الفصل الأول

قال الراوي:

أطَلَّتْ خَيْلَاءُ من نافذة مَخْدَعِها في أول الصباح، وكانت الشمس تُرسل أول أشعَّتها تتدسَّس بها بين جُذوع الأشجار، وخلال أوراق الْغُصون، وعلى رءوس الرُّبى الخُضر المحيطة بقصر غُمْدان. وكانت رُءوس جَبَلَيْ نُقَم وعيبان ما تزال مُتستِّرة وراء غِلالة رقيقة من الضباب، ترمق الشمس من وراء نِقابها الشفاف، كأنها حسناء مُنعَّمة تطلُّ من ثنايا أستار قصرها الشامخ لتجتليَ طلعة ملِك في موكبه. وكان في الجو عطر لطيف لا تشبهه عطور الزهر، يسري في الكون خفيًّا لا يُدركه الحس، ولكنه يملأ النفس بهجة، ويُشيع فيها شجوًا هادئًا.

وكانت الآفاق تبدو في النور الخافت وَسْنَى ساكنة، وإن كانت تنبض بمثل نبضات الأمواج الهادئة في البحيرة الصافية، وتتردد منها أغنية صامتة لا تقع في الأسماع، ولكنها تبلغ أبعد أغوار القلب. أو هكذا أحست خَيْلاءُ وهي تفتح نافذتها الْمَرْمَرية في مَخْدعها، وتطل على مروج صنعاء الفسيحة الباسمة. وأخذت تملأ صدرها من النسيم الفاتر الذي يحمل رسالة الخريف الوديع من البساتين المزدهرة الممتدة حول القصر. أهو الخريف؟ أهو الخريف الذي تذبل فيه أوراق الأشجار وتصفرُّ وترفُّ متساقطة مع هبَّات الهواء؟ أم هو الربيع قد عاد أدراجَه متردِّدًا مُتشبِّثًا بحقل صنعاء اليانع، لا يريد أن يتخلَّى عن بساتينه ومروجه؟ وأجالت خَيْلاء بصرَها في المنظر الممتد تحت عينيها، وكانت الأحاديث الصامتة تتردد في سرِّها منسابة في رفقٍ كما ينساب ماء الجدول الصافي في ظلال الخمائل. ورأت هنالك تلك الشجرةَ الضخمةَ التي تبسط أغصانها على ممشى البستان، وذلك الطريقَ الملتويَ الذي يخرج من بين الشجيرات كأنه يتفلَّت منها مُداعبًا. ما كان أبهج الألوان في ذلك الصباح، كأنما هي باقية على ما كانت عليه في أصائل الربيع، عندما كانت الأزهار تتفتَّح ضاحكة مُتبرجة، لا تداري مرحها ولا تتواضع في الْمُباهاة بحُسنها. وهنالك الركن الظليل الذي تعرش فوقه أعواد الياسمين، وتلك الربوة التي تتسلق عليها الأعواد المدَّادة وتلف خيوطها الدقيقة على ما يعترض سبيلها من فروع النبات، حتى تتوكَّأ إلى القمة وتُدلي بعناقيد زهرها الأحمر، كالعروس إذا جُلِيَتْ ليلة الزِّفاف. لقد مضى حين طويل منذ تلك الأماسي السعيدة التي كانت خَيْلاء تمرح فيها هناك مع سيف. ولقد شهدت هذه الأركان الظليلة كلَّ مشاهد السعادة التي مرت بها في حياتها. هناك كانت تلعب مع سيف في أيام الصبا، وهما يسابقان ظلَّهما ويتفنَّنان في صياغة العقود من الأزهار، ويتسلَّقان الربوة ليطلعا من فوقها على أعشاش العصافير في أعالي الشجر، ويرقبا يومًا بعد يوم هل خرجت أفراخُها من بيضها؟ وهل كسا الزغب أجسادها الحمراء الْمُرتعشة؟ وهل استطاعت أن تهزَّ أجنحتها وتطير جافلة وراء أبوَيها إلى أعالي الغصون، ثم تقف هناك تنظر إليهما وهي لاهثة كأنها تُعابثهما. وسألت خَيْلاءُ نفسَها: أما زال سيف في صنعاء ولم ترَه منذ أسبوع؟ أيكون في غُمْدان وهي تترقَّب كلَّ يوم أن تلمحَه في بعض مَماشِي البستان أو في جانبٍ من البهو، فلا يلوح لها ولا يسعى إلى لقائها؟ لَشَدَّ ما تَغَيَّرَ سيفٌ في تلك الأسابيع الأخيرة. كانت كلما رأته توقعت أن يُقبِلَ عليها باسمًا في خجلٍ يعتذر إليها من انقطاعه عنها، ويُحدثها عمَّا عاقَهُ عن لقائها من صيدٍ أو نزهة، ولكنه كان ينظر إليها مُرتبكًا مُضطربًا، ثم يستأذن فيمضي سريعًا كأنه يهرب من لقائها. أهو سيف الذي نشأ معها وأَنِسَ إليها وكان لا يستطيع أن يذوق طعامًا ولا أن يطيب له سَمَرٌ إلا معها؟ أهو سيف الذي جعلها ترى في الربيع ما لم ترَه عين، وتَسمع من أناشيد الحياة ما لم تسمعه أذن؟ أهو سيف؟

