الفصل الخامس

إدارة الزراعة والصناعة

اشتملت الجهودُ الأولى لبرنامج الصفقة الجديدة لإعادة صياغة قواعد الاقتصاد السياسي في الولايات المتحدة على وكالتين رئيسيتين للعمل على تحقيق المركزية في تخطيط الإنتاج الأمريكي، وارتبطت هاتان الوكالتان بالطموحات التي تعود إلى الحرب العالمية الأولى أكثر من ارتباطهما باستجابات للأزمة الحالية. وفشلَتِ الركائزُ الأساسية لكلتا الوكالتين سياسيًّا، ولكن مع فشلهما، تركتا خلفهما بصيصًا من النور يرشد إلى سياسية مختلفة للحفاظ على الرأسمالية الأمريكية.

إذا كانت الأموال الأمريكية والسياسة المصرفية الأمريكية قد وضعَتَا الولايات المتحدة على طريق الانتعاش خلال العام الأول من إدارة روزفلت، فإن ذلك لم يحقِّق الكثيرَ للإسهام في استقرار اقتصاد العالم. في واقع الأمر، مع نجاح السياسة المالية الأمريكية في استقدام الذهب إلى الولايات المتحدة، شعرَتِ البلادُ الأخرى بالضغوط مع تراجُعِ احتياطاتها النقدية. وقد أوضَحَ روزفلت بجلاءٍ في عامه الأول أنه ليس بإمكانه أن يفكر في صالح البلدان الأخرى ما دام الموقفُ الأمريكي على هذه الدرجة من الخطورة. وفي صيف عام ١٩٣٣، أحبَطَ روزفلت مؤتمرَ لندن الاقتصادي الدولي بإرساله الرسالة التي تقول إن «النظام الاقتصادي الداخلي السليم لأمةٍ من الأمم، مؤشِّر أكبر على رفاهيتها» من أي شيء آخَر يمكن أن يقرِّره المؤتمر.1 فيتعيَّن على كلِّ شعبٍ من شعوبِ بقيةِ العالم أن يجد سبيلَه الخاص للخروج من الأزمة.

تركَتْ بعضُ البلاد قاعدةَ الذهب وبدأَتْ تتحسَّس طريقها نحو الازدهار، وكان ذلك في بعض الأحيان عن طريق إقامة علاقات تجارية حصرية في إطار إمبراطورياتها الاستعمارية القديمة. ضرب انخفاضُ السلع المزارعين بقسوةٍ في كل مكان، ولم يكن لدى كثيرٍ من الدول المستعمَرَة سوى القليل من الوظائف الرئيسية إلى جانب الزراعة، ووجدَتِ المستعمراتُ نفسَها، مثل ذي قبل، تحت رحمة قادتها الإمبرياليين. وسَعَتْ دول أمريكا اللاتينية إلى إجراء اتفاقيات تجارية ثنائية لضمان عمليات الشراء؛ حيث قدَّمَتِ البرازيلُ القهوةَ مقابل الماكينات الألمانية، وباعَتِ الأرجنتينُ لحومَ الأبقار إلى بريطانيا.

ومع استمرار الأزمة، حظيتِ الأحزابُ السياسية بالدعم من خلال اقتراح أنظمة جديدة تمامًا للتنظيم الاجتماعي؛ فاكتسبَتِ الحركتان الفاشية والشيوعية زخمًا لأنهما وعدَتَا بأشكالٍ متنوعةٍ من اشتراكية الدولة من شأنها أن تسيطر على الاقتصادات القومية وتستعيد الاستقرار. وظهرَتِ الحركاتُ المناهِضة للإمبريالية لتَعِدَ المزارعين الذين يعيشون في ظروفٍ صعبةٍ بالاستقلال في العالم المستعمَر.2 بحث الناس في جميع الدول التي ضربها الكسادُ عن مجتمعٍ محصَّنٍ ضدَّ العِلَل التي واجَهوها، أو قُلْ في كل الدول تقريبًا؛ ففي حين عانَتِ الولايات المتحدة من بعض الضغوط — وأحيانًا ما رأى مَن عانَوا من تلك الضغوطِ أنفسَهم في وضعٍ مُشابِه لأقرانهم في الدول الأخرى — بَدَتْ حركاتها الراديكالية أكثرَ تقليديةً عن كونها جديدة. فعلى سبيل المثال، صرَّحَ أحد مُناصِري الزراعة بأن «الزراعة الأمريكية تحتلُّ بالنسبة للصناعة الأمريكية المركزَ الثانويَّ نفسَه الذي احتلَّتْه المستعمراتُ بالنسبة لإنجلترا منذ قرن وربع مضى.»3 ولكن على النقيض من أبناء عمومتهم المستعمرين الخاضعين اقتصاديًّا مثلهم، تمتَّعَ المزارعون الأمريكيون بتمثيلٍ في السلطة التشريعية يفوق في الواقع ما تستحقه أرقامهم وحدها. ونتيجة لذلك، رغم أن الصفقة الجديدة تضمَّنَتِ التجاربَ الأمريكية فيما يتعلَّق بالتخطيط الاقتصادي، لم تُعْنَ الأساليبُ المتبنَّاة كثيرًا بالاستجابات الراديكالية للأزمة الحالية، ولكنها عنيتْ كثيرًا بالتاريخ الطويل لمآسي الزراعة في أمريكا.

وقبل حلول الوقت الذي ضرب فيه الكسادُ الكبير الولايات المتحدة، كانت البلادُ قد شهدت بالفعل سبعين عامًا من الحراك شبه المتواصِل من أجل اتخاذِ إجراءٍ فيدراليٍّ لصالح المزارعين. وقد شجَّعَتِ التشريعاتُ التي صدرت في عصر الحرب الأهلية — لا سيما قانون الملكية العائلية، وقانون باسيفيك ريلرود، وقانون موريل للأراضي الممنوحة — الأمريكيين على التوجُّه إلى الغرب اعتقادًا منهم أنهم سيجدون هناك الأرضَ التي يمكن أن يستقروا عليها ويعملوا بالزراعة المعتمدة على الأسرة الواحدة. وعملت إعادة الإعمار التي تلَتِ الحربَ على تشجيع انعقاد آمالٍ مشابهةٍ، وإن كانَ لفترة قصيرة، على إنشاء مزارع تعتمد على الأسرة الواحدة هناك، إلا أن المزارعين البسطاء في أمريكا سرعان ما أصابهم الأسفُ الشديد، لما عانَوه من اجتماع المشكلات عليهم، والتي تمثَّلَتْ في الجفاف والديون وغزو الحشرات وضمِّ أراضي المزارع إلى حيازات أقل عددًا وأكبر حجمًا.

