الفصل الثاني عشر

قال الراوي:

«إننا نتحرك معاشرَ البشر كما تريد لنا الطبائع المركبة فينا، ولا نملك من مصائرنا شيئًا سوى ما يخيَّل لنا أننا نملكه منها. الحب والكراهة والأماني والأوهام تدفعنا وتأخذ بزمامنا قَسْرًا، ونحن نحسَب أننا نسعى إلى غاية مقدورة دبَّرناها بأنفسنا، وننخدع فيُملي علينا الغرور أننا نختار كل أمورنا بعقولنا وإرادتنا. نحن كالمسافر في غابة كثيفة، لا نرى منها إلا الخطوة التي نوشك أن نخطوها، ثم إذا خطوناها لم نَزِدْ على طاعة الحدود والقيود التي تُحتِّمُها الطبيعة علينا. قد نتَّجه يمينًا أو شمالًا، وقد ينتهي بنا السير إلى بقعةٍ مكشوفة تسطع عليها أشعة الشمس، فيملؤنا الإعجاب بأنفسنا ونقول: ما كان أحسن اختيارنا! وقد ينتهي بنا الطريق إلى هاوية عميقة، أو سد قائم، أو وجار وحش ضارٍ، فنقف حائرين، ونتهم عند ذلك صروف القضاء ونندب حظَّنا. ولو تأملنا حياةَ مَنْ سبقَنا لأدركنا طرَفًا من الحقيقة التي نضلُّ عنها، وهي أن الأقدار لها حكمة وخطة أعلى من حكمتنا وأَصْرَم من خطتنا.»

هكذا كان الشيخ أبو عاصم يتحدث إلى سيف، عندما حمل إليه أنباء الفاجعة التي حلَّتْ بأَبْرَهَة وجيشه في الهضبة الْمُطلَّة على مكة.

فلنرجع إلى أَبْرَهَة بعد أن سار من صنعاء تملؤه أماني المجد والسيطرة، وتَحْدُوه الثقة بتحقيق الخطة التي دبَّرها.

كانت الأماني الفسيحة تَنْداح أمام عينيه، سيكون حاميَ النصرانية في الجنوب كما كان قيصر حاميَها في الشمال، وسيبقى مُلكه أخلد من ملك يوستن ويوستنيان؛ فإن الله وهب له ما لم يَهَبْ لهما؛ ثلاثة أبناء من زوجتيه، نعم ثلاثة أبناء؛ لأنه وعد رَيْحانة ألَّا يتخلَّى عن ولدها، ولن يضيره أن يجعل ولدها ملكًا على الحجاز بدلًا من ذلك الدَّعي قيس بن خُزاعي، الذي يطمع في أن يكون خليفته هناك. ولا شك أن أهل مكة يَرْضَوْنَ عن مُلْك سيف أكثر من رضائهم عن مُلْك رجل من العامة. لكن أحلام أَبْرَهَة لم تدُم طويلًا، ولم يكن سَيْرُه في أرض اليمن نزهةَ خريف ولا موكب مَجْد، بل كان قتالًا عنيفًا مع أعداء اجتمعوا له من فِجاج الأرض يُحاربونه بصرامة.

وخشي أَبْرَهَة أن يُضيع وقته وجهده في شِعابٍ ضئيلة تَعوقه عن تحقيق غايته الكبرى، فترفَّق ولجأ إلى حِيلته، وبذل لأعدائه الوعود، واستمال رؤساء العشائر بالهدايا حتى اضْطُرَّ أعنفُ الزعماء إلى الاستسلام، وكان نُفَيْل بن حبيب وذو نَفَر ممَّن خضعوا له، وتعهَّدا أن يكونا دليلَين لجيشه في أرض مُضَر، يسندانه بالنصح ويفاوضان له رءوس قريش.

فلما لاحت له مكةُ آخِرَ الأمر كان الخريف قد تَصَرَّم، وجاء الشتاء يزحف سريعًا، ووقف بجيشه على الهضبة يشرف على وادي المحصَّب، وظهرت مكة من تحته صاعدة على جانب جبلها الأغبر، وهابطة إلى البطحاء الفسيحة الجرداء. وكانت الكعبة مُطمئنة على ساحتها الرملية، وأشعة الشمس تغمرها لا يعترضها شيء يلقي تحته ظلًّا.

وهبطت طلائع الجيش إلى الوادي فساقت ما فيه من الإبل غنيمة، ولكنها لم تجد به أحدًا سوى بعض العجائز والصِّبية؛ لأن حُماة المدينة أحسُّوا اقتراب الجيش وعرفوا ما يريده أَبْرَهَة منهم، فأجمعوا على أن يصعدوا في شِعاب الجبال ليتربَّصوا هناك بِعَدُوِّهم كلما وجدوا منه غِرَّة.

