة جدًّا، أعرضُ بعضَ الأفكار الأساسية لقراءتي الأولى لهذه الأزمة الشديدة، وما استجابت به أمريكا من تشريعات لا تزال مؤثِّرة حتى يومنا هذا؛ فالعالم الذي انهار في عام ١٩٢٩ انهار لأسباب قد تنبَّأ بها سَلَفًا المراقبون الثاقِبُو النظر. إن الفشل اللاحق وشبه الكامل في إصلاح الضررِ إنما نجم عن أخطاء واضحة في الحكم والقرارات، ومن ثَمَّ كان بالإمكان التخفيف من البؤسِ الذي ألَمَّ طويلًا بملايين البشر. وقد حقَّقَ روزفلت ونوَّابُ الكونجرس من الديمقراطيين في عهد الصفقة الجديدة نجاحًا تاريخيًّا باهرًا بتصحيحهم لتلك الأخطاء. لكنهم أيضًا ارتكبوا هم أنفسهم أخطاءً، وأنا لا أقلِّل من شأنهم بقولي هذا. وفي انتخابات عام ١٩٣٦، طلب أغلب الناخبين الأمريكيين من قادتهم المضِيَّ في تجاربهم، وطَرْح الأخطاء جانبًا، بدلًا من العودة إلى الطرق القديمة التي يَرَونها سيئةَ السمعة كلها. وأصبحَتْ روحُ التجريب البراجماتي هذه هي الأساسَ الذي قام عليه إيمانُ جيلٍ بالأسلوب الأمريكي الجديد، ليس في الولايات المتحدة فحسب، بل في مختلف أصقاع العالم.
والآن، إنْ كان يساوِرُكَ شكٌّ في أن الموضوع على هذه الدرجة من البساطة، وإنْ كنتَ تصرُّ على أن هذه الجُمَل البسيطة في حاجةٍ إلى تقييدات وتفصيل، فعليَّ أن أقرَّ بالحقيقة؛ بعيدًا عن الحدود التي يفرضها عليَّ هذا الكتابُ الموجَزُ، فإنني أُكنُّ الكثيرَ من الاحترام لما تتسم به هذه الحقبةُ من تعقُّد وما أثمرَتْ عنه الأبحاثُ التي تتناولها. وانطلاقًا من أنك ستواصِل القراءةَ بدافع رغبةٍ أكيدةٍ في الإلمام بهذه الحقبة، ينتهي الكتاب بتوصياتٍ لقراءاتٍ إضافيةٍ إنْ أردْتَ الاستزادة. أما متن الكتاب فيلتزم بهذه الحجج الأبسط على أساس أنها تقوم مقام مقدمةٍ مفيدةٍ للموضوع.
بدأ الكساد الكبير في أواخر عشرينيات القرن العشرين، ولم يتزامَنْ بالضرورة مع «الانهيار الكبير» في عام ١٩٢٩، ولكنه حدث في وقت قريب منه، وأصاب عالَمًا تربط أواصرَه أنواعٌ معيَّنة من الديون: ديون داخلية وديون خارجية. ويُلقِي الفصلُ الأول الضوءَ على هذا العالَم، وعلى الموقع الفريد الذي احتلَتْه أمريكا فيه، شارحًا كيف اختلف هذا العالَم عن عالَم ما قبل الحرب العالمية الأولى، وموضِّحًا مواطِنَ الضعف في النظام كما أبرزها النقَّاد المعاصِرون؛ وتتمثَّل في أن شبكة الديون التي ربطَتْ أواصرَ هذا العالَم بدَتْ هشَّةً في تحليل أدق مراقبِيه.