وكما يشهد تاريخ الولايات المتحدة: «المزارعون دائمًا تعساء.»4 ربما تمثِّل كلمة «دائمًا» مبالغةً طفيفةً في المسألة، ولكن حتى إن كان ذلك صحيحًا، فقد تآمَرت مجموعة مختلفة من العوامل لإبقاء المزارعين تحت ضغوط في فترة بداية القرن العشرين بأكملها تقريبًا، وجعلَتِ التقنياتُ الباهظةُ والمبتكرةُ الزراعةَ أبعد عن كونها عملًا أُسَرِيًّا، وأقرب إلى كونها شأنًا صناعيًّا، مع تفوُّق الجدارة المالية والكفاءة على الكدِّ والإقدام لتُصبِح بمنزلة الفضائل الأساسية في الزراعة. ووضع مدُّ شبكات المواصلات عبر العالم المزارعين في موضعِ منافَسةٍ أكثر وضوحًا مع السوق الدولية، ورغم مواجهة المزارعين لقدر أكبر من المنافسة الخارجية، فقد رأوا أن سياسة التعريفة الأمريكية تحمي بني وطنهم في مجال التصنيع من الضغوط نفسها. لفترة طويلة من تلك الحقبة، آثَرَ الكونجرسُ استخدامَ الضرائب على الواردات لمنع المصانع الأجنبية من بيع بضائعها في السوق الأمريكية، ورأى المزارعون أن المصنِّعين الأمريكيين، باحتمائهم خلف درع التعريفة، أمكنهم تخفيض الإنتاج ورفع الأسعار دون الخوف من أن يبيع المنافِسون الدوليُّون سلعهم بأسعارٍ أقل من أسعارهم. وفي الوقت نفسه، توافَدَ الأمريكيون على المدن، واضعين بذلك الحياةَ في الحضر وشواغلها في قلب جدل وطني؛ مما عمل على تراجُع الزراعة إلى الهامش.
ورغم تراجع أهمية الزراعة اقتصاديًّا وثقافيًّا، احتفَظَ المزارعون بتأثيرٍ كبيرٍ جدًّا على السياسات الوطنية. ولأن مجلس الشيوخ بالولايات المتحدة يخصِّص المشرِّعين للولايات، وليس للسكان، فإن نسبة تمثيل الولايات الكثيفةِ الزراعةِ المنخفضةِ السكانِ بالدولة تكون أكبر. ونتيجة لذلك، احتفَظَ المزارعون بتأثير عظيم في السياسات الوطنية، بالرغم من أن هذا التأثير أخذ في التضاؤل وأن المزارعين أصبحوا أقل عددًا. ونتيجة لفشل الكونجرس في تبنِّي خطة إعادة تقسيم الضواحي بعد تعداد عام ١٩٢٠ — أول تعدادٍ أظهَرَ أن عدد الأمريكيين الذين يعيشون بالمدن يفوق عدد مَن يعيشون في المزارع — تمتَّعَ الأمريكيون الريفيون بتمثيلٍ في مجلس النوَّاب أفضل ممَّا تبرِّره أعدادهم.5
وامتدادًا إلى عشرينيات القرن العشرين، زادت الحرب العالمية الأولى من حدة تعاسة المزارعين الأمريكيين المزمنة. إبَّان الحرب، كانت الولايات المتحدة تشحن اللحم والحبوب إلى حلفائها، وقيَّدت استهلاكها في الداخل في أيامٍ تخلو من القمح واللحم، ولما حُرِمَ الأمريكيون من نظامهم الغذائي التقليدي، تعلَّموا أن يتناولوا المزيدَ والمزيدَ من الفواكه والخُضَر الأقصر في مدة صلاحيتها، والتي اكتشفوا أنها أبقتهم أكثر صحةً. كما أدَّتِ الموافقةُ على قوانين حظر تصنيع المشروبات الكحولية وبيعها إلى خفض استهلاك الحبوب، وهكذا انخفض الطلب على ركائز المزرعة الأمريكية.6
وفي الوقت نفسه، زاد المزارعون من حصادهم؛ ففي الوقت الذي شنَّتْ فيه القوى الأوروبية الحربَ، سارَعَ الأمريكيون لإطعامهم بتحويل الحقول لزراعة الحبوب، تلك الحقول التي ربما أصبحَتْ لولا ذلك أرضًا بورًا أو مراعيَ. وعندما وضعت الحرب أوزارها، توقَّفَ هذا الطلب غير التقليدي، ولكن واصَلَ المزارعون الأمريكيون عمومًا مستويات إنتاجيتهم الجديدة على أمل أن يعود الازدهار.7 ومع انخفاض الطلب وزيادة المعروض، انخفضَتْ أسعار سلع المزارعين. ربما ارتفعت مرة أخرى إذا ترَكَ عددٌ كافٍ من الناس الزراعةَ سعيًا إلى أعمال أخرى، وحوَّلوا أراضيهم إلى استخدامات أخرى، ولكن رغب كثير من المزارعين الأمريكيين في أن يظلوا مزارعين، فهم لم يريدوا سوى أن يحصلوا على أجور أفضل؛ لذا تجمَّعوا معًا من أجل تكوين جماعة ضغط لاستصدار تشريعٍ يُعِيد إليهم المساواةَ مع بني جلدتهم في المدن. لقد أرادوا أن يمكثوا في المزارع، ولكن أرادوا أيضًا أن ينعموا بعيش مريح مثل العاملين بالمكاتب والمصانع، وازدادَتْ إشارتهم إلى الحقبة التي سبقت الحربَ العالمية الأولى بأنها كانت عهدَهم الذهبي، عندما كانت السلعُ الزراعية تجلِب لهم ما كانوا يرونه سعرًا عادلًا.