وأشار نُفَيْل بن حبيب على أَبْرَهَة أن ينزل في فضاء الهضبة المشرفة على الوادي، لعلَّ أهل مكة يعودون إلى أنفسهم وينزلون على حُكمه بغير قتال. وتردد أَبْرَهَة حينًا وهو ينظر إلى الصحراء الجرداء التي تمتد إلى دائرة الأفق، فماذا يجد هناك لِيَمُدَّ به جُنْده وخَيْلَه وفِيَلَته؟ ولكنه مع ذلك أمر بإقامه معسكره، راجيًا أن تبعث إليه قريش رسلها تسأله السلام. «وهل كانت قريش لتصبر على الحرب وهي أمة من تُجَّار؟ إنهم لا يحرصون على شيء سوى المال والسلام.» هكذا قال نُفَيْل وصدَّقه ذو نفر.

وبالغ نُفَيْل في النصيحة فعرض أن يذهب إلى مكة ليدعوَ سادةَ المدينة إلى الاستسلام، ضاربًا لهم الْمَثَل بنفسه وبصاحبه.

وعاد نُفَيْل بعد يوم ومعه شيخ قريش عبد المطلب بن هاشم، فكان ذلك عند أَبْرَهَة أول الفوز، فاستقبل الشيخَ في قُبَّته الكبرى ونظر إلى نُفَيْل شاكرًا، ودعاهما إلى الجلوس معه فطرح لهما فراشًا على الأرض، وأبى إلا أن يكون مجلسه إلى جنبهما.

وقال مُرحبًا بالشيخ: إني سعيد بأن أراك يا أبا عبد الله.

ولكن عبد المطلب لم يُجِبْه، ونظر إليه مُتجهِّمًا.

وقال أَبْرَهَة مُتساهلًا: ما بعثت إليك يا أبا عبد الله إلا رغبةً في السلام، فما لك لا ترد على تحيتي؟

فقال عبد المطلب بصوته العميق: عفوًا أيها الملك، فإنك رجل سَمِعْنا بِحِلْمه قبلَ أن نراه.

فنظر إلى نُفَيْل نظرة عاطفة، وأنصت إلى الشيخ في اهتمام.

ومضى عبد المطلب قائلًا: عرفنا رَجاحة عقلك وتجاوزك عن ذنوب أعدائك، ثم جئتُ إليك فأوسعتَ لي وأكرمتَ مجلسي بنزولك معي.

وصمت قليلًا ثم قال: واتجهت إليَّ بتحيتك الكريمة قائلًا إنك سعيد بأن تراني. ولكني أكذب عليك إذا رددتُ بتحيتي قائلًا إني سعيد بأن أراك هنا.

والتفت إلى الخيام التي تملأ فضاء الهضبة.

وكان أَبْرَهَة يُجيل بصره في وجهه المجعد، الذي تلمع فيه عينان واسعتان مُضيئتان، لم تُطفئ الشيخوخة شيئًا من وهجهمها. وقال بعد صمت لحظة: لعلَّ أبا حبيب لم يقُل لك إني لم أجئ إليكم غازيًا.

فتبسَّم الشيخ حتى علا اللون في وجهه وقال: بل قال لنا ذلك، وأدَّى أمانتك على وجهها أيها الملك.

فقال أَبْرَهَة: وإذن؟

فقال الشيخ في صوتٍ خافت: إذن لقد تكلفتَ شَطَطًا أيها الملك.

فقال أَبْرَهَة وقد أحسَّ الصدمة: ماذا تعني؟

فقال الشيخ: أعني أنك تأتي بهذا الجيش الكبير، وهذه الْفِيَلَة الضخمة التي لم يطأ أرضَنا مثلُها من قبل، وتملأ فضاء الهضبة بِخَيْلك ورواحلك، وأنت تعلم أن صحرائنا تَضِيق عن سرحنا نحن، ومع هذا تقول إنك لم تأتِ غازيًا. فإذا لم تجئ غازيًا أجئتَ مع هؤلاء حاجًّا؟

وكانت نبرات صوته الهادئ تفيض سخريةً.

فجمع أَبْرَهَة أطراف ثوبه وفي نفسه دفعة من الغيظ، ولكنه مَلَكَ نفسه وقال هادئًا: ماذا قلت يا أبا عبد الله؟

فقال الشيخ هادئًا: أسألك: هل جئت حاجًّا؟ هل جئت للحج إلى هذا البيت العتيق الذي يحجُّ إليه الناس جميعًا؟

ولمعتْ عيناه ببريق فيه لون من السرور المكبوت.