ويناقش الفصلُ الثاني ردودَ الأفعال المتخَذَة إزاءَ الأزمة؛ بدءًا من نظام الاحتياطي الفيدرالي، الذي يقوم مقام البنك المركزي في الولايات المتحدة، وانتهاء بدور الرئيس هربرت هوفر والأغلبية الجمهورية في الكونجرس. وعلى عكس الاتهامات التي كالَهَا الديمقراطيون للجمهوريين، لم يقف الجمهوريون مكتوفي الأيدي، ولكن المبادئ التي ارتكَزَ عليها هوفر منعَتْه من أن يبذل الجهد الكافي، وتفاقَمَتِ الأزمة بدرجةٍ مروعةٍ في فترة رئاسته.
يوضِّحُ الفصلُ الثالث أن جسامةَ الكساد الكبير تعود إلى تأثيره الواسع النطاق؛ فقد أصاب كافةَ قطاعات الاقتصاد الأمريكي وجزءًا كبيرًا من اقتصاد العالم. وربما الأكثر أهميةً أنه شجَّعَ المموِّلين والناخبين الأمريكيين من أبناء الطبقة الوسطى على أن يعدوا أنفسهم من أفراد الفئة الكبيرة ذات الحظِّ العاثر، لا من القلة المحظوظة.
يغطِّي الفصل الرابع، بعنوان «إنعاش الاقتصاد والغوث»، ما أقْدَمَتْ عليه الصفقةُ الجديدة للعمل على استقرار بنوك أمريكا وعُمْلتها وائتمانها ودَعْمها، والجهد المستمر المبذول من أجل توفير الغوث الفوري للملايين التي عانَتْ من آثار الكساد مع عدم المساس بالتقاليد والمؤسسات الأمريكية. كان سيتسنَّى لهذه الجهود وحدها — إن جرى السعي وراءها بقوةٍ — أن تُنهِي الكساد، لكن كان لدى أصحاب الصفقة الجديدة طموحاتٌ أكبر.
يشرح الفصل الخامس، بعنوان «إدارة الزراعة والصناعة»، محاولاتِ الصفقةِ الجديدة إعادةَ خلق الاقتصاد الموجه الذي شهدَتْه أمريكا في الحرب العالمية الأولى في زمن السِّلْم خلال أزمة ثلاثينيات القرن العشرين. كانت هذه الجهود محل أخذٍ وردٍّ في ذلك الوقت، وبالنظر إليها اليوم تبدو مفتقِرةً بشدة إلى النصح الرشيد، ولكنها ضاربة بجذورها في السياسة الأمريكية، وساعدت إخفاقاتها على تحويل الصفقة الجديدة إلى الآلية المتوازِنة التي أصبحَتْ عليها.
يستعرض الفصل السادس، بعنوان «قوة مكافئة»، السُّبُلَ التي حاوَلَ من خلالها أصحابُ الصفقة الجديدة إعادةَ توزيع النفوذ في الاقتصاد الأمريكي. لم يلجئوا إلى إعادة التوزيع الحكومي للثروة من خلال سياسة فرض الضرائب ودفعات الرعاية الاجتماعية، بل استخدموا القانونَ لتشجيع جماعات أصحاب المصالح والأفراد المشاركين على التصرُّف بمعزلٍ عن أرباب عملهم.
يتناوَل الفصل الختامي بالكتاب كيف أن الناخبين الأمريكيين جدَّدوا ثقتهم في روزفلت، تلك الثقة التي تجسَّدَتْ في النصر الساحق الذي حقَّقَه في عام ١٩٣٦، ويشرح أسبابَ تباطُؤِ الصفقةِ الجديدة تدريجيًّا حتى توقَّفَتْ — مع ما سبق — في غضون بضع سنوات تَلَتْ ذلك النصرَ. كان للمحكمة العليا دورها في ذلك، وكان لطموح روزفلت الذي تخطَّى الإمكانات دوره أيضًا، ولا نغفل كذلك الدورَ الذي لعبَتْه نتائجُ أولى تجاربهم في تغيير عقول بعض أصحاب الصفقة الجديدة. وختامًا، يبرز الكتاب كيف أن الحربَ التي كانت تلوح في الأفق، واستجابةَ أوروبا وأمريكا لها، جعلَتِ الصفقةَ الجديدة تتخلَّى عن حذرها المالي وحرصها التجريبي.