رأى المزارعون أنه للعودة إلى هذا العهد من المساواة سيكون عليهم ترتيب نشاطهم الاقتصادي بالقدر الذي قام به المصنِّعون، الأمر الذي كان يعني التحكُّمَ في الأسعار عن طريق تحديد الإنتاج. وقد قال هنري إيه والاس، الذي شغل منصب وزير الزراعة في عهد فرانكلين روزفلت، في عام ١٩٢٢: «لا يوجد ما يضير في تخفيض المزارعين إنتاجهم عندما تهوي الأسعار لأقل من تكلفة الإنتاج، مثلما هي الحال بالنسبة للشركة الأمريكية للصلب.»8 بالنسبة لوالاس ومعاونيه، مثَّلَتِ الشركةُ الأمريكية للصلب كافةَ المؤسسات الصناعية التي تمتَّعَتْ بميزات لم يتمتَّع بها المزارعون؛ فقد حمت التعريفة المصنِّعين من المنافسة الأجنبية، وأتاح حجمُ عملياتها ونطاقها لمكتبٍ مركزي اتخاذَ قرارات أثَّرَتْ على السوق المحلية بأسرها. وكان الهدف من توفير ميزات مشابهة للزراعة هو — قبل كل شيء، وكما ذكر أحد المؤيدين لذلك — «تمتُّع المُزارِع بمزايا التعريفة».9 إلا أن منع الواردات باستخدام تعريفة جمركية لن يفيد في شيء، حيث إن المزارعين الأمريكيين كانوا ينتجون بالفعل بمعدلٍ يفوق قدرةَ السوق المحلية على الاستهلاك؛ لذا كان المزارعون في حاجة إلى طرق أخرى للحصول على ميزات مشابِهة لتلك التي تتمتَّع بها الصناعة. علاوة على ذلك، لم يَسَعِ المزارعون سوى الأسف على الكفاءة المركزية التي تتمتَّع بها مكاتب المؤسسات الكبرى؛ فمنتِجو المَزارِع كانوا كثيرين جدًّا ومتفرِّقين جدًّا بدرجة تعيقهم عن اتخاذ القرارات بشأن تنسيق النشاط.
في بدايات عشرينيات القرن العشرين، رسم مناصِرو الزراعة خطةً لتخطِّي تلك العقبات، ولما كان جورج بيك، رئيس شركة مولاين بلاو في ولاية إلينوي، إلى جانب هيو إس جونسون، شريكه في العمل، مدركَيْنِ حقيقة أنه «لا يمكنك أن تبيع محراثًا لمُزارِع مُفلِس»، ابتكَرَا فكرةً أيَّدَتْها كتلةُ الزراعيِّين في الكونجرس؛ فقد عمل كلٌّ من بيك وجونسون مع مجلس الصناعات الحربية، وهي الوكالة الحكومية التي نظَّمت الإنتاج الأمريكي إبَّان الحرب العالمية الأولى، وارتأيَا أن خبرتهما في إدارة الاقتصاد، التي تكاد تكون مُنفصِلة تمامًا عن السوق العالمية، ستناسب بلدهم الآن، واعتقَدَا أن التعريفة الجمركية لا بد أن تحظر واردات السلع الزراعية، كما رأَيَا أنه لا بد من وجود مؤسسةٍ حكوميةٍ تشتري أيَّ فائضٍ من المحاصيل وتسعى إلى تصديره إلى الخارج، وستعمل اتحادات التسويق التي يقيمها المزارعون على تنسيق الإنتاج المحلي. أصبحت خطة بيك الأساسَ لمشروعات قوانين ماكناري-هاوجين التي وافَقَ عليها الكونجرس في أواخر عشرينيات القرن العشرين، واعترض عليها الرئيس كالفين كوليدج على خلفية أنها تتعارض بشدةٍ مع السوق الحرة، وسترفع من الأسعار على المستهلكين في الحضر. سعى هربرت هوفر إبَّان فترة رئاسته إلى تبني حلٍّ وسطٍ؛ فحتى قبل الانهيار، دعم تأسيس الكونجرس في عام ١٩٢٩ لمجلس الزراعة الفيدرالي المخوَّل إليه إقراض المال للمزارعين وتخزين المحاصيل الفائضة، وتشجيع العمل التعاوني في الزراعة الأمريكية في الوقت نفسه. هذه السياسة مثلها مثل سياسات هوفر الأخرى، اتَّضَحَ أنها لا ترقى لمستوى الكساد.10
تولَّى مناصِرون آخَرون للزراعة مزيدًا من الترويج لفكرة ماكناري-هاوجين، مُرتَئِين أن سُبُلَ الحماية على غرار التعريفات الجمركية لن تكون مجديةً بالقدر الكافي؛ إذ كان على المزارعين أيضًا تخفيض إنتاجهم. ووضع دابليو جيه سبيلمان، وهو خبير اقتصادي يعمل لحساب وزارة الزراعة، خطةً من أجل «التخصيص المحلي»؛ فعندما تستعرض الحكومة الاستهلاك المحلي من القمح (على سبيل المثال)، ستحدِّد حجم السوق المحلية للسلعة وتخصِّص لكلِّ ولايةٍ ومزرعةٍ نصيبًا مناسبًا من هذه السوق؛ فالمزارعون الذين ينتجون نصيبهم المخصَّص سيحصلون على قيمةٍ سوقيةٍ إضافةً إلى مكافأةٍ على محصولهم، ولن يحصلوا إلا على قيمة سوقية مقابل أي إنتاج إضافي.11 وأيَّد ميلبورن إل ويلسون، أستاذ اقتصاديات الزراعة في مونتانا ستيت كوليدج، التخصيص المحلي بقوة، مُعزِّزًا الفكرة الأصلية ومشجِّعًا عليها أصحابَ المصالح في الاتحادات الزراعية والمصالح التجارية الأوسع نطاقًا على السواء. وفي المراحل الأخيرة من الخطة، شملت الخطةُ الاحتياطاتِ الذاتية التمويل، مع فرض ضرائب على المنتجين للسلع (مثل أصحاب مطاحن الحبوب لتحويلها إلى دقيق) للدفع مقابل المخصصات. وقدَّمَ ويلسون هذه الخطة إلى حملة روزفلت في عام ١٩٣٢، وتحدَّثَ روزفلت (كما قال مستشاره رايموند مولي) عن تأييده لسياسةٍ زراعيةٍ تدخُّليةٍ في «عموميات على قدر كبير من الغموض، بحيث لا تحتاج إلى مراجعة».12