أكان يُحْيِي فيها تلك السعادة لكي يُذيقَها مِنْ بَعْدُ مرارةَ الوحشة وقلقَ الخوف والشك؟ وما الذي اعتراه فجعله يغيب عن القصر أيامًا قد تمتد إلى أسابيع، فإذا ما عاد من غيبته الطويلة لم يُسرع إلى تلك المسارح التي كانا يمرحان فيها معًا، ولم يَسْعَ إليها مُعتذرًا يُداري ذنبَه في ابتسامته الوديعة؟ وما ذلك الذي ينزوي به في مخدعه فلا يكاد يبرحه، حتى إذا لقيَها عفْوًا في ساعةٍ لم يُزِد على تحيةٍ قصيرة يعقبها صمت، ثم يمضي عنها كأنه يُجمجم في نفسه حديثًا خَفِيًّا؟ كانت خَيْلاء إذا رأته وتلاقَتْ نظراتهما بعثتْ إليه عتابًا لا يمكن أن يخفى عليه. كانت نظراتها تكاد تَصِيح به حانقة، ومع ذلك فقد كان يُغضي مُسرعًا ثم يغلق نفسه دونها. وسألت نفسها: أيكون في موكب اليوم؟ أيذهب إلى الكنيسة في موكب أبيه الملك؟ أم يتخلف عنه كما تخلف مِنْ قَبْلُ مِرارًا؟ وذكرتْ يومَ ذهبَتْ في أول موكب إلى الكنيسة العظمى يومَ افتتحها الملكُ أَبْرَهَةُ مع رسول قيصر، كان يومًا لا تنساه، كأنه عَلَم في حياتها.

وكان سيف في ذلك اليوم يركب مُهْرَه الأبيض الذي أهداه إليه أبوه ويسير وراء هودجها، تراه كلما نظرت من ثنايا الستور الحريرية، وهو ينظر نحوها باسمًا. ثم جلس في الكنيسة إلى جنبها، وكان يُرتل معها بألفاظٍ رومية، وكلما أخطأ في لفظٍ وقف حتى يتبع صوتها، وكاد يُضحكها إذ كان يُبدل كلمات الترتيل بأخرى من عنده عربية لا تتَّسق مع الصلاة. أيذهب سيف في موكب اليوم؟

وارتدت خَيْلاء من النافذة وعلى قلبها سحابة، فذهبت إلى ركن مخدعها نحو تمثال فضي بارع الصناعة ليسوع الطفل في مهده، وأمه العذراء إلى جنبه، تمدُّ كفَّيها نحوه في عطف، وترنو إليه في حنانٍ وخشوع. وكان ذلك التمثال هدية أهداها إليها الملك الطيب أَبْرَهَةُ إظهارًا لإعجابه بتقواها وحماستها لديانة المسيح. وكانت العذراء حاميتَها، تلجأ إليها في سعادتها كما تلجأ إليها في قلقها واضطرابها، وكان المسيح سيدها وملاذها، تتجه إليه ليزيد قلبها حبًّا وسلامًا. ونظرتْ إلى الصورة بقلبٍ متلهف وهي تكاد تسمع منها أصداء المحبة والرحمة التي كانت تنبعث من الأم الطاهرة البتول إذ تناغي وليدها.

