الفصل السادس

قوة مكافئة

منذ البداية، وعلى نحوٍ متزايدٍ إبَّان ثلاثينيات القرن العشرين، طلب أصحاب الصفقة الجديدة من الحكومة الفيدرالية ممارسة صلاحيات جديدة ليست من أجل التخطيط المركزي أو الرعاية الاجتماعية فحسب، وإنما كما قال الخبير الاقتصادي جون كينيث جالبريث فيما بعدُ، من أجل «أن تُمنح مجموعةٌ قوةً سوقيةً لم تتأتَّ لها من قبلُ». وبالنظر من عام ١٩٥٢ إلى الماضي، أشار جالبريث إلى أن «أهم القوانين التشريعية للصفقة الجديدة» إضافةً إلى تلك التي «ألهبت أشد الخلافات الداخلية إثارةً للجدل» كانت القوانينَ التي جنَّدتِ الحكومةَ الفيدرالية «لدعم القوة المكافئة».1
جذبت فكرةُ استخدام الدولة لدعم المصالح الخاصة باسم القوة المكافئة أصحابَ الصفقة الجديدة لسببين؛ فأولًا: أبقتهم إلى جانب الرأسمالية الأمريكية بأن جعلتهم بمنأًى عن الملكية العامة أو حتى إخضاع الأعمال للتنظيم الحكومي. وثانيًا: في إطار فهمهم للتاريخ، لم يكونوا أول المشرِّعين الأمريكيين الذين يستخدمون الحكومة الفيدرالية من أجل دعم المصالح الخاصة، بل كانوا أول مَن يقترح استخدام الحكومة في الأساس من أجل مصلحة مجموعات من غير مالكي المؤسسات الكبرى. وكما قال السيناتور لويس شويلينباخ (ديمقراطي من واشنطن) عن ماضي الأمة الأسطوري الرائد الذي خلا من الحكومة: «لا تدَعْ أحدَهم يقول لك إن تلك الأيام خلَتْ من الجوائز الحكومية، كان للسكك الحديدية أراضيها في كل بلدة، ومساحاتٌ شاسعةٌ من الأراضي المكسوة بالأشجار متاحة للعاملين بالأخشاب، كان هناك نظام حمائي من التعريفات يجري من خلاله استقطاع ضرائب خفية من جيوب كلِّ مَن يعمل بالزراعة والصناعة، وكَثُرت الجوائز الحكومية، إلا أن الأشخاص الذين كدحوا، الذين اشتروا واستهلكوا منتجاتنا، لم يجدوا سبيلًا إليها.»2

وإذا كان النجاح قد كُتِب لسياسات الحزب الجمهوري في القرن التاسع عشر في تعزيز القوة الأصلية داخل الاقتصاد الصناعي الأمريكي — البنوك الكبرى وكبريات مؤسسات التصنيع في الشمال الشرقي — فقد تركت تلك السياساتُ بقيةَ الدولة في حالة متخلفة نسبيًّا، وليس من باب المصادفة أن أتى الدعمُ القويُّ لبرنامج الصفقة الجديدة من الجنوب والغرب الأكثر فقرًا، حيث رأى الناخبون هناك أنهم لم يستفيدوا كثيرًا من تلك السياسات.

ولحسن حظ إدارة روزفلت، فإن هذا الإرث التاريخي من عدم التكافؤ الإقليمي في الموارد لم يفرض عليها ضرورةَ التمييز بين السياسة الجيدة والخطة الجيدة؛ فهم إذا أرادوا إنفاقَ النقود من أجل رأب الصدع في التنمية الاقتصادية في الدولة وخلق قُوًى مكافئة، فسينفقونها في الجنوب والغرب، وعلى العمال الصناعيين بالدولة. وفي المقابل، إنْ أرادوا إنفاق النقود على الناخبين الأكثر ولاءً وأهميةً في تحالُف الصفقة الجديدة، فسينفقون المال الفيدرالي على الجنوب والغرب، وعلى العمال الصناعيين بالدولة. وعملت السياسة جنبًا إلى جنب مع الاقتصاد في تأسيس الصفقة الجديدة لقوة مكافئة.