وقد عكس أول تشريع زراعي رئيسي في برنامج الصفقة الجديدة — وهو قانون الإصلاح الزراعي لسنة ١٩٣٣ — هذه السلسلةَ الطويلةَ، على اختلاطها. ورغم أنه بَدَأ بذكر «حالة الطوارئ الحادة الحالية»، فقد ركَّزَ على شكاوى المزارعين التي لم تجد حلًّا لفترة طويلة، وأوكل إلى الحكومة مسئوليةَ القضاء على «البَوْنِ الشاسِعِ والمتزايد بين أسعار السِّلَع الزراعية وغيرها من السِّلَع، وهو البَوْن الذي قوَّض كثيرًا القوةَ الشرائية للمزارعين»، وقد أشار القانون على وجه الخصوص إلى الأعوام التي سبقَتْ مباشَرةً الآثارَ المعرقلة التي خلَّفتها الحربُ العالمية الأولى، باعتبار تلك الأعوام النموذج المثالي للمساواة الذي يجب أن تعود الدولة إليه. وتماشيًا مع تفضيل الصفقة الجديدة للتعميمات الغامضة، ترك القانونُ آليةَ الخطة إلى الرئيس، ولكن منَحَه صلاحيات خفض المساحات المزروعة، وإعطاء مزايا مقابل زراعة المحاصيل المرغوبة، وفرض ضرائب على المنتجين للسلع، وكلها إجراءات استلزمتها فكرة التخصيص المحلي.13 علاوةً على ذلك، أعفى القانونُ اتحاداتِ المزارعين من ملاحقات مكافحة الاحتكار (مما أتاح للمزارعين الاتجاه إلى مركزية صنع قراراتهم)، كما جعل المشاركة في برامجه تطوُّعية.
أيضًا عكست تعيينات روزفلت إرثَ سياسته الزراعية؛ فقد عيَّن والاس وزيرًا للزراعة وبيك رئيسًا لإدارة الإصلاح الزراعي التي ستدير سياسة مراقبة الإنتاج، وأصبح ويلسون على رأس قسم القمح في إدارة الإصلاح الزراعي.14 وقد ميَّزَ الاختلاف في الآراء بين هؤلاء الثلاثة الذين أيَّدوا السياسة الزراعية الفيدرالية لوقت طويل؛ فقد فضَّلَ بيك استخدام اتحادات التسويق من أجل خفض الإنتاج، وأراد ويلسون خطة التخصيص المحلي أن تكون خطوةً من أجل التخفيض النهائي للمساحات المزروعة، بينما أَطْلَع والاس ويلسون على أن البرنامج قد ينجح «إذا اتجهنا بالفعل صوب طريق اشتراكية الدولة. ويهيمن عليَّ الاعتقاد بأننا بالفعل بصدد هذا الطريق.»15 إضافة إلى غموض القانون وعدم وضوح رغبات روزفلت، زادت هذه الانقسامات من صعوبة المهمة العسيرة أصلًا.
وبحلول الوقت الذي بدأت فيه إدارة الإصلاح الزراعي العملَ في ربيع عام ١٩٣٣، كان مُزارِعو القطن قد زرعوا محصولَهم بالفعل، ولما رأَتِ الإدارةُ وجود فائض في إنتاج القطن، طلبَتْ من المزارعين اقتلاعَ مزروعاتهم، مقابل الحصول على رسوم، خشية أن تهوي أسعار القطن المنخفضة أصلًا. وانتشر وكلاء إدارة الإصلاح الزراعي في مئات المقاطعات لإقناع المزارعين باقتلاع مزروعاتهم التي زرعوها في وقت ليس ببعيد، وواجهوا مشكلاتٍ تواجِهها أي وكالة حكومية؛ فلم يجدوا قطُّ نماذجَ عقودٍ فارغةً كافيةً متى احتاجوها، واشتكى المزارعون من عدم عدالة تقييمات المحصول، وحرية المقيِّم في التساهل مع أصدقائه. «من المؤكَّد أن المقيِّمين لم يقدِّموا لنا عملًا عادلًا تمامًا … كانت لديهم محاباة لأشخاص بأعينهم.»16 وكثيرًا ما كانت شيكات اقتلاع المزروعات تتأخَّر.
بخلاف هذه الصعوبات الإدارية العادية، واجهَتْ إدارةُ الإصلاح الزراعي مشكلاتٍ خاصةً بمهمتها الزراعية؛ فالبغال التي دُرِّبَتْ طويلًا على تجنُّبِ اقتلاع زراعات القطن رفضَتِ الانصياع عندما سيقت للمهمة، ومنع الطقسُ السيئ عملياتِ اقتلاعِ هذه المزروعات في بعض الأماكن، بينما ثَنَى الطقسُ الصحو المزارعين عن اقتلاع المحصول الجيد في أماكن أخرى، وأحيانًا كان يضطر عمدة البلدة إلى إرسال جرَّار لفرض تنفيذ عقد اقتلاع المحصول، ويُطالَب المزارع الرافض بتحمُّل تكلفة ذلك.17 وعندما كانت تأتي شيكات الاقتلاع، أحيانًا ما كان أصحاب الأراضي يمنعون الدفعات عن المستأجرين.
إذا كان مشهد الحكومة وهي تدمر القطن في الوقت الذي كان ملايين من شعبها دون ملبس كافٍ يعتمل في الصدور، فإن مشهد تلك الحكومة وهي تدمر الطعام وسط حالة من الجوع أمر مؤلم قطعًا. فلزيادة دخول مزارع الخنازير حتى تصل إلى حدِّ التكافؤ، قرَّرَ مسئولو إدارة الإصلاح الزراعي أن عليهم ذبح ملايين الخنازير الصغيرة، خشية أن تكون بذرةً لحدوث وفرة في المستقبل. وقد عقَّب أحد المسئولين عن مزرعة في ولاية ميزوري على الموقف قائلًا: «الآن لدينا … ملايين من العاطلين والجوعى والمهلهلي الثياب من جهة، ولدينا كثير جدًّا من الطعام والصوف والقطن لا نعلم ماذا نفعل به من جهة أخرى، إنه لَموقف عبثي تمامًا، موقف يجعل من عباقرة شعبنا أضحوكة.»18
fig5
شكل ٥-١: عمل هؤلاء الرجال، وهم أعضاءٌ في سلك الخدمة المدنية، بمزرعةٍ لتربية الدواجن في جونزفيل، بولاية فيرجينيا.