فقال أَبْرَهَة مُتحدِّيًا: بل جئت لأهدمَه. أمثلي يحجُّ إلى هذه الكعبة الشوهاء ويصلي إلى هذه الأوثان؟ ما جئت إلا لأهدمها، وما بُعِثْتُ إليكم إلا رحمة مني أن أسفكَ الدماء في قتالٍ من أجل كومة حجارة، فكيف ترضى وأنت شيخ حكيم كما علمتُ، أن تعبد هذه الدُّمَى وأن تقول إنني جئتُ لأحجَّ إليها؟ هذه الدمى الحجرية الرخيصة.

فقال عبد المطلب وزادت عيناه التماعًا: نتخذها لك من ذهب إذا شئت أيها الملك.

فقال أَبْرَهَة غاضبًا: أشَيْبٌ وسخرية؟

فقال الشيخ جادًّا: عفوًا أيها الملك فما قصدت السخرية، ولكني عجبتُ لقولك إن آلهتنا دُمًى حجرية رخيصة، وإن كعبتنا كومة من حجارة. فما نعبد الدُّمى ولا نطوف بكومة الحجارة إلا كما تعبد إلهك في الْقُلَّيْس. نحن نتسالم عندها ونتصافى، ونطهر نفوسنا بالتعبُّد في جوارها كما يتعبد الناس في أركان الأرض، كلٌّ على طريقته.

فقال أَبْرَهَة في جفاء: لم أبعث إليك لنتحدث في هذا.

فقال الشيخ: فأنا سامع لما بعثت من أجله، فبِمَ بعثت إلينا رسولك أيها الملك؟ أبعثت إلينا لِنَنْزِلَ على حُكْمِك؟

فقال أَبْرَهَة: أَمَا عندَك قول تُفْضِي به فيما قلت آنفًا؟ ما بَعَثْتُ إليك إلا لكي أمد إليكم يدَ صديق يريد السلام. سَلْني أيها الشيخ ما شئتَ تجدني سريعًا إلى الاستجابة. أَمَا عندَك قول؟

فقال الشيخ بعد لحظة صمت: إذن فاردد ما أخذت من أموالي. هذا سؤالي إن كان لي سؤال.

فنظر إليه أَبْرَهَة في دهشة، ولم تخفَ عنه حركته عندما رفع حاجبَيه الكثيفَين يلحظه من جانب عينيه، وقال كأنه يتحفَّز لِمُنازلة: والكعبة؟ ماذا عندَك في شأنها؟ ألا تراها جديرة بأن تُحَدِّثَني فيها؟

فقال الشيخ: قلتَ لي أن أسألَك ما أريد، وما كان لي أن أتحدث إلا عمَّا أملك. ليست الكعبة ملكًا لي ولا ملكًا لأحدٍ من قومي، إنها بيت الله لا بيتُ أحد منا، وما بيوتنا إلا هذه التي تراها هناك، صاعدة في الجبل أو هابطة إلى البطحاء.

وأشار بيده إشارة عامة بغير أن ينظر نحو المدينة.

ثم واجه أَبْرَهَة قائلًا: ومع ذلك فقد هجرنا هذه البيوت التي نملكها ولا نعبأ بما يصيبها، ولا نقيم اليوم إلا في شقوق الصخر وشِعاب الأودية الوعرة.

وأحسَّ أَبْرَهَة أنه حِيَالَ رجل عنيف يُجمجم ما في نفسه، وقال وهو يحاول أن يملك غضبه: أهذا كل ما عندك؟

فقال الشيخ بنبراتٍ تنمُّ عن تأثُّر: وما أملك أن أقول أيها الملك؟ سننتظر الغد وما يسوقه إلينا. فاذهب إلى الكعبة واهدمها كما تقول، وإذا شئت فاهدم هذه البيوت حَجَرًا حَجَرًا، لن تجد هناك مَنْ يَلْقاك؛ لأننا لا نَقْوَى على أن نُنازِلَك في معركة، لك القوة والسطوة وليس لنا سوى قلوبنا. لن نكون عبيدًا لسلطان وإن عجزنا عن لقاء قوته، لقد هربنا بحريتنا وكرامتنا وأعراضنا، وهذه هي كل ما نحرص عليه في حياتنا، وسيحكم القضاء حُكْمَه فيما بيننا.

فقال أَبْرَهَة وكأنه تأثر بقوله: أهكذا يقول مَنْ أَمُدُّ يَدِي إليه بالسلام؟

فقال الشيخ: عفوًا أيها الملك لِمَا تسمع من قولي، فإني لا أقصد التطاول ولا التحدي، ولكني لم أَجِئْ إليك أقصِد خداعًا. إنني شيخ كما ترى، وقد عَرَكْتُ الأيام وعَرَكَتْنِي منذ كنت طفلًا يتيمًا، فلم أجد في الحياة ما هو أجدر بي من أن أقول الحق صريحًا، فلا تنتظر مني كلمة كذب ولا رياء. لا أحب أن تكون كلمتي وديعة وقلبي يُضمر لك حربًا، ولا تحسب أنني أحب الصدق في نفسي ثم أرضى بغير الصدق في فهمي. فماذا تقصد بقولك إنك تمدُّ إلينا يدك بالسلام؟ إنما سبيل السلام واضحة.