كان فرانكلين روزفلت يفخر بأنه ابتكَرَ طريقةً يمكن للحكومة من خلالها خلقُ قوةٍ مكافئة، وهو ما أطلق عليه مفهوم «المعيار». فإبَّان الحرب العالمية الأولى، ذهب روزفلت — عندما كان الأمين العام المساعد للبحرية الأمريكية — إلى أنه لا ينبغي على حكومة الولايات المتحدة ألَّا تغطي كافةَ سفنها بالدروع، وإنما ينبغي أن تشيِّد مصنعًا صغيرًا للتغطية بالدروع، وبذلك تعلم تكلفة العملية. والتكاليف التي سيتكبدها المصنع الذي تديره الدولة ستكون مقياسًا للربح المعقول الذي يحظى به المقاولون من القطاع الخاص؛ مما سيوفِّر الثقلَ المقابلَ الذي سيعادل معلومات رجال الأعمال عن تكلفة الإنتاج، وستعرف البحرية حينها ما ينبغي عليها دفعه كي توفِّرَ للمقاولين ربحًا معقولًا، ولكن ليس مُبالَغًا فيه. تذكَّرَ روزفلت هذه الفكرة لاحقًا.3
في الوقت الذي كان فيه روزفلت يحثُّ الحكومةَ على دخول صناعة تغطية المعدات العسكرية بالدروع، كانت واشنطن تدخل قطاع الكهرباء في ماسل شولز في ولاية ألاباما، فهناك كان نهر تينيسي يهبط بمقدار ١٣٤ قدمًا خلال سبعة وثلاثين ميلًا من المنحدرات النهرية، وهناك شيَّدَتْ حكومة الولايات المتحدة سدَّ ويلسون، من أجل توفير الطاقة الكهرومائية للمصانع التي تنتج النترات المستخدَمَة في المخصبات والمتفجرات.4 وقبل الانتهاء تمامًا من أعمال التشييد بالسد، اقترحَتْ إدارة هاردينج تحويلَه إلى إدارة خاصة، ثم جاءت إدارةُ كوليدج لتؤيِّد هذه الفكرةَ بدورها، إلا أن السيناتور جورج نوريس، الجمهوري التقدُّمي من نبراسكا ورئيس لجنة الزراعة (التي كانت مسئولةً عن مشروعات القوانين الخاصة بالمخصبات)، أوقَفَ خطةَ الخصخصة واقترح بدلًا من ذلك توسيعَ نشاط ملكية القطاع العام لإنتاج الكهرباء.
وفي حملته عام ١٩٣٢، أقحم روزفلت نفسه في هذا المأزِق بين الخصخصة وملكية القطاع العام، قائلًا إن قليلًا من محطات القوى التي تملكها الحكومةُ كان «دائمًا وأبدًا المحك لمنع الابتزاز» من قِبَل أرباب الاحتكار في القطاع الخاص. وبعد تنصيبه رئيسًا، عمل مع نوريس على إنشاء «هيئة وادي تينيسي»، التي ستتولى مسئولية ماسل شولز وتشيِّد سدودًا أخرى على طول النهر، بحيث تمدُّ كثيرًا من أرجاء الجنوب بالطاقة التي تنتجها الحكومة.5
أدرجت الهيئة السَّانَّة للقوانين بين أهدافها العديدة هدفَ «تنمية الوادي المذكور صناعيًّا وزراعيًّا».6 وفي حين أنه قبْلَ ذلك بجيلٍ، كيَّفَتِ الحكومةُ الفيدرالية أوضاعَها في ظل سيطرة الجمهوريين من أجل تنمية الغرب عن طريق مؤسسات السكك الحديدية الخاصة بين الولايات، إلا أنه في ظلِّ سيطرة الديمقراطيين دُفِعت الحكومةُ إلى الاضطلاع بالتنمية من خلال مؤسسات حكومية للطاقة بين الولايات. لكن لم يعنِ كون هذه المؤسسات حكوميةً أو ولاياتيةً أنها بعيدة عن موقع العمل أو غير مستجيبة له؛ فلما كان المقر الرئيسي لهيئة وادي تينيسي في نوكسفيل، بولاية تينيسي، كرَّسَتِ الهيئةُ نفسها للعمل من خلال مؤسسات محلية وحشد الدعم لما أطلق عليه مديرها ديفيد ليلينثال: «إدارة جديدة للاختصاصات الفيدرالية». وقد أشار ليلينثال إلى أنه إذا كان الأمريكيون بصدد تبنِّي الملكية العامة لقطاع الكهرباء، فسيكون عليهم فعل ذلك على نطاقٍ محليٍّ؛ فلن يؤيدوا أبدًا الاشتراكية الوطنية، بل في الواقع عليهم من أجل الديمقراطية ألَّا يؤيدوها أبدًا، وهو ما يخالف مطامح بعض المخططين ومخاوف خصومهم.7
fig6
شكل ٦-١: أطفال ينتمون لسلك الخدمة المدنية ينزعون الحشائش من مشتل تابع لهيئة وادي تينيسي بالقرب من سد ويلسون في ولاية ألاباما.
لطالما طمح الساسة الديمقراطيون إلى انتشال الجنوب من إرث الفقر وإلحاقه بالغرب، ليكون ثقلًا مقابلًا أمام المراكز المالية والصناعية (الجمهورية في أغلبها) في الشمال الشرقي والغرب الأوسط، ولكن كان عليهم إيجاد سبيل لتجنُّب العداء المقيت الذي يكنُّه الجنوبيون من البيض للحكومة الفيدرالية؛ فلأمد بعيد مقت الجنوب الأبيض وزارة العدل وسياسات الحقوق المدنية. وقد ساعدت حملة هيئة وادي تينيسي من أجل سلطةٍ فيدراليةٍ يُتحكَّم فيها محليًّا الديمقراطيين في وضعِ سياسةِ تنميةٍ فيدراليةٍ يمكن للجنوبيين من البيض أن يتقبَّلوها، وكثيرًا ما عقدت المدن الجنوبية استفتاءاتٍ صوَّتَ فيها المواطنون لصالح السلطة العامة ضد الشركات المحتكرة الخاصة، في ظل دعمٍ من ليلينثال. جاءَتْ مقاومةٌ قويةٌ غنيةٌ بمصادر التمويل لهذه الاستفتاءات من مؤسساتِ الطاقة الخاصة التي تملكها شركة «كومنولث آند ثاذرن» القابضة، التي ترأسها وينديل ويلكي، الديمقراطي الذي دعم روزفلت في عام ١٩٣٢. وقد أضعفت هيئة وادي تينيسي من مَيْلِ ويلكي نحو الإدارة؛ ففي حين تفاوَضَ ويلكي نفسُه مع الهيئة، حارَبَ توسُّعَها أعضاءٌ في الشركاتِ المشكِّلةِ لكومنولث آند ثاذرن، وكانت استجابة الهيئة والمدن الجنوبية بأن عملوا على إقناع إدارة الأشغال العامة ببناء خطوط ووحدات لمنافسة شركات الطاقة الخاصة، أو حتى مجرد التخطيط لبنائها، وجَعْل الجنوب في غنًى عنها. وكثيرًا ما وفَّرت خطط إدارة الأشغال العامة وحدها النفوذَ الفيدرالي الكافي، فباعَتْ شركاتُ الطاقةِ الخاصة بنيتها التحتية وآلَتْ إلى السيطرة العامة المحلية.8

لفترة طويلة إبَّان ثلاثينيات القرن العشرين، منعَتْ شركات ويلكي هيئةَ وادي تينيسي من تزويد المدن الجنوبية بالطاقة، وذلك عن طريق اللجوء للقضاء واستصدار أوامر زجرية من المحاكم. ورغم أن المحاكم العليا أصدرت حكمها في صالح الهيئة، أجبرَتْ عمليةُ التقاضي الطويلة ليلينثال على قضاء شهورٍ في حملةٍ لكسب الدعم، مبرزًا الاختلافات بين التزام الهيئة بالديمقراطية والسيطرة المحلية ومعارضة الشركات الخاصة لكلا الأمرين. وفي مثل هذه الظروف، تمكَّنَ ليلينثال من التأكيد في مصداقية على أنه مع أن معارضي هيئة وادي تينيسي قد ينعتونها «بالسوفييتية»، إلا أن الشركات الخاصة، وليس الهيئة، هي من فضلت السيطرة الخارجية المركزية على وادي نهر تينيسي.