لم يُعْنَ أيٌّ من مخطِّطي السياسة الزراعية بتناول مشكلات الأمة الأزلية المتسبِّب فيها فقرُ المناطق الريفية، أو المشكلات الجديدة التي نتجت عن الكساد الكبير. كان الهدف من القانون تحديدًا هو القضاء على عدم التكافؤ في القوة الشرائية بين الريف والمدينة عن طريق العودة إلى عصرٍ ذهبيٍّ خياليٍّ، وليس بالمضي قُدُمًا إلى عالم جديد تمامًا. ولما كان القانون بعيدًا كلَّ البُعْد عن تحفيز انتعاش الاقتصاد عن طريق مساعدة أغلبية المشترين بالدولة، فرضَتِ الضرائبُ التنازلية على إنتاج السلع، التي انتقلَتْ إلى المستهلكين، عقوباتٍ على المشترين في الحضر لمصلحة البائعين في الريف.

كان المزارعون يدعمون عمومًا تلك السياسات؛ فقد اتحد مزارِعو القطن للضغط على الحكومة لجعل تخفيض المساحة المزروعة أمرًا إجباريًّا ما إن أدركوا أن المزارعين غير المشاركين سيجنون مزايا ارتفاع الأسعار دون الاضطرار إلى التضحية بجزءٍ من محصولهم. واستجابةً من الكونجرس، وافَقَ على قانون بانكهيد للرقابة على القطن في عام ١٩٣٤، الذي فرَضَ ضرائبَ على كلِّ شيء يرسله المزارعون إلى المحلج فوق الحصة المقرَّرة لهم. استلزم هذا القانون إجراء استفتاء بعد العمل به لمدة عام، وفي الاقتراع فضَّلَ نحو ٩٠ بالمائة من مزارعي القطن من مختلف أصقاع الأمة الإبقاءَ على القانون.19
وكما ذكر جون دي بلاك، وهو خبير اقتصادي مؤيِّد لخطة التخصيص المحلي، في عام ١٩٣٦، وضعَتْ إدارةُ الإصلاح الزراعي تحقيقَ ارتفاعٍ نسبيٍّ في الدخول الزراعية هدفًا لها، وليس تحقيق انتعاشٍ اقتصاديٍّ سريعٍ من الكساد. ولتحقيق انتعاش اقتصادي سريع، كان يُنظر بوجه عام إلى سياسةِ رفع الدخول الزراعية على أنها أقل أهمية من سياسة رفع الأرباح التجارية؛ لأن الأرباح التجارية كانت تعني مزيدًا من الاستثمار، وأجورًا أعلى مقابل المزيد من المستهلكين. ووفقًا لبلاك، فإن أفضل نتيجة يمكن أن تُحسَب لإدارة الإصلاح الزراعي هي أنها «قدَّمَتْ لنا انتعاشًا اقتصاديًّا «أفضل» من الانتعاش القائم على الأرباح التجارية؛ لأنها … قدَّمَتْ لنا انتعاشًا «موزَّعًا على نحوٍ أفضل».» ويمكن القول إنه كان انتعاشًا موزَّعًا على نحوٍ أفضل من الناحية الجغرافية، من المدينة للمزرعة، وليس انتعاشًا موزَّعًا على نحوٍ أفضل بين الطبقات. وحتى تلك النتيجة لم تصمد على نحوٍ جيد تمامًا؛ فقد عقَّب بلاك بالقول إنه رغم ارتفاع الأسعار بالمزارع، ربما يرجع سبب ثلثي ارتفاعها إلى القحط وانخفاض قيمة الدولار، وليس بسبب إجراءات إدارة الإصلاح الزراعي.20 علاوة على ذلك، على قدر ما استحسن المزارعون الزيادةَ في أسعار محاصيلهم، فإنهم كانوا يأسَوْن على الزيادة المصاحبة في أسعار البضائع التي يشترونها؛ وهي الزيادة التي كانوا يعزونها إلى قانون الإدارة الاقتصادية الرئيسي الآخَر الذي تقدَّمَ به برنامج الصفقة الجديدة، وجرَتِ الموافقةُ عليه بعد شهر من قانون الزراعة.