فقال أَبْرَهَة متحفزًا: وما تلك؟

فال الشيخ: انصرفْ بجيشك عائدًا إلى صنعاء، فإذا فعلت هذا لحقنا بك منذ الغد نحمل إليك شكرنا وصداقتنا.

فقال أَبْرَهَة ساخرًا: عجبًا منك أيها الشيخ.

فقال عبد المطلب هادئًا: وما وجه العجب أيها الملك؟

فقال أَبْرَهَة في دفعة: عجبتُ منك غير مرة، وإن كنت صَبَّرْتُ عليك نفسي ومَدَدْتُ إليك يَدِي مسالمًا، فما ذلك إلا أني لا أدع فرصة في السلام تنفلت من يدي، ولكنك تَأْبَى إلا أن تردَّني ساخرًا. سألتني أجئتَ حاجًّا؟ وأنت تعرف أنني أدعوكم إلى الحج إلى قُلَّيْسي. وقلتُ لك سَلْني ما شئت، فنَسِيتَ كعبَتك وآلهتَك وقومَك وحدَّثْتَنِي عن إِبِلِك. ثم تريدني آخِرَ الأمر على أن أعودَ أدراجي حتى تَلْحَق بي لتشكرني. أجادًّا تنطق أم هازلًا؟ أليس في كل ذلك ما يدعو إلى العجَب الأعجب؟

فتبسَّم الشيخ قائلًا: ألم تسمع قبلي رجلًا صَدَقَك؟

فثار أَبْرَهَة قائلًا: أشيخ قريش أم سُوقَة؟

واتجه إلى نُفَيْل قائلًا: مَنْ ذلك الذي جئتَ به يا نُفَيْل؟ أهو أبو عبد الله حقًّا؟

فقال عبد المطلب مبادرًا: أتسأل عني يا أبا يكسوم وأنا أسمعك؟ أسمعت مني سَفَهًا؟

فقهقه أَبْرَهَة قائلًا: بل سمعتُ عَجَبًا.

فقال الشيخ هادئًا: ما هكذا نُقَهْقِهُ في نوادينا إذا تحدَّثْنا في الجد، وما هكذا نُقَهْقِهُ إذا طالبَنَا أحدٌ بحقه، إننا نعرف الحقَّ ونقدره، وننصر المظلوم، ونتعاون على رد المعتدي.

فقال أَبْرَهَة في جفاء: ما أشد خيبتي فيك يا ابن هاشم!

فثار الشيخ أول مرة قائلًا: لعلها أول الخيبة!

فصاح أَبْرَهَة: ماذا قلت؟ وهل تأمن أن أعاقبَك أيها الشيخ على سوء أدبك؟

فقال الشيخ باسمًا في سخرية: لو كنتُ سُوقَة لقهقهت ضاحكًا. أتعاقبني وأنا في منزلك؟ أتعاقب رسولًا بعثتَ تطلبه وجاء إلى جوارك آمنًا يعرف أنه يَلْقَى مَلِكًا؟ أتعاقب رجلًا جاء ليخاطبَك ويرد على قولك بما يَلِيق به؟ أتغضب من رجل جئتَ تغزو بلدَه فيقول لك: «لعلها أول الخيبة؟» ماذا كنت تتوقع مني أن أقولَ لك جوابًا على قولك: «ما أشد خيبتي؟» أكنت تحسب أني أجيبك متمنِّيًا لك النجاح؟ ماذا يغضبك مني وأنا أتمنى لك الخيبة في إذلال قومي وانتهاكِ حُرماتنا ودَكِّ حرَمنا وتحطيم آلهتنا؟ أَمَا تعلم أنني أرجوها لك حقًّا؟ ثم ما هي تلك الخيبة التي وقعت في قلبك منذ سمعتَ قولي؟

فقال أَبْرَهَة وهو يحاول أن يُمْسِك نفسه: إنك منذ اليوم تثيرني كأنك ما جئتَ إلا لتحرِّضَني على القتال. لم أبعث إليك لتبارزَني بِحَدِّ لسانك، فإني أشهد أنك لصاحب لسان حديد، ولكن هذه الأقوال لا تَرُدُّ قضاءً ولا تُغْنِي فيما نحن فيه شيئًا. لقد هِبْتُكَ أيها الشيخ عندما وقعَتْ عيني عليك، ورأيت من شَيْبِك ومن هيئتك أنك زعيم نبيل حكيم، وحَسِبْتُ أنني أستقبل داهية القوم.