واجَهَتِ الصفقةُ الجديدة — باعتبارها برنامجًا لإصلاح الاقتصاد السياسي الأمريكي والعالمي — قَدَرًا غامضًا؛ حيث غامت ملامحها مع الدخول في الحرب. بدأت الصفقة الجديدة في صورة مجموعة حلول أمريكية خالصة لمشكلةٍ ذات أهميةٍ عالميةٍ، واستمرت على هذا المنوال في الأساس، مع أن اتفاقية التجارة الأنجلو-أمريكية في عام ١٩٣٨ كان الهدفُ منها رسمَ نهجٍ دوليٍّ لإحياء الاقتصاد العالمي. وفي حين أن النظام الذي سادَ بعد الحربِ — الذي ساعَدَ روزفلت في آخِر سنواته في إقامته من أجل العالَم — يدين بالكثير إلى طُرُقِ الصفقة الجديدة المتمثِّلة في التجريب البراجماتي ونقل السلطة بعيدًا عن متناوَلِ الولايات، فإنه بسبب نشوب الحرب قبل أن تتجلَّى بوضوحٍ دروسُ الصفقة الجديدة، لم يستطع المراقبون فضَّ الاشتباك بسهولة بين الحدثين العظيمين. إن الوضوح الأخلاقي في أربعينيات القرن العشرين أضفَى غموضًا على الخيارات الصعبة والنجاحات الجزئية والمساوَمَات السياسية التي جَرَتْ في ثلاثينيات القرن نفسه.
وفي خاتمة الكتاب أُلقِي بالضوء على تأثير الصفقة الجديدة على عالَم ما بعد الحرب، من خلال نظام بريتون وودز الذي تمثل في مجموعة من الاتفاقيات الدولية الهادفة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، والذي ظلَّ قائمًا حتى السبعينيات من القرن العشرين، ولم تبدأ الولايات المتحدة حتى تلك الفترةِ التراجُعَ عن صفقتها الجديدة داخليًّا وخارجيًّا. وحتى بعد تعاقُب عدة عقود قادَ السياسيون إبَّانها محاولةَ إحياء أفكار ما قبل عام ١٩٢٩، زاعمين مرارًا وتكرارًا أن الحكومة تمثِّل مشكلةً للاقتصادات الحديثة، وليسَتْ حلًّا لها، فإن الالتزام الأساسي للصفقة الجديدة بتحمُّل المسئولية المشتركة عن الأمن الاقتصادي وتشكُّكها في الاعتماد الكامل على المصرفيين والسماسرة التنفيذيين بالشركات، لم يَمُتْ تمامًا.
وسيجد القارئ بين صفحات هذا الكتاب أن هذه التفسيرات لم يكن منبعُها إلمامًا بسيطًا بأحداث الماضي من وجهة نظر بحثية فحسب، ولكنها أيضًا مستقاة من تقييمات ذكية أجراها مراقبون معاصرون. وفي الوقت الذي كان فيه الأمريكيون ينعمون بمزية وجود فرانكلين روزفلت ذي القدرات الرئاسية الفذة في وقتي السِّلم والحرب، كان بينهم جيلٌ جدير بالاهتمام من العلماء الاجتماعيين وغيرهم من المحللين السياسيين. ويعتمد الكتاب كثيرًا على هؤلاء العلماء بقدر اعتماده على العلماء الذين خلفوهم واستقَوا من رؤاهم. واتباعًا لنصيحة أحد أذكى هؤلاء العلماء، نبدأ الكتاب بوصفٍ للعالَم الذي كان يعرج حتى توقَّفَ تمامًا عن الحركة في الحرب العالمية الأولى ١٩١٤–١٩١٨.