اعتمدَتِ السياسةُ الصناعية، مثلها مثل السياسة الزراعية، على تقليدٍ راسخٍ يتعلق بمركزية السلطة من أجل ضبط الأسعار، مستعيدةً عصرًا ذهبيًّا قد ولَّى؛ ذلك الوقت إبَّان الحرب العالمية الأولى عندما كانت الحكومة تتعاون مع أقطاب التجارة في مجلس الصناعات الحربية لتشجيع التعاون والرقابة على الإنتاج. وفي الوقت الذي انتقَلَ فيه جورج بيك المحنك في مجلس الصناعات الحربية ليترأَّس إدارة الإصلاح الزراعي، ساعَدَه هيو جونسون، زميله القديم منذ أيام مجلس الصناعات الحربية، في إنشاء نظيرتها الصناعية وتسيير أعمالها، وهي إدارة الإنعاش الوطني.

على الأقل منذ حركات الاندماج الكبرى التي حدَثَتْ في نهاية القرن التاسع عشر، نظَرَ كبار رجال الأعمال الأمريكيين بارتيابٍ إلى مبدأ المنافسة الحرة، التي خفضت من الأسعار التي يمكن أن يحصلوا عليها من سلعهم وخدماتهم، إلى أقل من تكلفة الإنتاج في بعض الأحيان. وعلى نحوٍ متزايدٍ، اعترفوا بإيمانهم بتحديد «سعر اقتصادي سليم» سوف يعمل «الاستخدام الشامل» له، من خلال اللوائح الفيدرالية، على «القضاء على تخفيض الأسعار الجائر كليًّا وعلى نحوٍ دائمٍ».21 وهكذا واجَهَ رجال الأعمال المشكلات نفسها التي واجَهَها المزارعون الأمريكيون، في الوقت الذي تمتَّعوا فيه بميزات طبيعية معينة؛ فقد تأقلم التصنيع مع الرقابة المركزية بسهولةٍ أكبر مما فعلت الزراعة، وأتاح الابتكار في التكنولوجيا والتقنيات بدائلَ من الآلات وكفاءةِ الإدارة أكبر بكثير من ذي قبلُ من أجل توظيف العمالة الماهرة، وبذلك وُضِعت الرقابةُ على العمال بالمصانع على نحوٍ أكثر أمنًا في أيدي رجال الأعمال. في الواقع، ربما كانت العقبة الوحيدة أمام التركيز الكامل للتصنيع هي قانون حظر الاحتكار الفيدرالي.

وقد أرشد مجلس الصناعات الحربية رجالَ الأعمال إلى أنه من خلال التعاون الحكومي وليس العداء، سيكون بمقدورهم السيطرة على الإنتاج وتحديد الأسعار ومنع الإضرابات العمالية، وجَنْي ربح وافر؛ كل ذلك وهم يتحلَّون بمظهر الوطنيين. وأتاح لهم الكساد فرصةً لحشد قواهم مرةً أخرى لهذا الترتيب الطارئ بحيث يتمكَّنون من تحديد السعر المناسب والأعلى لمنتجاتهم.

يرجع تاريخ أول تعاون بين رجال الأعمال والحكومة في زمن الكساد إلى حملة «اشترِ الآن» في عهد هوفر. دعا السياسيون والصحفيون وغيرهم من مؤيدي الحملة العملاءَ الذين قادوا الانتعاش الذي شهدته البلاد في عشرينيات القرن العشرين إلى الشراء واصفين إياه بأنه طريق العودة إلى الرخاء، ولكن فشلت هذه الحملة التشجيعية. وفي ١٩٣١، أوردَتْ مجلة بيزنس ويك أنه «يبدو أن نجم فكرة «اشترِ الآن» قد أفل … وتلوح شكوك متزايدة حول ما ينبغي أن يستخدم المشترون المال لأجله.»22 إبَّان إدارة روزفلت، أصبح من الواضح أن الأمر يستلزم أكثر من التشجيع لزيادة القوة الشرائية. سأل روزفلت فرانسيس بيركنز، وزيرة العمل في إدارته، إنْ كان بإمكانها التوصُّل إلى طريقة توفر مساحة للاتحادات العمالية في السياسة الصناعية في سبيل تقليل المنافسة. كانت بيركنز — وهي أول سيدة تتولى حقيبة وزارية في أمريكا — قد خدمت في إدارة روزفلت لنيويورك، وأيَّدَتِ التشريعَ المعنيَّ بالحد الأدنى للأجور والحد الأقصى لساعات العمل، أما الآن فهي تقترح إنشاءَ مجالس صناعية يتولَّى شأنها ممثِّلون عن الإدارة والعمَّال والحكومة. وللمشاركة في السياسة، ستحتاج الاتحادات أيضًا للحصول على حقِّ التنظيم، وهو الأمر الذي اعترضَتْ عليه قضايا المحكمة العليا حتى بعد أن أعفى قانون كلايتون لسنة ١٩١٤ الاتحاداتِ من قوانين مكافحة الاحتكار. وقد دافع الاتحاد الأمريكي للعمَّال عن حق التنظيم باعتباره وسيلةً لزيادة «القوة الشرائية».23
وقد ذهب خبير اقتصادي بإدارة الإصلاح الزراعي الجديدة إلى أنه يجب أن يؤدِّي التشريع الصناعي غرضًا شبيهًا بالذي يؤدِّيه التشريع الزراعي؛ وهو التشجيع على انتعاشٍ اقتصاديٍّ موزَّعٍ على نحوٍ أفضل، وليس الترويج لتحقيق انتعاش اقتصادي أسرع. وأضاف قائلًا: «أعتقد أن القانون يجب أن يتطرَّق إلى شيء حيال تحسين الأجور، وحيال تحسين ظروف العمال، وحيال ضمان المفاوضات بين الاتحادات وأرباب العمل بحيث يحدث توازن أفضل، وبذلك نحفز اهتمامَ المستهلكِ ونرفع مستويات شرائه.»24
ومثل قانون الإصلاح الزراعي، عكس التشريع الصناعي مشاربه المختلطة؛ حيث ضمَّ قانون الإنعاش الصناعي الوطني لسنة ١٩٣٣ مجموعةً مختلفةً من التدابير، من بينها أحكام خاصة بالأشغال العامة سمحت لروزفلت بإنشاء وكالاتِ مساعَدةِ العاطلين بأجور وظائف الأشغال العامة، إلا أن أحكام القانون الرئيسية سمحت بإرساء سياسةٍ صناعيةٍ موجَّهةٍ على نحوٍ كبيرٍ من خلال مجالس مثل المجلس الذي وضعت بيركنز تصوُّرًا له، الذي يتناقش فيه ممثِّلون عن الإدارة والعمال والحكومة والمستهلكين حول القواعد التنظيمية. أوقف الكونجرس العمل بقانون مكافحة الاحتكار للسماح بتثبيت الأسعار بين الشركات لفترة قوامها عامان، وسمح للرئيس بوضع قواعد العمل في المجال الصناعي، أو بتفويض سلطة لوضعها، والتي ستحدِّد الأساس للمنافسة العادلة. وفي القسم ٧(أ) من الفصل الأول، يشترط القانون أن تضمن هذه القواعد ما يلي:
يحق للموظفين التنظيم والتفاوض الجماعي مع أرباب العمل من خلال ممثِّلين من اختيارهم، ولهم حرية عدم التعرُّض لهم من قِبَل أرباب العمل أو وكلائهم، وكذلك عدم التضييق عليهم أو إكراههم من جانب أرباب العمل فيما يتعلَّق بتسمية هؤلاء الممثلين أو التنظيم الذاتي أو غيرها من الأنشطة المشتركة التي تهدف إلى التفاوض الجماعي مع أرباب العمل، أو غيره من صور العون المتبادل أو الحماية.25