وجثَتْ في صمتٍ وضمَّتْ كفَّيها وأمالت رأسَها تُصلي، وقلبها يُسبح شَجِيًّا يمتزج فيه القلق والأمل، وكانت صلاتها الصامتة حارَّة تتجه فيها إلى منبع الحب الفيَّاض؛ ليزيد قلبها حبًّا. وأحسَّتْ بعد قليل أن السلام يغمرها، فقامت كأنها ألقتْ عن صدرها ما فيه من همٍّ وملأتْه أملًا. وذهبت خفيفة إلى خزانة الملابس لتختار الثوب الذي تلبسه لموكب اليوم، فسوف تذهب مرة أخرى إلى الكنيسة العُظمى التي جعلها أَبْرَهَةُ آيةً من آيات الإبداع؛ لِيُظْهِرَ فيها ديانة المسيح على الوثنية الْبَلْهاء. وحانت منها نظرةٌ إلى المرآة المعلقة على جدار الْمَخْدع، فتعلقت بالصورة التي بَدَتْ لعينيها، ولمست بأطراف بَنانها جانب شعرها الأسود الغزير، وتبسَّمتْ عندما تذكرت سؤال سيف لها عن ذلك الخال الأسود الذي يتوسَّط خدَّها. أحقًّا سُميتْ خَيْلاء من أجل تلك النقطة السوداء التي كان سيف يُحدثها عنها كلَّما لَقِيَها؟ كان يقول لها إن ذلك الخال الأسود بقيةٌ من جِلْدها القديم أيامَ كانت من قوم أَبْرَهَة. وكانت هي تفاخره بأنها عربية مثل الملكة رَيْحانة. وصَرفت بصرَها عن المرأة في شيءٍ من التردد، وقد أحسَّتْ بما يُشبه الخجل من شعور الغرور الذي خامرها.

واختارت ثوبًا حريريًّا أبيض تُزينه خيوط من الذهب والفضة، وقِطَع من الجواهر الْمُؤْتَلِقَةِ في مواضع أزراره. وكان الثوب من صنع القسطنطينية العظمى، وهو من هدايا قيصر إلى صديقه أَبْرَهَة اعترافًا بفضله في خدمة المسيح. ولطالما حدَّثها سيف عن أمنيته في زيارة عاصمة قيصر، تلك العاصمة الكبرى التي تبعث مثل هذا الثوب الرائع، وما يكون أروعها من رحلة لو تحققتْ، فذهبتْ مع سيف يَرَيانِ معًا من عجائب الأرض ما لا يخطر على قلبها. وحملت الثوب إلى النافذة فرفعته بين يديها ليستقبل من ورائها نور الصباح مُتلألئًا، ولكن الشمس لم تُشرق بعد. أَلَا ما أبطأ الشمس في طلوعها من وراء الأفق! ألا يكون سيف قد خرج إلى البستان ليملأ صدره من نسيم هذا الصباح؟ وعادت تسأل نفسها: أيذهب اليوم إلى الكنيسة ويجلس بجانبها؟ وعادت إليها صورته يوم ذهبا إلى هناك معًا وجلس إلى جانبها، وكانت أصوات الترتيل ترنُّ بين الجدران جليلة عميقة كأنها تسبيح الملائكة. أيجلس إلى يسارها كما جلس مِنْ قَبْلُ ويهمس في أذنها همسات خافتة في أثناء الصلاة؟ كان يُحدثها مرحًا عمَّا سمع عن القسطنطينية وعن قصر خليفة المسيح فيها، وكان متدفق الهمسات ظريف الفكاهة، حتى إنه لم يصمت في أثناء الصلاة. كان الكهنة يرتلون صلوات لا يفهم منها حرفًا، والناس من ورائهم يُنشدون جماعة. وكانت هي تحفظ ذلك الترتيل كما تحفظ أغنية عذبة، وهمس سيف عندما تعثر في ترتيله الرومي قائلًا: ألا يفهم الله الصلاة إلا بالرومية؟ عفا الله عنه فإنها سوف توصيه إذا رأته ألَّا يعودَ إلى مثلها. ولكن أيحضر موكب اليوم؟ أم يتسلل من مَخدعه كما تسلل في أيام أخرى، فيغيب أيامًا يقضيها حيث لا تدري؟