فقال الشيخ باسمًا: ثم رأيتَ …؟

فقال أَبْرَهَة: رأيتُ رجلًا …

وسكت لحظة كأنه يريد أن يختار لفظًا ملائمًا، ثم قال: ولكن ما جدوى المضي في هذا الحديث؟ قل لي يا أبا عبد الله، أما من سبيلٍ سوى القتال؟

فقال عبد المطلب في هدوء: نحن في قبضة القضاء جميعًا، مثل قوم في بحر يتقاذف بهم الموج، وقد هبَّ عليهم إعصارٌ حَجَبَ عنهم منظر الأرض والسماء، فماذا نستطيع أن نفعلَ لأنفسنا سوى أن نتماسكَ حتى تنجليَ عنا غُمَّةُ العاصفة؟ لا حيلةَ لنا إلا أن نتماسكَ ونجاهدَ حتى تَنْجَلِيَ عنا، فإما غيَّبَتْنا الأعماقُ في ظلامها، وإما خرَجْنا إلى البر في سلام.

ثم تحفَّز للقيام قائلًا: ومع هذا فلست أيها الملك بأول من نظر فأخطأ.

وكان صوته العميق يرنُّ هادئًا كأنه يُلقي تحية.

فقال أَبْرَهَة: إلى أين يا أبا عبد الله؟

فقال عبد المطلب: هذا آخر ما عندي.

فقال أَبْرَهَة: ألك في رأي آخر؟ اجلس يا أبا عبد الله حتى نُتِمُّ حديثَنا.

فجلس عبد المطلب قائلًا: إني سامع لما تقول أيها الملك.

فقال أَبْرَهَة: ألا تذهب إلى قومك فتحدثهم عني؟

فقال الشيخ: ما كنتُ لك رسولًا أيها الملك. ابعث معي مَنْ شئت يَكُنْ في جواري، لا يمدُّ أحَدٌ يدَهُ إلا من بعد هلاكي وهلاك عشيرتي.

فقال أَبْرَهَة: ألم تسمع ما قلت؟

فقال الشيخ: بل قد سمعتُه. فهل تريدني على أن أذهبَ إلى قومى قائلًا لهم: «أسلِموا قبلَ أن يحطمكم أَبْرَهَة؟» أم تريد أن أقوم فيهم قائلًا: «أَنْكِروا آلهتَكم وانظروا إليه وهو يهدم كعبتكم؟»

فقال أَبْرَهَة: بل قل لهم هو يطلب مودتكم وسيعود عنكم وهو حليف لكم، لا يريد إلا أن نكونَ معًا يدًا واحدة، فتسودوا على الناس جميعًا وتتدفق الخيرات إلى واديكم الأجرد. وأما الكعبة فسأُبْدِلُكم خيرًا منها.

فقال الشيخ: هذا قولك أيها الملك، فابعث به إن شئت رسولًا ينطق بلسانك.

فقال أَبْرَهَة متلطفًا: وأين تكون أنت؟

فأجاب الشيخ: أكون واحدًا من قومي، أُدْلِي إليهم برأيي.

فقال أَبْرَهَة: ألستَ كبيرَهم؟

فأجاب: ولكني أحدهم.

وكان وجه أَبْرَهَة ينطق بما ينطوي تحته من الْحَنَق، ولكنه قال لمن حوله: رُدُّوا على الشيخ إبلَه.

ثم قال للشيخ: سأبعث معك رسولي. امْضِ معه يا نُفَيْل.

وكان نُفَيْل جالسًا يتأمل حركة الشيخ ويحفظ أقوالَه مستغرقًا فيها.

فأجاب في تردد: وماذا أقول يا مولاي؟

فقال أَبْرَهَة: أما سمعت ما كان بيننا؟

فأجاب: بل حفظتُه.

فقال أَبْرَهَة: كن عندهم رسولي.

ولما قام عبد المطلب منصرفًا مالَ أَبْرَهَةُ على نُفَيْل قائلًا: هذه ساعة الوفاء يا نُفَيْل.

فقال هامسًا: سأحاول ما استطعت يا مولاي.

وركب الرجلان مُتَّجِهَيْنِ نحو مكة، وأَبْرَهَة ينظر في إثرهما صامتًا، فلما التفت من حوله رأى عدوة ينظر إليه عابسًا.

فقال له في شيءٍ من الضجر: ما بك يا عدوة؟

فقال في هدوء: أحسُّ شرًّا يا مولاي.

فانصرف أَبْرَهَة عنه وهو يُغمغم بكلماتٍ حانقة حتى خرج من خيمته وسار على الهضبة، وحركته تنمُّ عن قلقه.