جسدت هيئة وادي تينيسي ما تتصف به خطط الصفقة الجديدة من مناقب ومثالب من حيث استخدام النفوذ الفيدرالي من أجل تمكين جماعات قائمة. فقد جلبت الطاقةَ الكهربائيةَ بسعر رخيص — تقريبًا بنصف الثمن الذي كان الأمريكيون يدفعونه إلى الشركات الخاصة — لأناسٍ لم يحصلوا عليها من قبلُ، كما أن نجاحها ألهَمَ الشركاتِ الخاصةَ بتجربة تخفيض الأسعار والتوجُّه نحوَ أسواقٍ أكبر أيضًا. كذلك ألهمَتِ الهيئةُ روزفلت بتجربة توصيل الكهرباء إلى الريف على المستوى الوطني، فأنشأ إدارة توصيل الكهرباء إلى الريف في عام ١٩٣٥ بأموالٍ من قانونِ الغوث الصادر في ذلك العام، لدعم إنشاء جمعيات تعاونية ريفية للطاقة. وعلى غرار هيئة وادي تينيسي، لم تتولَّ الإدارةُ توصيلَ الكهرباء إلى مناطق لم تدخلها من قبلُ فحسب، بل جعلت الشركاتِ الخاصةَ ترى إمكانية تحقيق الربح في أسواق كانت تقلِّل من شأنها حتى حينه.9
وفي هذا الصدد، أثبتَتِ الجهودُ المبذولة لتوليد الطاقة من أجل دوائر انتخابية مكافئة جدواها، فأرسَتِ الأساسَ لمزيدٍ من التنمية الاقتصادية في مناطق في أمسِّ الحاجة إليها. وعلى قدر ما جمعت الساسة والناخبين من الجنوب على الصفقة الجديدة، فقد نجحت في مساعيها أيضًا. في الوقت نفسه، قلَّصَ التزامُ هيئة وادي تينيسي باحترام المؤسسات المحلية من دعمها للديمقراطية؛ فالعمل من خلال البِنى القائمة بالجنوب كان يعني الحفاظ على التراتب العرقي هناك؛ فبرامج المخصبات التي وضعتها الهيئة لم تشمل المجموعات الزراعية المتأصِّلة من السود بالجنوب، كما لم تبدُ القوى العاملة المعزولة التابعة لها في غير موضعها الصحيح في أرضٍ انتهجت ممارسة التمييز ضد السود.10

عملَ برنامجُ الصفقة الجديدة على تنمية الغرب أيضًا، وقد أشار منتقِدُو دوافع الإدارة إلى أن ولايات الغرب المتأرجحة، المتغيرة سياسيًّا أكثر بكثير من الشمال الشرقي والجنوب، تلقَّتْ نصيبًا غير مناسب من دولارات الصفقة الجديدة. ومع ردِّ مسئولي إدارة الأشغال العامة بأن ما يفوق النصيب العادل من ميزانيتهم ذهَبَ إلى الولايات الواقعة شرق نهر المسيسيبي القائمة منذ أمدٍ أطول بكثير والأكثر تطوُّرًا، فقد استمرَّ الحالُ على أن أموال إدارة الأشغال العامة، قياسًا على نصيب الفرد، كانت تذهب على نحوٍ أكبر بكثيرٍ إلى الغرب المنتشر سكَّانه على مساحة ممتدة. وبالمثل، إذا كان برنامج الصفقة الجديدة منشغلًا بشراء الأصوات، فقد ضمَّتِ الولاياتُ الغربية أصواتًا انتخابية أكثر مقارنة بعدد السكان.

اتضح أن الشكوك التي تواترت حول شراء إدارة روزفلت لولاء الغرب ذات أساسٍ واهٍ؛ فتلك الولايات كانت بها أراضٍ شاسعة وتطلَّبَتْ أميالًا وأميالًا من الطرق؛ فإذا كانت الحكومة الفيدرالية بصدد الإنفاق على أساس الحاجة فحسب، فستنفق المزيدَ من المال على الطرق على أساس نصيب الفرد خارج الغرب. علاوة على أن الغرب حظي بوفرةٍ من المشروعات، لا سيما مشروعات الطاقة الكهرومائية، خُطِّط لها بالفعل وأصبحت جاهزةً لتمويلها بالفعل. ومع الأراضي الشاسعة القادرة على توفير الحياة لمزيد من الأعداد الكثيرة جدًّا من الناس، كان الإنفاق على تلك المشروعات في الغرب يبدو استثمارًا رابحًا. وفي النهاية، امتلكَتِ الحكومةُ الفيدرالية أنصبةً غير عادلةٍ من الأراضي في الولايات الغربية — أكثر من ٨٠ بالمائة من ولاية نيفادا — مما جعل إنشاء المشروعات هناك أرخص وأيسر.11

وكما كان إنفاقُ المال بهدف تنمية الجنوب ذا جدوى اقتصادية لأنه كان يعني استغلال الإمكانات التي كبحتها العبودية وموروثها، فإن إنفاق المال على الغرب كان ذا جدوى اقتصادية أيضًا؛ فقد كان يعني إتاحة السبيل لاستيطانٍ أكثر كثافة في إقليم يَعِدُ بثروات أكثر. فحتى إذا كانت التنمية المترتبة على الصفقة الجديدة أدَّتْ أيضًا إلى إتلافٍ بيئيٍّ، أو بسطَتْ نطاقَ النظام الصناعي الأمريكي بلا تروٍّ، أو لم تغيِّر شيئًا من العقبات العِرقية التي اعترضَتْ سبيلَ الديمقراطية (ساعدت إدارةُ الأشغال العامة الأمريكيين من أصول يابانية في الغرب إبَّان الحرب العالمية الثانية)، أو بَدَتْ سياسيةً على نحوٍ يثير الشكوكَ، فقد بَدَتْ أيضًا استثمارًا رابحًا؛ فإقامة الأشغال العامة في إطارِ سياسةٍ تنمويةٍ أحدَثَت تغييرًا في أوضاع تلك المناطق التي ظلَّتْ تُعرف بتخلُّفها على مرِّ تاريخها لتصبح قوًى مكافئة للشمال الشرقي الأقدم والأغنى، والجمهوري على مرِّ تاريخه. كما كانت هذه السياسات بمنزلة أكثر السياسات إعادةً للتوزيع في برنامج الصفقة الجديدة، مع أن إدارة روزفلت ربما عملت على إعادة توزيع المال والسلطة جغرافيًّا، فلم تبذل الجهدَ المباشِر نفسه من أجل استغلال الدولة لإعادة توزيع المال والسلطة عبر الطبقات.