وأتمَّتْ زينتها في احتفال وعناية، وتلك الأحاديث تتردد في ضميرها، ثم عادت إلى النافذة تُقلب بصرها في الأفق، وكانت الشمس قد زحفت بطيئة في طرَف القبة اللَّازَوَرْدِيَّة، وأخذت تمسح بأشعَّتها على خُصَل الأغصان الْخُضْر. ودبَّتِ الحركة في جوانب القصر فاترة، كأنها تتمطَّى في أول يقظتها.

ولكن الموكب لن يبدأ حتى يستقبل الملكُ وفودَ القبائل والمدائن الذين أَتَوْا إليه من أودية اليمن البعيدة؛ ليؤدوا له تحيَّتهم قبل أن يخرج من صنعاء إلى الحرب التي عقد النية عليها. سيذهب أَبْرَهَةُ كما قال إلى مكةَ بعد يومٍ واحد، وسيهدم كعبَتها حتى يُزِيلَ من الأرض رِجْس الوثنية، ويجعل العرب جميعًا يَحُجُّون إلى كنيسته البديعة، وودَّتْ لو كان أَبْرَهَة عربيًّا. كان رجلًا رحيمًا طيِّبَ القلب، لا يدع فرصة إلا انتهزها ليُبديَ لها جانبًا من رحمته، ولو كان عربيًّا لَمَا أحسَّتْ شيئًا يَشوب إعجابَها به ورضاءها عنه. فما تلك الكعبة التي لا تزيد على رُكام من الحجارة تحيط بها تماثيلُ شَوْهاءُ لآلهة زائفة؟ أين تلك الكعبة من الْقُلَّيْس التي بناها أمهرُ صُنَّاع القسطنطينية ومهندسوها لكي يُمجَّد فيها اسم المسيح؟ ولكن متى يبدأ الموكب والشمس ما تزال تدبُّ بطيئة في السماء؟