•••

ومضى يومان ولم يعُد نُفَيْل بن حبيب، وكان أَبْرَهَة يُشرف بين كل حين وآخر من قُبَّته العالية، ينظر نحو المدينة الخالية ويقلب بصره في الأفق، ثم يُجِيله بين الخيام المتزاحمة، ويستمع إلى ضجيج الجيش ويُناجي نفسه قائلًا: «لم يَعُدْ نُفَيْل.»

وظهرت على أفق الجنوب سحابة سوداء تلتمع في حواشيها بروق تعقبها رعود، تَتَدَهْدَى من بعيدٍ كأنها صخور هائلة تتهاوى في باطن الأرض. وكانت الشمس تتكبد السماء، وسكنت الريح، فكأن الفضاء يتَّقد في أَتُّون.

وكانت الرمال ترسل وهجًا ثقيلًا تكاد الأنفاس تحترق فيه.

وكان عدوة واقفًا أمام خيمة الملك وفي يده حَرْبة طويلة، وهو بين آنٍ وآخر يسير في خطوات بطيئة واسعة، ويتطلع في الآفاق عابسًا، وكان في قوامه الفارع الدقيق ووجهه الجاهم ورأسه المرفوع ما يدل على أنه محارب حانق.

وبدأت الريح تشتد وتسفو الرمال في وجهه، وهَزِيم الرعد يكاد يصمُّ أذنيه. وناداه أَبْرَهَة مرة بعد مرة حتى بلغه الصوت بعد حين، فسار في خُطاه الواسعة إلى داخل الخيمة وحيَّاه ثابتًا.

فقال أَبْرَهَة في حنق: أما تسمع؟

فأجاب: معذرة يا مولاي …

وانطلق الرعد مرة أخرى فأغرق تتمة قوله.

وقال أَبْرَهَة حانقًا: ويل لهذه السماء! كأنها تتعمد إثارة غضبها الآن. لم يَعُدْ نُفَيْل يا عدوة.

فوقف الجندي الشيخ صامتًا.

وصاح أَبْرَهَة: ألم تَعُدْ إليك الطليعة التي بعثتها إلى أعلى وادي الْمُحَصَّب؟

وانطلقت فرقعة من الرعد فانتظر عدوة مرة أخرى حتى هدأت، ثم قال: وبعثتُ من بعدها أخرى.

فاندفع أَبْرَهَة ساخطًا: أَوَقعَتْ في كمين هؤلاء؟ إنهم يرصدون لنا في ثنايا الأودية كالفهود أو بَناتِ آوَى، ويَخْرجون على جنودنا كلما وجدوا فرصة، ثم يَخْتفون في شقوق الأرض كأنهم من الحشر. أنسينا القتال يا عدوة؟

فقال الشيخ: لم ننسَ القتال يا مولاي، ولكنك ترى من نحارب. هم يعرفون كل صخرة وكل شق فيها، ولا يبالون أن يتواثبوا على أضراس السفوح كأنهم وُعول.

فقال أَبْرَهَة في ضجر: كأنك تُشِيد بحمدهم. والآن يا عدوة؟

فقال عدوة: أنت تعرف رأيي يا مولاي.

فقام في وثبة وقال: نعم أعرف رأيك، أعرف أنك لا ترى ما أرى، ولا تحب ما أحب. أعرف أنك تتكهَّن بالشر أبدًا وتريد أن تخلعَ قلبي.

فقال عدوة عابسًا: ما سمعتك قبل اليوم يا مولاي تقول هذا. إن الغضب يحملك إلى حيث لا تريد.

فقال أَبْرَهَة ذاهبًا مع حَنَقِه: بل أعرف أنك تبدلت وتباعدت، فما أَمَرْتُك أمرًا إلا قلت لي «ولكن» …

فأجاب: إذا رأيتَ يا مولاي أن أُمْسِكَ لساني فلا أُراجِعَك في قولٍ فعلْتُ.

فعاد أَبْرَهَة إلى مجلسه صامتًا يُدمدم، وخرج عدوة إلى موقفه في العراء، وكان المطر يتساقط رَذاذًا، ولَبِثَ أَبْرَهَة قليلًا ثم قام خارجًا ونادى عدوة قائلًا: ابعث إلى أنيس صاحب الْفِيَلَة.

فقال عدوة: هو مع الْفِيَلَة يا مولاي.

فصاح أَبْرَهَة: لست أزعم لك أنه يرقص حولَ النار أو أنه يقم عرسًا لابنته. أعرف أنه مع الْفِيَلَة.

فقال عدوة: وهو يحاول تهدئتها.

فصاح أَبْرَهَة في ذعر: أهي الأخرى؟

فقال عدوة: كلما تقدم أحد إليها همَّتْ تريد أن تَبْطِشَ به غاضبة.