وعلى الأقل، منذ أن أرسى آدم سميث مبدأ «القدرة على الدفع» ليكون مبدأه الأول لفرض الضرائب، فإن البلاد التي اطمأنت للإجراءات الحكومية أكثر من الولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن العشرين، منحَتْ قوةً سوقيةً إلى مجموعاتٍ لم تكن لتتمتع بها بغير ذلك، من خلال فرض الضرائب على الأشخاص الأكثر ثراءً واستخدام العائد منها بهدف توفير السلع لمَن هم أقل مالًا. ورغم الأسلوب المباشِر الذي تمتَّعَتْ به هذه الطريقة، لم يستخدمها برنامج الصفقة الجديدة، بل إن إدارة روزفلت احتفظَتْ بسياسة معاكسة لفرض الضرائب كما كانت مفروضة في عهد إدارة هوفر في عام ١٩٢٣، مضيفةً الضريبةَ التي تحصِّلها إدارةُ الإصلاح الزراعي أثناء مراحل الإنتاج إلى ضرائب الإنتاج الفيدرالية التنازُلِية على الكحوليات وغيرها من السلع التي اعتُبِرَتْ ترفًا أو رذيلةً. وضعَتْ هذه الضرائبُ عبئًا غير عادلٍ على الأمريكيين الأقل قدرةً على الدفع. بل إن قانون العائد لسنة ١٩٣٥، الذي كان نتيجة طلب روزفلت إيجاد «سياسة عامة رشيدة للتشجيع على توزيعٍ أوسع نطاقًا للثروة»، لم يكن له مردود إلا لعدد قليل جدًّا من الناس، لدرجة أنه بَدَا وكأنه «أثار المزيد من المشكلات بدلًا من أن يحقِّق زيادةً في الدخل»، كما وصفه أحد أعضاء لجنة الطرق والمواصلات بالبرلمان.12 وإيمانًا من الديمقراطيين بأن إمكانات الانتعاش الاقتصادي قد اعتمَدَتْ على استثمار رجال الأعمال، فقد استمروا في فرض رسوم ضريبية أقل وضوحًا — تشير نتائج الاقتراعات إلى أن الأمريكيين نادرًا ما اعتبروا هذه الرسوم المفروضة ترقى إلى أن تكون ضرائب — بدلًا من رفع ضرائب الدخل المفروضة على مزيدٍ من الأمريكيين.

إلا أن إدارة روزفلت عملت بالفعل على إعادة توزيع الثروة، لكن ليس من خلال سياسة فرض الضرائب؛ فهي في المقابل أرادَتْ أن تعمل السوق على نحوٍ أكثر عدالةً، من أجل تخصيص أجور أعلى للعمال والمستهلكين دون التدخُّل الحكومي المباشِر. ولتحقيق هذا الهدف، عزَّزَتِ الصفقةُ الجديدة من نموِّ منظمات العمَّال والمستهلكين المخوَّل إليها إجراء مفاوضات جماعية، ومن ثَمَّ أكثر فعالية، من أجل الحصول على نصيب أفضل من السوق. ودعمت نظريةٌ بسيطةٌ هذه السياسة: إذا غدَتِ الأعمالُ أكثرَ تنظيمًا من ذي قبل، ومن ثَمَّ أكثر كفاءةً في تقليل نفقاتها، فينبغي على مشتري المنتجات وبائعي العمالة التنظيم وتعلُّم الكفاءة. وفي أحد تطبيقات هذه النظرية، شجَّعَتْ إدارةُ الإنعاش الوطني على تنظيم المستهلكين والعمال.