ونزلتْ إلى البستان لتجولَ فيه جولة حتى تحين ساعة الموكب، وتمنَّتْ لو لَقِيَها سيف هناك، كانت خُطاها مترددةً كأنها كانت تخشى أن يراها أحدٌ في مثل هذه الساعة من الصباح خارجةً من مَخدعها، وقد يحسَب أنها ذاهبةٌ إلى هناك لعلها تراه. وذهبت إلى المجلس الساكن تحت ظلال أشجار الْجَوْز، وكانت المقاعد الْمَرْمَرية تُباري أشعة الشمس الوردية التي كانت تطل من بين الأغصان والجذوع. هناك كانت آخر مرة لَقِيَها سيف وحدَّثها. وعاد صوتُه يرنُّ في أذنيها وهو يصف لها مُهْرَه الأبيض الذي أهداه إليه أبوه، وكيف كان يسبق الوحش في غير مشقَّة. ألم يكن عجيبًا أن يكون سيفٌ مِنْ وَلَدِ أَبْرَهَة؟ كان يشبه رَيْحانةَ، الملكةَ العربية في نَظْرة عينيه وفي دِقَّة حاجِبَيْهِ وفي صورة شفتَيْهِ. كانت تتأمل هاتين الشفتين المملوءتين بالحياة كأنهما هما اللتان تتحدثان، وكان في صوته غُنَّة تُشبه … ماذا تُشبه؟ ولم تجد كذلك وصفًا يَصْدُق على نبَرات صوته عندما كان يتحدث إليها. ولكنه كان على كل حال لا يحمل شيئًا مِنْ شَبَهِ أَبْرَهَة، فأين هو وأين مسروقٌ أخوه الذي ولَدَتْه رَيْحانة؟ كأن الملكة الحسناء أودعَتْ في ولدها الأول كلَّ حياتها وكلَّ فنون طبيعتها الصافية. كان مسروقٌ يُشبه أباه في لونه وفي قِصَر قامته، وهو مستدير الملامح والأعضاء، له نظرة تشبه نظرة البقرة، فأين هو من سيف الذي يطلع مثل غصن السَّرْو في دِقَّة عُوده وطُول قامَته؟ وأين هو من سماحة وجهه ومن نظرته التي تُذكرها بلمعة النجم في الليلة الصافية؟ وأما بكسوم بن أَبْرَهَة الأكبر فما أشبهَه بأبيه في وجهه وهامَتِه، وإن كان في ضخامة قامته يتطوَّح كالنخلة الباسقة. وكان شعاع عينيه العابستين أشبهَ بلمعان السيف الصَّقِيل، فيهما بَرِيقٌ يَبْعَثُ البرد إلى فقرات الظهر، وأما صوته فكان مثل رَنِين النُّحاس، جافًّا كأنه كتلة من مادَّة. لا شك أن أمه الْحَبَشِيَّة كانت تستطيع أن تروِّضَ الْفُهود التي تَحوم في الغابات في طلب فريستها. ثم بَسْباسَة ابنة أَبْرَهَة، أتكون ابنة رَيْحانة حقًّا؟ كانت لا تحمل منها شبهًا إلا أن يكون شعرها الطويل الفاحم. ووقع في نفس خَيْلاء ما يشبه أن يكون غَيْرَة، وتنفَّسَتْ نفَسًا عميقًا فيه شيء من الحسرة. وخطر لها عند ذلك سؤالٌ كان يخطر لها بين حينٍ وحين، فيَضيق به صدرُها ويَشْرُد منها النوم حتى تقومَ إلى جانب تمثال العذراء، فتجثو عندَه تصلي وتدعو حتى تنقشعَ عنها وساوِسُها. من هي؟ وما علاقتها بكل هؤلاء الذين تعيش بينهم في غُمْدان؟ بل ماذا أتى بها إلى ذلك القصر؟ وهي لا تعرف صِلَتَها بأحدٍ مِمَّن فيه؟ وماذا عسى تقول بَسْباسَة عنها إذا خلتْ إلى نفسها؟ أما تقول في سرِّها: «مَنْ هذه الفتاة العربية التي تعيش معنا؟»