وترقَّبَت الاتحادات العمالية ومجموعات الأعمال والمدافعون عن المستهلكين ما سيُقدِم عليه الرئيس باستخدام سلطاته الجديدة.

دشَّن روزفلت إدارة الإنعاش الوطني مُستخدِمًا خطابًا شبيهًا بخطاب الحرب، مشيرًا إلى «التعاون العظيم في عامَيْ ١٩١٧ و١٩١٨» باعتباره سابقة، وعيَّن الجنرال السابق هيو جونسون لإدارتها، وهكذا أرضى رجال الأعمال الذين انتظروا بشغف الإلهام من مجلس الصناعات الحربية. أعَدَّ جونسون شعارًا حربيًّا للإدارة: صقرًا أزرق مُمسِكًا بإحكامٍ بترسٍ بين مخالبه، وفي الجهة الأخرى قابض على حفنة من الصواعق. وحاوَلَ حشد دعم المستهلكين باستغلاله استعارةً من وقتِ الحرب، حيث قال: «هن النساء اللائي بالبيوت وليس الجنود على الجبهة، هن مَن سينقذن بلدنا هذه المرة … إنها ساعة الصفر لربات البيوت.»26
كانت اليد الطولى لرافعي الأسعار؛ لأن المسئولين التنفيذيين بالمؤسسات الكبرى كانوا يتمتعون بسيطرةٍ كبرى على مشروعاتهم ودرايةٍ كبرى بحجم عملياتهم ونطاقها، ووجدوا في هيو جونسون الصديق المخلص لهم. وبحلول نهاية صيف عام ١٩٣٣، وضعت أغلب الصناعات الكبرى ضوابط خاصةً بها، بينما كان لدى أقل من ١٠ بالمائة من الصناعات المنضمة إلى سلطاتِ وضْعِ القواعد التنظيمية بإدارة الإنعاش الوطني عضو من العمال، بل وعدد أقل من ممثلي المستهلكين؛ ومن ثَمَّ كان كثير من القواعد التنظيمية نتاجَ مفاوضات بين رجال الأعمال ومسئولي الحكومة، الذين كان الكثيرُ منهم هم أنفسهم رجالَ أعمال مؤخرًا. وكما أوضح أحد المراقبين شاكيًا، كانت قواعد إدارة الإنعاش الوطني شبيهةً «بمساواة بين أقطاب أعمال من ناحية ورجال أعمال متنكِّرين في لباسِ مسئولين حكوميين من ناحية أخرى».27 واكتشف زعماء العمَّال أن الإدارة تمكَّنَتْ من التحايل على القسم ٧(أ) عن طريق إنشاء اتحادات تديرها الشركات. وبدأ العمال في الشكوى من ارتفاع الأسعار، وليس أجورهم، وأقدمت إدارة الإنعاش الوطني — التي أخذَتْ تبدو في كلِّ يومٍ يمضي أشبه بما أطلق عليه النقَّادُ مؤسسةَ «الصفقة القديمة» — على تكرار حملة «اشترِ الآن» التي كانت في عهد هوفر، لتتلقَّى الاستجابة نفسها: «أشتري بماذا؟» على حدِّ تعبير أحد المزارعين.28
كما أثارت إدارة الإنعاش الوطني حفيظةَ بعض مالكي الشركات الأصغر حجمًا؛ حيث وجد الكثيرون منهم أنفسهم غير مجهزين على النحو الملائم للتعامُل مع الشروط البيروقراطية من أجل الامتثال للقواعد المنظمة، وأنهم من غير المحتمل أن يجدوا لأنفسهم مكانًا أمام المنافسين الأكبر في السلطات التي تضع القواعد. راقَتِ التدابيرُ الرئيسية لتثبيت الأسعار التي أقرَّتْها القواعدُ التنظيمية للشركات الكبرى التي تحاوِل منع الشركات المنافِسة لها التي تستهدف مستهلكين معيَّنين بمنتجاتها من تخفيض الأسعار لأقل من أسعارها. وإبَّان الكساد على وجه الخصوص، كان الدفاع عن الإنسان العادي يوفِّر فرصةً سياسيةً لا تُقاوَم، وكما لاحظَتْ فرانسيس بيركنز، «يمكنك كسب التعاطف دومًا باستخدامك كلمةَ صغيرٍ … فمع كلمة صناعات صغيرة تشعر بالشعور نفسه الذي تشعر به حيال جروٍ صغير».29 وردًّا على ذلك، أنشأت إدارة الإنعاش الوطني مجلسًا للتحقيق في تلك الشكاوى، وأُجريت دراسة تحت إشراف المحامي المعروف كلارنس دارو، كشفَتْ عن وجود «ممارسات احتكارية» في سبعٍ من ثماني صناعات تابعة لإدارة الإنعاش الوطني أُجرِيَتْ عليها الدراسةُ، واكتشفَتْ أن الشركات الصغيرة تعرَّضَتْ «لظلم قاسٍ».30
بحلول عام ١٩٣٤، توقَّفَ نشاطُ إدارة الإنعاش الوطني وسطَ النقد الموجَّه إليها، واستقال جونسون من منصبه، وحلَّتْ محله لجنة. وفي بدايات عام ١٩٣٥، كشفَتْ معاينةٌ أُجرِيَتْ للإدارة عن أنه لم يجرِ تطبيق القواعد التنظيمية على الشركات إلا في حالتين. ومع اقتراب عامَي الإعفاء من الملاحقة بسبب الاحتكار من الانتهاء، تحدَّى مجلسُ الشيوخ روزفلت، ولم يصوِّت إلا على تمديدٍ محدودٍ لإدارة الإنعاش الوطني.31 وقبل أن يتخذ المجلس قرارًا، قضَتِ المحكمةُ العليا بعدم دستورية إدارة الإنعاش الوطني؛ إلا أنه كان من الواضح بالفعل أن روزفلت في رأيه اللاحق الذي عبَّرَ عنه بعيدًا عن الأنظار، لم تسبِّب له إدارة الإنعاش الوطني سوى «صداعٍ لا يتوقَّف»، وأن بعض سياساتها كانت «خاطئة تمامًا».32