فقال أَبْرَهَة: ماذا أصابها؟

فقال عدوة: جائعة، عَطْشَى، لا تجد ما يَكْفِيها من الطعام والماء، وهو يَحْتال أن يُصِيبَ لها شيئًا من ذلك، حتى أَشْرَكَها في مياه الجنود.

فقال أَبْرَهَة: مَرْحَى أيها الأصدقاء! ألَا تَقْدِرون على حَمْل الماء من الوادي؟

فقال عدوة: غوَّروا المياه وطَمُّوا الآبارَ في الليل.

فصاح أَبْرَهَة: يا شياطين الجحيم! لا أسمع إلا ما يملؤني غيظًا. كل شيء يخونني.

وانطلقت فرقعة أخرى من الرعد وهَطَلَ المطر في عنف، وارتدَّ أَبْرَهَة يحتمي بالخيمة.

وقال: كل شيء يخونني حتى السماء. وأنتم جميعًا تخونونني.

فقال عدوة ثابتًا: عفوًا يا مولاي. إن الخائن يتستَّر ويتلطف، ولكني أُثِير غضبك؛ لأن ولائي أكبر عندي من سلامتي.

فقال أَبْرَهَة: ماذا تقصد؟

فأجاب عدوة: أقصد أنك أمَّنْتَ الذين خدعوك، واستخونت الذين يَفْدُونَكَ بأنفسهم.

فأجاب أَبْرَهَة غاضبًا: نعم أعرف ما تريد. ليس هذا القول جديدًا عندي، فإنك تكره هذا الرجل وما زلتَ تُفْرِغ حقدك عليه فيَّ أنا. وماذا تريد بعد؟

فقال عدوة: أعيد عليك نصيحتي.

فصاح أَبْرَهَة: نعود إلى صنعاء؟

فقال الرجل ثابتًا: اليومَ قبلَ الغد، والساعةَ قبلَ الساعةِ التي بعدَها.

فصاح في عنف: هراء، وسخف، بل جنون.

فقال عدوة: ليست هذه الأرض مقامًا لك.

فقال أَبْرَهَة عابسًا: نصيحة مُعادة، كأنني أرضى أن أتردد في هذه اللحظة وأنا أنتظر عودة الرسول، سنتحرك إلى مكة غدًا وإن لم يعُد نُفَيْل. ابعث طليعة أخرى لترى ما فعل نُفَيْل.

ولزم عدوة الصمت ووقف جامدًا كأنه لم يسمع.

فقال أَبْرَهَة: أما سمعت قولي؟

فقال عدوة: ألوذ بالصمت يا مولاي لأنني ألمح اللهيب في عينيك.

فقال أَبْرَهَة: بل انطق.

فقال عدوة: أحسُّ ريح نكبة.

فقهقه أَبْرَهَة بضحكته المزغردة قائلًا: عرفتُ مِنْ قَبْلُ أنك تتكهَّن. أهكذا أخافتك ريح النكبة التي تحسها في جو السماء؟ اذهب أيها الرجل فأنفِذْ أمري.

فقال عدوة بعد لحظة صمت: سمعًا يا مولاي، وسأكون أنا الطليعة.

ورفع حربته وانحنى، ثم مضى صامتًا.

وبقي أَبْرَهَة حينًا ينظر في أعقابه، ثم هرول داخلًا في الخيمة بجسمه الضخم، وارتمى على مقعد في الصدر، وكان وجهه متقلصًا من الغيظ، وتدفق المطر كأنه ينصبُّ من مَيازيب، ولجأ الجنود إلى الخيام، وأطرقت الإبل والخيول برءوسها خاشعة، وانسابَتْ في الجو ضجَّة رهيبة. ولكن عدوة مضى في سيره تحت السماء الغاضبة وقلبه أشد منها غضبًا، وإن كان يَكْبِتُه في صرامة، وكان جواده يتكفَّأ به في الأرض الزلقة، والريح العاصفة تطوحه في هبَّاتها، والفضاء الأغبر يحجب عينيه فلا يرى أمامَه إلا كتلة من ماءٍ صبيب.

وبلغ آخر الهضبة ولم يستطِع أن يهبط إلى الوادي الذي كان يتدفق مثل نهر فائض، تتوالى فيه أمواج السيل واحدة بعد أخرى في فرقعةٍ تزلزل الأرض. وكانت جذوع النخل تطفو على وجه الماء أحيانًا وتغوص أحيانًا، تتخللها أجسام الإبل تتقلب مع التيار، فتعلو بأسنامها حينًا وبأخفافها حينًا.