وما عسى رَيْحانة الوديعة تقول عنها فيما بينها وبين ضميرها؟ بل ماذا يقول سيفٌ عنها؟ وأرادت أن تصرف عن ذهنها ذلك السؤال الذي أوشك أن يملأَ قلبَها قلقًا ويُفسد عليها بهجة منظر الصباح، وكَبَحَتْ نفسَها في شيء من العنف كأنها تُؤَنِّبها على الاسترسال مع هذا الْوَسْواس الذي يخطر لها آنًا بعد آخر، فما الذي يعنيها من كل تلك الأسئلة وهي ترى مكانها في غُمْدان عزيزًا كريمًا؟ لقد نشأت فيه منذ طفولتها لا تعرف شيئًا من هذه الصلة ولا تسأل عن شيء، بل إنها كانت تعرف دائمًا أن هذا القصر هو موطنها الذي لم تعرف غيره. لم يسألها أحد مِمَّن فيه عن نفسها، ولم تسأل هي أحدًا عن شيء من نفسها. لم تعرف شيئًا سوى أنها عربية مثل رَيْحانة، فهكذا قالت الملكة النبيلة لها كأنها تفخَر بها، وماذا ينفعها أن تعرف أمرًا لا يَزِيدُها شيئًا ولا يُنْقِصُها؟ ماذا يُجْدِيها لو عرفت اسمًا قيل لها إنه اسم أبيها، واسمًا آخر قيل له إنه اسم أمها؟ بل ماذا يُجْدِيها لو عرفتْ كل نسبتها وأنها تتصل بملوك حِمْيَر القدامى؟ بل ما لها تذهب إلى كل هذا وقد تكون معرفة ذلك النسب باعثةً لها على البؤس والشعور بالْمَذَلَّة؟ ماذا يكون لو عرفتْ أن أباها كان أحد المساكين من الأعراب الْعُراة الذين يَظهرون لها في طريق المواكب أحيانًا؟ بل ماذا لو عرفتْ أنها لم تكن سوى طفلة بائسة وجدوها ذاتَ يومٍ مُلْقاة عند باب القصر، فتحركَتْ شفَقة الملكة عليها فضمَّتها إلى جَناحها؟ وكانت في أثناء سَبْحها في الخيال تنظر إلى الأغصان تتأمَّلها كيف تتداخل وكيف تتعانق، وإلى أشكال أوراقها وصور ثمارها. كان بعضها منسرحًا ليِّنًا غضًّا، وبعضها مُعقَّدًا جافًّا، وبعضها يمتدُّ بظله الوارف، وبعضها يسمو بجذعه الفارع. حتى الأشجار لا يُشبه بعضها بعضًا، وحتى الغصون لا تتساوى في هيئتها وإن كانت فروع شجرة واحدة، فهل تزيد الشجرة أو تنقص شيئًا إذا هي لم تعرف من غرسها؟ أين كانت ثمرتها الأولى التي خُلقت بذرتها؟ ألم يكن لها أصل ونسب كسائر الخلق؟ لا شك أنها انحدرَتْ من بذرة شجرة أو من فرع غصن كما انحدرت بَسْباسَة وكما انحدرت رَيْحانة نفسها، فلِمَ تُفْسِد الصباح بالاسترسال في هذا الْوَسْواس العقيم الذي لا يستطيع أن يُعْقِبَ شيئًا سوى الاضطراب؟ ولمع لها شخص يُقْبِلُ من بعيد يلوح شبحُه خَفِيًّا من خلال جُذوع الشجر، فانتفضَتْ وصرفَتْ وجهها عنه حتى لا يَحْسَبَ أنها كانت تترقَّب حضوره، إنه هو! ومرَّتْ لحظات طويلة، ثم اقترب الشخصُ حتى ظهر لها من خلال جذوع الشجر، ولكنه لم يكن سوى أحد خدَم البستان يُبَكِّر إلى عمله ليجمعَ ما تساقط من الأوراق الصفراء في ساعات الليل، ويقطع الأعواد الجافة الناشزة من الفروع المتدلية. وسبحت في حديث مع نفسها مرة أخرى: «إنه عربي من هؤلاء التعساء الذين يعملون في قصر غُمْدان منذ الصباح الباكر إلى المساء، في جمع الأقذار أو مسح الأوضار وخدمة الدوابِّ، فإذا ما فَرَّطوا في شيء أو استراحوا لحظةً أَهْوَى الحراسُ الأحباشُ على ظهورهم بالسِّياط. وإذا كانت سِياط الأحباش تُلْهِب ظهورهم بين حينٍ وآخر فإن هناك سِياطًا أخرى تُلهب أرواحهم في كل لحظة، لا تدَع لهم سلامًا في ليلٍ ولا نهار، ولا تعفيهم من العذاب حتى في خلواتهم؛ سياطَ الجوع والخوف. هي سِياطٌ لا نراها بأعيننا، ولكن الأشقياء يُحِسُّونها إحساسًا أقوى من الرؤية وأشد من اللمس، ويتضاعف عليهم العذاب أن يُحِسُّوا به في أنفسهم ويَرَوْهُ فيمن يحيون، ينظرون إلى أبنائهم وبناتهم وهم أطفال أو صِبْيَة يَتَضَوَّرون من الجوع ويسيرون عُراة وينامون على صفعاتٍ حانقة، يوقعونها هم أنفسهم عندما تضيق صدورهم من اليأس.»