وقبل انقضاء وقت طويل، حلَّتِ المحكمةُ العليا إدارةَ الإصلاح الزراعي أيضًا؛ حيث رأت المحكمة أن الوكالتين انتهكَتَا الدستورَ على نحوٍ مماثلٍ؛ فقد مارسَتَا سلطةً تنفيذيةً قسريةً غير مسبوقةٍ وغير مصرَّحٍ بها في الولايات. وكما قال هنري والاس، كانت هاتان الوكالتان تتجهان تدريجيًّا نحو «اشتراكية الدولة»، التي يمكن دون جور اعتبارها في أعين أغلب الأمريكيين، حتى في تلك الأزمة العصيبة، محفوفةً بالشكوك.

رغم انقطاع القطاعات الرئيسية من إدارة الإصلاح الزراعي وإدارة الإنعاش الوطني عن عناصرها الإدارية الأكثر توجُّهًا نحو مركزية الدولة، استمرَّ بقاءُ الإدارتين؛ حيث وافَقَ الكونجرس عليهما مرة أخرى بموجب قانون. وحيث إن أيًّا من البرنامجين لم يهدف إلى انتعاشٍ اقتصاديٍّ سريعٍ، ولكن حاوَلَ بدلًا من ذلك تحقيقَ توازنٍ مختلفٍ في توزيع الثروة والسلطة بين الأمريكيين — من المدينة إلى الريف، ومن الإدارة إلى العمَّال والمستهلكين — حظيت السياساتُ بشعبيةٍ جارفةٍ بين الدوائر الانتخابية المهمة لروزفلت، وهو ما مثَّلَ ملامحَ منهجِ الصفقة الجديدة من الاقتصاد السياسي، الذي استمرَّ لفترة طويلة بعد انقضاء الكساد.

هوامش

(1) Lester V. Chandler, American Monetary Policy, 1928–41 (New York: Harper and Row, 1971), 281.
(2) Dietmar Rothermund, The Global Impact of the Great Depression (London: Routledge, 1996), 107, 29.
(3) Judith Goldstein, “The Impact of Ideas on Trade Policy: The Origins of U.S. Agricultural and Manufacturing Policies,” International Organization 43, no. 1 (1989): 35.
(4) Susan Previant Lee and Peter Passell, A New Economic View of American History (New York: W. W. Norton and Company, 1979), 301.
(5) Zechariah Chafee Jr., “Congressional Reapportionment,” Harvard Law Review 42, no. 8 (1929); Orville J. Sweeting, “John Q. Tilson and the Reapportionment Act of 1929,” Western Political Quarterly 9, no. 2 (1956).
(6) Theodore Saloutos, The American Farmer and the New Deal (Ames: Iowa State University Press, 1982), 9.
(7) Ibid., 5.
(8) Ibid., 32.
(9) Goldstein, “Impact of Ideas,” 43.
(10) Keith J. Volanto, Texas, Cotton, and the New Deal (College Station: Texas A&M University Press, 2005), 15 ff.
(11) Ibid., 20.
(12) William D. Rowley, M. L. Wilson and the Campaign for the Domestic Allotment (Lincoln: University of Nebraska Press, 1970), 15; Saloutos, The American Farmer and the New Deal, 41; Volanto, Texas, Cotton, 22.
(13) 48 Stat. 31, 34-5.
(14) Rowley, M. L. Wilson, 195.
(15) Ibid., 138.
(16) Volanto, Texas, Cotton, 45.
(17) Ibid., 49.
(18) Anthony J. Badger, The New Deal: The Depression Years, 1933–40 (London: Macmillan, 1989), 163.
(19) Volanto, Texas, Cotton, 83.
(20) John D. Black, “The Agricultural Adjustment Act and National Recovery: Discussion,” Journal of Farm Economics 18, no. 2 (1936): 243.
(21) Ellis W. Hawley, The New Deal and the Problem of Monopoly: A Study in Economic Ambivalence (Princeton: Princeton University Press, 1966), 40.
(22) Meg Jacobs, Pocketbook Politics: Economic Citizenship in Twentieth Century America (Princeton: Princeton University Press, 2005), 96.
(23) Hawley, New Deal and the Problem of Monopoly, 28.
(24) Jacobs, Pocketbook Politics, 208.
(25) 48 Stat. 195, 198.
(26) Jacobs, Pocketbook Politics, 109.
(27) Hawley, New Deal and the Problem of Monopoly, 57–62.
(28) Ibid., 58, 93.
(29) Ibid., 82.
(30) Ibid., 96.
(31) “Extension of NRA for Only 10 Months Voted By Senate,” New York Times 5/15/1935, 1.
(32) Frances Perkins, The Roosevelt I Knew (New York: Viking Press, 1946), 251.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