رغم أن السماح بحقِّ وجود اتحادات العمَّال لا يبدو خارجًا عن الطبيعي، فإن الإدارة حارَبَتْه؛ ففي عام ١٩٣٤، تفجرت المصانع بالإضرابات بسبب رفض المؤسسات الاعتراف بالاتحادات، وأغلقت الإضراباتُ مُدُنًا بكاملها. وأنشأ روزفلت المجلس الوطني لعلاقات العمل لتسوية النزاعات، وأظهرت التحقيقاتُ أن مديري الصناعات الأمريكية قد عزموا على إجهاض ميلاد الاتحادات العمَّالية، باستخدام الاختراق والتهديدات والزيادات في معدلات الإنتاج المطلوبة دون أجرٍ إضافيٍّ، والأقبح من كل هذا، سوق العمل البائس. وقد عبَّر أرباب العمل عن ذلك في مواقف عدة في أماكن عمل مختلفة بقولهم: «أَطِلَّ برأسك خارج النافذة، وانظر إلى طابور الرجال المنتظرين لوظيفتك.»13
ويشتهر جون إل لويس من اتحاد عمَّال المناجم بقوله إلى رجاله: «يريد الرئيس منكم أن تنضموا إلى اتحاد.»14 كانت مبالغة من جانب لويس؛ فقد كان روزفلت يكره تصعيد المواجهة مع رجال الأعمال الذين سيقودون الانتعاش الاقتصادي للدولة، وكانت نظرته إلى الاتحادات العمالية يشوبها انعدام الثقة، ولكن على صعيد قضايا أخرى، كان نوَّاب الكونجرس من حزب روزفلت يدفعونه. حيث تقدَّمَ السيناتور روبرت واجنر بمشروع قانون بإنشاء المجلس الوطني لعلاقات العمل بصفة دائمة، وخصوصًا لمنع تكوين اتحادات عمَّالية تهيمن عليها الشركاتُ، وكذلك منع ترهيب منظِّمِي الاتحادات. لم يفرِض القانونُ على الشركات التفاوُضَ مع ممثِّلي الاتحادات المنتخبين من قِبَلِ العمَّال فحسب، بل أسَّسَ لقاعدةِ الأغلبيةِ مُشترِطًا أنه إذا أدلى أغلبيةُ العمَّال في متجرٍ من المتاجر بأصواتهم لصالح اتحادٍ من الاتحادات، فسيتمتع ذلك الاتحاد بالسلطة لتمثيل عمَّال المتجر كافة.
رأى واجنر القانونَ سبيلًا للإحجام عن تخويل سلطات أكثر من اللازم إلى الدولة، فيقول: «إن المجلس الوطني لعلاقات العمل هو المفتاح الوحيد لحلِّ مشكلةِ الاستقرار الاقتصادي إنْ كنَّا ننتوي الاعتمادَ على المساعدة الذاتية الديمقراطية التي يوفِّرها المصنِّعون والعمَّال، بدلًا من المخاطرة بالوقوع في المزالق التي تقع فيها الدول الأوتوقراطية أو الشمولية.»15 يمكن أن تروق الاتحادات العمَّالية الأقوى، رغم أنها علاج مرٌّ، إلى الناخبين من الطبقة الوسطى بشكل أسهل بكثير من زيادة السلطة والإنفاق الفيدراليَّيْنِ لأجَلٍ غير مسمى. وبعد موافقة الكونجرس على قانون واجنر في يوليو ١٩٣٥ — مباشَرةً عقب إلغاء المحكمة العليا لقانون الإنعاش الصناعي الوطني — استعاضَ قانونُ واجنر عن سلطات الدولة المعنيَّة بوضع القواعد التنظيمية بفلسفة القوة المكافئة، عازيًا الأزمة الاقتصادية إلى الغياب المبكر لثقلٍ مقابِلٍ فعَّالٍ يوازن تأثيرَ إدارة الشركات. ومن أحكام قانون واجنر:
أن التفاوت في القدرة على التفاوض بين الموظفين الذين لا يتمتعون بحرية تنظيمٍ نقابيٍّ كاملة … وبين أرباب العمل المنتظمين في صورةِ مؤسساتٍ وغيرها من صور اتحادات الملكية … يزيد في العادة من خطورة أوقات الكساد المتكرِّرة في الأعمال، من خلال خفض معدلات الأجور وإضعاف القوة الشرائية لمَن يكسبون تلك الأجور … فبموجب هذا القانون ستكون سياسة الولايات المتحدة … القضاء على تلك العقبات … عن طريق تشجيع ممارسة التفاوض الجماعي وإجرائه.16
كان الرئيس حينها يريد فعليًّا أن ينضمَّ العمَّالُ الأمريكيون إلى اتحادٍ عمَّاليٍّ؛ فالقانون ألزَمَه بذلك. ورغم فتور سوق العمل (العدد الكبير للعمَّال العاطلين أعاقَ تنظيمهم في اتحادات)، انضمَّ الأمريكيون بالفعل، وفي عام ١٩٣٠ كان أقل من عُشْر العمَّال في التصنيع قد انضموا إلى اتحادات، في حين أنه بحلول عام ١٩٤٠، انضمَّ أكثرُ من ثلثهم؛ وفي قطاع التعدين ارتفَعَ معدل الانضمام إلى اتحاداتٍ عن الفترة نفسها من أكثر من الخُمس بقليل إلى ما لا يقل عن الثلاثة أرباع. واتسمت قطاعات أخرى بزيادات مشابهة.17 وبالنظر إلى معدل البطالة، يعود الفضل كثيرًا في الزيادة في معدل الانضمام لاتحاداتٍ لتكون قوةً مكافِئة أمام سلطة المديرين، إلى التحوُّل نحو الحماية القانونية للاتحادات، التي جرى تبريرها في النهاية وعلى نحوٍ مكثَّفٍ بحلول الوقت الذي سُنَّ فيه قانون واجنر بأنها سبيلٌ لتحقيق توزيع أكثر عدالةً للثروة دون زيادة سلطة الدولة.
وشجَّعَتِ السياسةُ الفيدرالية الأمريكيين على تنظيم أنفسهم ليس كمنتجين فحسب وإنما كمستهلكين أيضًا؛ فحالَ إصدارِ روزفلت لقانون الإنعاش الصناعي الوطني، أعلن قائلًا: «سيكون هناك مجلسٌ استشاري للمستهلكين مسئولٌ عن تمثيلِ مصالحِ الجمهور المستهلك» في إجراءات وضع إدارة الإنعاش الوطني للقوانين.18 وقد أبدَتْ ماري هاريمان رامزي، رئيسة المجلس الاستشاري للمستهلكين، رغبتها في الاستماع إلى المستهلك الأمريكي العادي،19 فانهالت عليها الشكاوى، إلى جانب بطاقات الأسعار وغيرها من الأدلة على ارتفاع أسعار اللبن والخبز والأطعمة الأساسية الأخرى.
وبالمثل، دعَتْ إدارةُ الإصلاح الزراعي المستهلكين إلى الاجتماع الخاص بالمنتجين. أصبح فريدريك هاو — وهو إصلاحي محلي ومفوض الهجرة بنيويورك في العقد الثاني من القرن العشرين — مستشارَ المستهلكين لدى إدارة الإصلاح الزراعي في صيف عام ١٩٣٣. كانت مهمة هاو منع الأسعار من الارتفاع بمعدلٍ كبيرٍ يتجاوز المستوى الضروري للمنتجين لاسترداد ضريبة مراحل الإنتاج التي تفرضها إدارة الإنعاش الوطني،20 وبدأ مكتبه في إعداد «دليل المستهلك»، الذي أُدرجت فيه أسعار المنتجات الأساسية في مختلف المدن الأمريكية، موضِّحًا مقدار ارتفاع الأسعار عن التكلفة. ومثل رامزي، طلَبَ هاو من المستهلكين الإبلاغَ عن الارتفاعات في الأسعار، وتحديدًا البحث عن التفاوتات بين الأسعار المدرجة والأسعار الحقيقية.21
ولم يمضِ وقت طويل حتى بدأت أصوات المستهلكين التماسَ مساعدةٍ خارجيةٍ؛ فعيَّنَتْ رامزي اقتصاديين ونشطاء من أجل مشروع «بناء حركة حماية المستهلك»، وكانوا يأملون في إنشاء مجالس لحماية المستهلكين في أرجاء الدولة. ومع أن إعراب الرئيس عن أمله في أن ينضمَّ الأمريكيون إلى اتحادات العمَّال ساهَمَ في تنظيم القوى العاملة أكثر مما ساهَمَتْ به حركةُ حماية المستهلك، فإن مناشدة الصفقة الجديدة الأمريكيين للانضمام إلى اتحادات حماية المستهلك صنعَتْ أيضًا ثِقَلًا مقابِلًا أمامَ قرارات المديرين، بل أمام سياسات الإدارة نفسها أيضًا. وفي النهاية، مارسَتْ حركةُ حمايةِ المستهلك التي ساعَدَتِ الصفقةُ الجديدةُ في بنائها وربطها بسياساتها، ضغوطًا لتغيير تلك السياسات. واستجابةً لتلك الشكاوى، أقامت إدارةُ الإنعاش الوطني «يومَ النقد الميداني» الذي كشف عن حالةٍ من عدم الرضا العام بين المستهلكين عن عملها. عمل ليون هندرسون — أحد أنصار حماية المستهلك المحليين بإدارة الإنعاش الوطني — مع الاقتصادي جاردنر مينز لإعداد تقارير عن استمرار ارتفاع الأسعار دون تغييرٍ في ظلِّ سياسات إدارة الإنعاش الوطني؛ مما كان له تأثير على إحجام الكونجرس عن تجديد رخصة الإدارة. وأدَّت الارتفاعاتُ في أسعارِ اللحوم إلى إضرابات المستهلكين ضد الجزارين في أرجاء البلاد، وتعهَّدَ المستهلكون بألَّا يشتروا حتى تحوِّل الصفقةُ الجديدة من دعمها للمنتجين والقائمين على مراحل الإنتاج إلى المشترين. بدأ دونالد مونتجومري — أحد أنصار حماية المستهلك بإدارة الإصلاح الزراعي — حملةً ضد ارتفاع أسعار الخبز، ولما كانت الصفقة الجديدة قد أَعْلَتْ من القوة المكافئة المتمثِّلة في وعي المستهلك، كانت استجابتُها متمثِّلةً في التحوُّل عن التزامها الأول بتكوين تحالُفٍ بين الحكومة والصناعات، وتبنِّي دورٍ أكثر حيادية.22