وانتفضَتْ خَيْلاء تريد أن تُبعد عن ذهنها تلك الأفكار المزعجة، وقلَّبت بصرَها لعلَّها تقع على سيف كأنها تلتمس النجاة، إنها عندما تحدثه تُحِسُّ أن الحياة أقل تعاسة، وأن الأمل أقرب مما يُخيَّل إليها في وَحْدَتِها، ولكن السؤال عاد إليها في لَجاجة وعَنَت: «من كان أبي؟ ومن كانت أمي؟ أم ولدتُ هكذا بغير أبوَين كما تنبت حشائش البر؟» وتذكَّرتْ يومَ كان سيف معها تحتَ هذه الشجرة نفسها، فرأى أحدَ الحراس الأحباش يُلْهِب بسوطه ذي الأطراف الرَّصاصية ظهرَ رجل مثل هذا المسكين، عندما كان يترنَّح بين الأشجار ليلتقطَ الأوراق الذَّاوِيَة، وأسرع سيف إلى الحبشي فنزع منه السوطَ وأهوى به عليه. ولم يكن عجيبًا أن يغضب سيف لمثل هذه القسوة، ولكن غَضْبَته ملأت قلبَها إعجابًا وشكرًا … وحبًّا أيضًا، إن كان هناك ما يمكن أن يزيد قلبها حبًّا له. ماذا يكون لو كانت هي ابنة لأحد هؤلاء الأشقياء؟ أتكون هكذا ذليلة هزيلة كالكلاب الضالة؟ أهما الجوع والخوف اللذان يولِدان الذُّلَّ في نُفوسهم؟ أم هي نُفوسهم الذليلة التي تجعلهم يسقطون في مَهاوي الجوع والخوف؟ أَمَا يستطيعون أن يَهُبُّوا للدفاع عن أنفسهم إذا ألهبت ظهورَهم السِّيَاطُ؟ أيَخْشَوْنَ الموت؟ وأي موت أشدُّ مما هم فيه من البلاء؟

ورفعت يدها إلى عينها عندما أحسَّتْ عليها غِشاوة من الدمع، فمسحتها وقامت تسير في ظل الممشى لعلَّ الحركة تُذْهِب عنها هذه الهواجس المُفزِعة.

ولمَّا اقتربت من العربي النحيل مدَّتْ إليه يدَها بقطعةٍ من الذهب، وعجبتْ عندما فزع كأنه يهرب منها، فدعَتهُ في رفقٍ حتى أَنِسَ وعاد إليها مترددًا، وأخذ الدينار ينظر إليه نظرة غريبة، ثم أسرع عنها بغير أن ينطق بحرف. المسكين! إنه يشبه كلبًا طالما تعوَّدَ أن يُضْرَبَ بالعصا، فلا يأمن اليد التي تمتد إليه بقطعة من الطعام.

وسارت بين أحواض الزهر اليانعة وفي نفسها شيء من التوزُّع، وكان الندى ما يزال يُخضل الأوراق ويزيد ألوان الزهر نضرةً وبهاء، ولكن أسمال العربي البائس كانت ترفُّ دونها. «إنها إهانة للإنسانية أن تَهَبَ الطبيعةُ هذه المباهج إلى جَنب الْمَقاذر التي يَهْوِي الإنسان إليها!» هكذا كانت خَيْلاء تُحدِّث نفسها في حَنَق. وكانت السحب البيضاء تتسابق في السماء مُقبلة من الجنوب، وترددت أصوات الطير وهي تتواثب وتتداعى فوق الغصون، واستمرت خَيْلاء في تفكيرها: «هذه الطيور لا تعرف سادةً وليس فيها أغنياء وفقراء، وقد تتطاحن فيما بينَها، وقد يقتل الصقر عصفورًا، ولكنها لا تتخذ عبيدًا.» وعادت إلى القصر مُسرعةً إلى مَخدعها وقلبُها يخفِق؛ خوفَ أنْ تقعَ عليها عين أحد، أو أن يراها سيف عائدة من البستان في تلك الساعة. أكانت هناك تنتظره؟ وكان شعورها بالخيبة يزداد مع كل خطوة حتى صار أشبه بالحزن. ولمَّا صارت وَحْدَها استندت بذراعها على جانب النافذة وتقاطَرَتْ دموعُها. وكانت الشمس قد عَلَتْ في السماء وأخذت الحركة تدبُّ في فناء القصر، ولكنها لم تلمح صورة سيف هناك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