ثم لاح على البعد جمع يتحرك نحو معسكر الجيش، فظنه عدوة جمعًا من العرب يريدون على عادتهم أن يهبطوا على أطراف الجيش يقتلون من تصل إليه أيديهم، ثم يتسلَّلون كالأشباح الخفية قبل أن يفطن أحد إلى وجودهم. فاستتر وراء الآكام والكثبان حتى اقتربوا منه وبلغت أذنيه كلمات من حديثهم، وما كان أشد عجبه إذ سمع حديثًا حبشيًّا، ولمَّا لقيهم عرف أنهم بقية السرية التي بعثها إلى مكة في الصباح تستطلع أخبار نُفَيْل بن حبيب، واستمع إلى القصة كأنه يعرفها. كان نُفَيْل يقود السرية العربية التي هبطت عليهم من الجبل كأنها صخرة تَتَدَهْدَى وتحطم وتترك أثرها من خلفها، وما كادت فلول السرية الحبشية تنجو من المفاجأة حتى أدركَها السيل في الوادي، فكان جهدها في تسلق الجوانب الصخرية أشق عليها من جهد القتال وعنف السيل. وهكذا اتجه عدوة في حسرة مع تلك الفلول المسكينة عائدين إلى أَبْرَهَة. وفكَّر كيف يلقى ذلك الرجل الذي كان منذ ساعة يصيح به غاضبًا معنفًا ويتهمه بأنه يخونه؟ سوف يلقاه في أغلب الظن صائحًا به: «أهكذا تعود؟» كأنه هو الذي أثار العاصفة. أترى يُصدق أن نُفَيْل بن حبيب كان يقود السرية التي مزقت رجاله؟ وأحسَّ جسمه يتحرق كأن فيه لسع جَمْر. ولمَّا اقترب من المعسكر طلع عليه منظر عجيب لم يشهد له مثيلًا من قبل، حتى خُيل إليه أنه في حلم مزعج، وكان وجهه المتقد حرًّا يحس خيوط المطر تغسله، فيجد راحة من حرارته حينًا، ثم تشتعل فيه الوقدة كأنه كان يحترق في لهيب. ورأى فوقَه سحابة لم يرَ سحابةً مثلها في حياته، تسبح من فوق رأسه نحو خيام الجيش كأنها دخان حريق يتطاير الشرر خلاله، وسمع منها زَفِيفًا يشبه عَزِيف الْجِنِّ في الليلة المظلمة، وتساقطت منها قِطَعٌ من حُمَمٍ كلما أصابت موضعًا من جسمه أشعلت فيه وقدًا. ورفع إليها رأسه في رعب، وتجلَّد حتى لا يصرخَ من الألم. فلما ثَنَى عنقه أحسَّ كأن سِنانَ حَرْبَة ينفذ فيه، وغامت عيناه، وبدا له في السحابة خفق أجنحة متوهجة. وكانت صيحات الذين معه تتعالى من حوله وهم يتفرقون في فزع ويصيحون: «الْحُمَم! النيران!»

وتماسك عدوة وهو يُحِسُّ رعدة من بَرْق متقد، ولكنه لم يقوَ على الثبات، فكان يرتجُّ بردًا، ولسع الْحُمَم يشتعل بجسده. ولمَّا بلغ المعسكر رأى ما زاده هولًا، فكان السيل يتدفق مثل بحر مائج في بطيحة فسيحة، وبقايا الخيام وجثث الجنود والخيل تنجرف مع التيار إلى حافَة الهضبة نحو فم المسيل، ثم تهوي نحو الوادي. وكان أَبْرَهَة يسير ذاهلًا بين حُطام المعسكر يحاول أن يجمع في بصره هول النكبة، وأن يعيد بصراخه جَنان الجنود اليائسة. ورأى السحابة السوداء ذات الحواشي المتوهجة تقترب منه رَفَّافة بطيئة، تخفق في غبش المساء بشعاعٍ وردي داكن، وسمع الصيحات تتوالى: «الحمم! النيران!»

وتجلَّد ما استطاع، حتى أظلم الليل وهو يحاول الإغاثة على ضوء المشاعل، ثم جاء إليه بعض الجنود الذين يحملون عدوة، فنظر في وجهه المنتفخ وإلى عينيه الزائغتين وإلى جسده الملتهب، واستمع ممن يقوى على الكلام قصة السرية البائسة، وكان جاثيًا في أثناء ذلك إلى جنب عدوة يَصِيح به: «عدوة! أيها الصديق! أما تسمعني؟»

وانتفض الجندي الشيخ وتقلصت أعضاؤه، وصاح في هَذَيَان الْحُمَّى: «الطير! الْحُمَم! النيران!»

ثم خَفَتَ صوته.

وطلع الفجر بطيئًا يطلُّ في نوره الخافت على الأفق، وازدان الشرق لموكب الشمس الطالعة كأن لم تكن في الليل عاصفة دمرت جيش أَبْرَهَة.

وسار الملك المسكين بمن بَقِيَ معه يُجَرِّر أذيال الحسرة نحو الجنوب في طريق صنعاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