ولكي تتمتع تلك القوى المكافئة بتأثير حقيقي كانت في حاجة إلى الاستقلالية؛ فكان الجنوب والغرب في حاجةٍ إلى تنميةٍ بحيث يتمكَّنان من توليد ثروتهما ورأس مالهما؛ ومن ثَمَّ تكون لديهما القدرة على تمثيل مصالحهما الإقليمية في مواجهة الشمال الشرقي. كان العمَّال والمستهلكون في حاجةٍ إلى التنظيم والشرعية حتى يتمكَّنَا من تمثيل مصالحهما باستقلالية عن إدارة الأعمال، وفي إطار سعي إدارة روزفلت إلى توفير درجة أكبر من الاستقلالية للأفراد الأمريكيين من العمَّال والمستهلكين، قرَّرَتْ تأمينَهم ضد فقدان الدخل، سواء كان مؤقَّتًا نتيجة للبطالة الدورية، أو على نحوٍ دائمٍ نتيجة للعجز أو الشيخوخة. ومن أجل تحقيق تلك الغاية كلَّفَ روزفلت لجنةَ الأمن الاقتصادي بوضعِ خططٍ للتأمين الاجتماعي.

fig7
شكل ٦-٢: روَّجَتْ ملصقاتٌ حكوميةٌ مثلَ هذا الملصق للضمان الاجتماعي، ووعدَتْ ملصقات أخرى بدعم الأرامل وأطفال العمَّال المؤهلين.
دعا التقرير الذي أرسلته لجنة الأمن الاقتصادي لروزفلت إلى تغطيةٍ شاملةٍ للمسنين من الأمريكيين عن طريق المعاشات المدفوعة جزئيًّا من خلال اشتراكاتهم الخاصة، وعلى نحوٍ متزايدٍ بمرور الوقت، من خلال العائدات العامة للخزانة الأمريكية. إلا أن روزفلت رفض تلك الخطة، واصفًا إياها بأنها «إعانة البطالة القديمة نفسها تحت مسمًّى جديدٍ»؛ كان روزفلت يريد خطةً ذاتيةَ التمويل تكون بموجبها معاشاتُ الشيخوخة على أساسِ نموذجِ الأقساط التأمينية، فيدفع العمَّالُ وأربابُ عملهم نسبةً مئويةً من أجورهم في صندوقٍ، وفي حالة الإحالة للمعاش في سن الشيخوخة، يسحب العمَّالُ معاشًا موَّلَتْه مدخراتهم؛ ومن ثَمَّ سيشكِّل البرنامج «خطةً تساهميةً بالكامل دون مشاركةٍ من جانبِ الحكومة»، على حدِّ طلب روزفلت.23
وسرعان ما ألقى المنتقدون بالضوء على نقاط الضعف بتلك الخطة؛ فلم يسلك أيُّ بلدٍ آخَر هذا المنحى في تمويل التضامن الاجتماعي، وذلك لسببٍ وجيهٍ؛ فالاشتراكات المحسوبة على أنها نسبة مئوية من الأجر تفرض عبئًا ضريبيًّا أثقل نسبيًّا على كاسبي الأجور الأفقر. أما داخل الإدارة، فقد ألقى هاري هوبكينز بالضوء على الطبيعة التنازلية للضرائب على الدخل، وأوصى بفرض ضريبة على الموسرين من الأمريكيين بدلًا من ذلك. وعلى صفحات الجرائد، شعر صانِعو الرأي بالقلق ووصفوا القانون بأنه «يتخذ تقريبًا الصورةَ التي لا ينبغي أن يكون التشريع عليها»، كما كتبت مجلة نيو ريبابليك.24
إن اهتمام الإدارة بالسلامةِ الماليةِ منَعَ أيضًا نظامَ الضمان الاجتماعي من الوصول إلى الأمريكيين كافةً. ولما كانت الولايات المتحدة قد تأخَّرَتْ في الالتفات إلى مجال التأمين ضدَّ الشيخوخة، فقد تمتَّعَتْ بميزة دراسة تجربة البلاد الأخرى. وكما أشار أبراهام إبشتاين، أحدُ أنصار التأمين ضد الشيخوخة، في عام ١٩٢٢: «من الواضح أنه لا يمكن أن يُطبَّق إلا على الأشخاص العاملين في وظيفةٍ منتظمةٍ؛ فيكاد يكون من المستحيل تحصيل اشتراكات من أشخاصٍ لا يعملون في وظيفةٍ منتظمةٍ، أو من العمَّال الزراعيين، أو ممَّن ليسوا أربابَ عمل، أو من اللائي يعملن بالمنزل دون أجر، أو من صغار التجار، وهكذا دواليك.»25 وعلى ذلك، سعَتْ إدارة روزفلت إلى اتباع خُطَى البلاد الأخرى التي استثنَتْ عمَّال المزارع والخدم بالمنازل من سياسات معاش الشيخوخة في البداية، وأذعن الكونجرس لذلك.

لم يكن ليُكتَب للقيودِ على الضمان الاجتماعي الاستمرارُ، ولم يظنَّ مسئولو الإدارة أنها ستستمر؛ ففي السر أدرَكَ الخبراءُ أن خطة الاشتراكات ستحتاج عمَّا قريبٍ إلى دعمٍ من الخزانة العامة، وفي العلن أعلنوا نيتهم بسْطَ نطاقِ البرنامج ليشمل المزيدَ من العمَّال عندما تتوفَّر لديهم القدرةُ على ذلك. وقد حقَّقَ النظام بتعديلاته في عامَيْ ١٩٣٩ و١٩٥٠ تلك التوقُّعات، ولكن حين صدَرَ التزم الضمان الاجتماعي بالقيود التي حدَّدها روزفلت له.

إذا كانت القرارات المتخَذَة بشأن تقييد الضمان الاجتماعي مبعثها الاهتمام بالسلامة المالية، فقد كان لها آثار أخرى على القوى العاملة الأمريكية دون غيرها، وكان لاستثناء العمَّال بالمزارع والخدم بالمنازل تأثيرٌ غيرُ عادلٍ على الأمريكيين من أصلٍ أفريقيٍّ؛ ففي مرة واحدة اقتطع الكونجرس نصفَ العمالِ من السود بالدولة من منظومة الضمان الاجتماعي، وحوالي ٦٠ بالمائة منهم بالجنوب. وإذا كان هذا التمييزُ العنصري نابعًا من الاهتمامات البريئة بالاستقرار المالي، فإن إضافةَ نصٍّ إلى القانون لم تفلت بسهولة من النقد.

كما اشتمَلَ الضمان الاجتماعي أيضًا على برنامجٍ للمساعدة المباشِرة للمسنِّين الذين تجاوزوا سنَّ العمل، والذين لم يكن بمقدورهم وقتها المساهمة في تمويلهم لمعاشاتهم الخاصة، مُبقِيًا على الأموال الفيدرالية للوفاء بأي مبالغ تنفقها الولايات لتوفير الإعانات المالية. وشمل البرنامجُ خططًا مشابِهةً لمساعدة المكفوفين أو الأطفال المعولين المحتاجين (لا سيما أطفال الأرامل)، على أساس أنهم طبقة من العاطلين المستحقين للمساعدة، مثلهم مثل المسنين. إلا أن السؤال عن مقدار ما يستحقونه من مساعدة ظلَّ مفتوحًا للنقاش.26
عند تحديد كيفية تخصيص الأموال الفيدرالية لتغطية نفقات الولايات من أجل مساعدة الفقراء من المسنين (برنامج مختلف عن خطة التأمين بالاشتراكات)، فرض مقترح الضمان الاجتماعي في البداية على الولايات معيارًا موحَّدًا «للعيش اللائق والصحة»، واعترض ممثِّلو ولايات الجنوب على أنه للوفاء بهذا المعيار ليكون مقبولًا في بقاع أخرى بالدولة سيقتضي الأمر منهم مضاعفةَ مساعدتهم للفقراء إلى أربعة أضعافها؛ لأن متوسط الدخل في الجنوب يبلغ في الواقع مبلغًا ضئيلًا يمثِّل ربع ما يكسبه الأمريكيون في الولايات الأغنى، وهذا التفاوت نابع في أغلبه — كما اعترف سيناتور من ولايات الجنوب — من سوق العمالة المختلفة المفروضة على «العدد الهائل من الأشخاص الملونين» في الجنوب. ورغم الصبغة العِرقية الواضحة التي تلوَّنَتْ بها اعتراضات الجنوب، جرى تمريرُ النص التشريعي الخاص بهم بموافقة الإدارة (بموافقة آرثر ميتشل، الأمريكي الوحيد من أصلٍ أفريقيٍّ بالكونجرس، والديمقراطي من ولاية إلينوي، الذي زعم أنه من غير الواقعي توقُّع زيادةٍ تبلغ أربعة أضعافٍ في مشروع قانون الغوث الحكومي).27

كانت النصوص الواردة بشأن البطالة في قانون الضمان الاجتماعي تشبه أجزاءً أخرى من الخطة؛ فبالنسبة للتأمين ضد الشيخوخة، سيجري تحصيلُ القاسم الفيدرالي من التأمين ضد البطالة من الضرائب على الدخل؛ وبالنسبة لمساعدة المستحقين وغير القادرين على العمل، سيكون بمقدور الولايات تحديد مدى سخاء إعانات البطالة. ولكن تعويض البطالة ذهَبَ إلى ما هو أبعد من ذلك ليمنع استحواذَ واشنطن على السلطة أكثر من اللازم؛ فما إن وضعت الولاياتُ خططَها الخاصةَ بها لتعويض البطالة، حتى أصبح بمقدور أرباب العمل خصمُ ما يدفعونه إلى حكومات الولايات مما كانت تدين به إلى الحكومة الفيدرالية؛ ومن ثم شجَّعَ القانونُ الولاياتِ على وضع برامج للتأمين ضد البطالة، وليس على وضع خطة قومية.

إذا كان الضمان الاجتماعي أصبح الأساسَ لدولةِ الرفاه الأمريكية، كما زعم كثيرٌ من المعلقين فيما بعدُ، فقد أصبح كذلك برغم النوايا الواضحة للمزارعين المنضمين إليه. فلم يرقَ ما يوفره من مساعدات إلى مستوى الرفاه مطلقًا، ولا حتى الغوث؛ وذلك بسبب إصرار روزفلت على أن تعتمد تلك المساعدات على مساهمات المنتفعين وليس العائد العام. ولم يتمتع الأمريكيون بتلك المساعدات باعتبار أنها حق — ليس إلا بمقتضى شرائهم جزءًا من الخطط — كما كانوا سيفعلون مع برنامج تأمين خاص. كان روزفلت يريد الحدَّ من المساهمات الفيدرالية إلى أقصى درجةٍ ممكنةٍ لصالح السلامة المالية؛ ومن ثَمَّ الخطة التساهمية، وخطط الدولة لمواجهة البطالة، ونسبة مشاركة الحكومة الفيدرالية وما يقابلها من مشاركة كل ولاية في إعانات الشيخوخة. «ولا نيكل آخَر إضافي … ولا نيكل واحد. فبمجرد أن تتخطى نسبة المشاركة، لن يكون هناك حدٌّ أقصى، وسرعان ما ستجدنا نسدِّد الفاتورة بأكملها.»28
كما لم يدفع الضمانُ الاجتماعي الولايات المتحدة لتتخذ مسارًا مثل ذلك الذي سارت عليه أمم حديثة أخرى، حيث اختار المشرِّعون الأمريكيون عوضًا عن ذلك نظامًا تساهميًّا من الضرائب التنازلية. وما كان تبنِّي ضريبة تصاعدية على الدخل من أجل المساعدات القومية ليصبح محاكاةً للإنفاق الاجتماعي بالبلاد الأخرى فحسب ويخدم العدالة الاجتماعية كما زُعِم، بل كان يمكن أن يحقِّق عملًا أفضل على صعيد محاربة الكساد أيضًا. إلا أن أصحاب الصفقة الجديدة لم يضعوا نظام الضمان الاجتماعي ليكون سياسة مواجهة للكساد، بل كان يشكِّل ضمانًا للأمريكيين لمستقبل مستقلٍّ عن أرباب عملهم، ومن ثَمَّ أساسًا لاستراتيجية تعزيز القوى المكافئة في أرجاء البلد. علاوة على ذلك، مثَّلَ نظامُ الضمان الاجتماعي خطوةً متواضعةً على ذلك الطريق؛ فالإصلاحيون بلجنة الأمن الاقتصادي ارتأَوْا أنه لجعل الموظفين مستقلين كما ينبغي، كانت الولايات المتحدة في حاجةٍ إلى نظامٍ قوميٍّ للتأمين الصحي؛ ولكن المعارضين — لا سيما الجمعية الطبية الأمريكية — قاوَموا حتى الجهود الرامية لبحث المسألة مقاومةً شرسةً لدرجة أن اللجنة أسقطتها.29 وبدلًا من زيادة سلطة الدولة، فضَّلَ أصحابُ الصفقةِ الجديدةِ زيادةَ سلطة الأفراد من المواطنين ومجموعات المواطنين، وقاموا بذلك في إطار ما اعتبروه حدودًا سياسية واقعية.
في الوقت الذي كان روزفلت يتجه فيه إلى إعادة انتخابه في عام ١٩٣٦، كان له أن يدَّعِي العمل من أجل كلٍّ من إنعاش الاقتصاد الأمريكي وإصلاحه، لصالح خلق سوقٍ أكثر عدالةً ولصالح الحزب الديمقراطي، وهما ما تصادَفَ أن تداخَلَا نتيجة السمات الجغرافية والتاريخية المميزة للتجربة الأمريكية دون سواها. كان الجنوب والغرب في حاجة إلى تنمية اقتصادية؛ بينما كان الشمال الشرقي الصناعي في حاجةٍ إلى انتشاله من الغرق في البطالة. فكل السدود العظيمة المشيدة والطرق المشقوقة والجسور المبنية في عهد إدارة روزفلت — البنية التحتية التي حملت بشارة الحداثة إلى الجنوب والغرب — بلغت نسبةً قليلةً من إجمالي إنفاق الصفقة الجديدة، والذي ذهب ٦٠ بالمائة منه بدلًا عن ذلك إلى الغوث، الذي تركَّزَ بالأساس في الولايات ذات الطابع الحضاري بالشمال الشرقي.30

وفي استجابة روزفلت لتلك الاحتياجات، كان يستجيب أيضًا للمكونات الأساسية التي كان في أمسِّ الحاجة إليها كلٌّ من المستهلكين والعمَّال بالدولة الصناعية والمواطنين الذين يحقُّ لهم التصويت في الجنوب والغرب، واستمدوا كلهم القوةَ والاستقلاليةَ من سياساته. ومع ازدياد قوتهم، دفعوا الرئيس إلى فعل المزيد من أجلهم. وفي النجاح الذي حقَّقته الصفقة الجديدة كان يكمن احتمال فشلها؛ فكلما عَلَتْ تلك الأصوات، زاد وضوحُ ضجيجِها بالمطالَبة بأهدافٍ مختلفةٍ، ولم يتمكَّن روزفلت من توحيدها إلا من خلال جهودٍ غير تقليديةٍ وما تمخَّضَ عنه التاريخ من صروف.

هوامش

(1) John Kenneth Galbraith, American Capitalism: The Concept of Countervailing Power (New York: Transaction Publishers, 2004), 137.
(2) Jason Scott Smith, Building New Deal Liberalism: The Political Economy of Public Works, 1933–1956 (Cambridge: Cambridge University Press, 2006), 120-21.
(3) Thomas K. McCraw, TVA and the Power Fight, 1933–1939 (Philadelphia: J. B. Lippincott Company, 1971), 30.
(4) Ibid., 1.
(5) Ibid., 33.
(6) 48 Stat. 58.
(7) David Lilienthal, The TVA: An Experiment in The “Grass Roots” Administration of Federal Functions (Knoxville, TN: 1939).
(8) McCraw, TVA, 138.
(9) Theodore Saloutos, The American Farmer and the New Deal (Ames: Iowa State University Press, 1982), 219.
(10) McCraw, TVA, 142.
(11) John Joseph Wallis, “The Political Economy of New Deal Spending Revisited, Again: With and Without Nevada,” Explorations in Economic History 35, no. 2 (1998).
(12) Mark H. Leff, The Limits of Symbolic Reform: The New Deal and Taxation, 1933–1939 (Cambridge: Cambridge University Press, 1984), 137, 56.
(13) Meg Jacobs, Pocketbook Politics: Economic Citizenship in Twentieth Century America (Princeton: Princeton University Press, 2005), 139.
(14) Ibid., 137.
(15) Ibid., 145.
(16) 49 Stat. 449.
(17) Irving L. Bernstein, Turbulent Years: A History of the American Worker (Boston: Houghton Mifflin, 1971), 769-70.
(18) “President’s Statement on Recovery Act Policies,” New York Times, 6/17/1933, 2.
(19) “A Champion of the Consumer Speaks Out,” New York Times, 8/6/1933, SM5.
(20) “Consumer Bureau to Check Prices,” New York Times, 6/24/1933, 22.
(21) Jacobs, Pocketbook Politics, 119.
(22) Ibid., 131-32.
(23) Mark H. Leff, “Taxing the ‘Forgotten Man’: The Politics of Social Security and the New Deal,” Journal of American History 70, no. 2 (1983): 366–68.
(24) Ibid.: 373.
(25) Gareth Davies and Martha Derthick, “Race and Social Welfare Policy: The Social Security Act of 1935,” Political Science Quarterly 112, no. 2 (1997): 222.
(26) James T. Patterson, America’s Struggle against Poverty, 1900–1985 (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1986), 67–75.
(27) Davies and Derthick, “Race and Social Welfare Policy,” 227.
(28) James T. Patterson, The New Deal and the States: Federalism in Transition (Princeton: Princeton University Press, 1969), 93.
(29) Daniel S. Hirshfield, The Lost Reform: The Campaign for Compulsory Health Insurance in the United States from 1932 to 1943 (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1970), 42–70.
(30) Wallis, “Political Economy,” 167.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