الفصل الخامس عشر

قال الراوي:

كانت المياه الصافية الزرقاء تتموج في رفقٍ تحت الصخور السمراء العالية المحيطة بالخليج، وجلس على الشط رجال يتحلقون في حلقات، يتناقلون الأحاديث على الرمال، والنسيم يرفُّ رهوًا دفيئًا من قبل البحر الهادئ. وكانت الشمس تبعث أشعتها المائلة تتواثب على ظهور الموج في عرض البحر، وتنبعث منها خيوط من بين فرجات الصخور، فتقع لامعة على قطع من الخليج الظليل، وترسل بسمة مؤنسة في وحشته. وكان سطح البحر يشف عن شِعاب الْمَرْجان تتلألأ في ألونٍ شتَّى، بعضها أبيض ناصع وبعضها أحمر قرمزي أو أزرق بنفسجي، كأن عرائس البحر قد تأنَّقَتْ في ذلك الركن المنعزل من شاطئ السودان وأعدَّته ليكون لها مراحًا. وعلى صخرة ناتئة في البحر في الطرف الأقصى من الشاطئ، جلس سَيْف بن ذي يَزَن في ثوب من الزَّرَد وسيفه يتدلَّى من مِنْطَقته، يمدُّ عينيه إلى الأفق ساهمًا، وفي نظرته العابسة ما ينمُّ عن صرامة تكاد تبلغ القسوة. وكان وجهه المعروق تعلوه سُمرة، والنسيم الهَفَّاف يعبث بأطراف شعره المرسل إلى كتفيه، لا يكاد الناظر إليه يتبيَّن ملامح الفتى الذي ترك غُمْدان منذ ثلاث سنوات. لشد ما تبدل سيف في هذه السنوات التي قضاها في اضطرابٍ بين أودية اليمن وشواطئها، لا يستقر به المقام في مكان حتى تلاحقه جنود يكسوم قبل أن يجتمع إليه جمع يستطيع أن يثبت به في قتال، فما زالت شعاب اليمن وشواطئها تتقاذف به حتى انتهى به الوثوب إلى ذلك الملجأ المنعزل من الشاطئ المقفر عبر البحر. وكان معه فِتْيان من قومه أَبَوْا أن يَتَخَلَّوْا عنه، وساروا معه يشاركونه حياةً لا استقرار فيها. فكانوا يهبطون معه على سفن الأحباش العابرة بين شاطئ البحر، فيغنمون ما فيها من بضاعة ويُوقِعون بمن قد يكون فيها من جنود يكسوم، ثم يعودون إلى مخبئهم الخفي. ونسي سيف في تلك الحياة الجديدة — أو كاد ينسى — كل ما مرَّ به في حياته الأولى، إلا خطرات كانت تعتاده حينًا بعد حين. لم يبقَ في قلبه إلا شيء واحد؛ أصبح كل همه في حياته أن يصدم أعداءه أينما استطاع، وأن يُوقِعَ بهم كلما استطاع. وكان في جلسته على الصخرة ينظر إلى البحر الواسع الممتد تحت عينيه، كما ينظر الفهد الذي يتربَّص بأعداء يُطاردونه مِنْ حوالَيْهِ. هذا البحر الفسيح يفتح له آفاقًا، باسمًا حينًا وعابسًا أحيانًا، وهو في كل أحواله صديق جبار يُعجز يد يكسوم أن تمتد إليه.

وبرقت أمامه هنة ضئيلة تتحرك عند أفق الجنوب، فمدَّ بصره إليها، وتقلصت عضلة ساعده وأسرعت أنفاسه، وعلَّقَ بصره بها كما يُعَلِّق الفهد بصرَه بفريسةٍ مقبلة. لقد مضت أيام ولم يجد فرصة يشفي بها غليل قلبه. ولكن الهنة الضئيلة كانت ثابتة عند الأفق لا تكاد تتحرك، فنزل إلى الشاطئ الرملي يسير بخطواتٍ واسعة حتى بلغ آخر منحناه، ورأى أصحابه في حلقاتهم الصغيرة يتحدثون، ما لهم يتضاحكون هكذا كأن قلوبهم خالية؟ وعاد نحو صخرته مُسرعًا في خُطاه مُؤْثِرًا أن يخلوَ إلى خطراته الحانقة. وسأل نفسه: ما جدوى تلك الصدمات الصغيرة التي لا تصيب يكسوم إلا بأيسر الأذى؟ إنه هناك في غُمْدان تبلغه الأنباء أحيانًا أو تَخْفَى عنه، وما يزعجه من سفينة أغار عليها لصوص البحر، فاقتطعوا من بضاعتها غنيمة أو قتلوا ممن عليها بعض الجنود؟ أهذا كل ما يستطيع من جهاد يكسوم؟ وتمنى لو رآه أمامه في جمعٍ من أحباشه فيقذف نفسه عليه، حتى إذا لم يبقَ له من الحياة إلا ما يمكنه من أن يتعثَّر إليه حتى يُغمد سيفه في قلبه لمات سعيدًا.

وهجمت عليه صور من الذكريات كأنها كانت حبيسة، ثم انطلقت جافلة. كيف أمسَتْ خَيْلاء بعد هذه السنوات؟ أهي مثله تعاودها ذكرياتها بين حينٍ وحين؟ ألا تذكره في ساعةٍ من ليل أو نهار؟ أم هي لا تفكر إلا في المسيح الذي انقطعتْ له؟ لحظات مسحورة! ألا ما أقساها وَقْعًا إذا ذكرَها المحرومُ منها. إنما يسعد بذكرياتها أولئك الذين تغمرهم السعادة دائمًا، وأما المحرومون فإنها تَزِيدهم شقاءً. أيعود يومًا إلى نَجْران حتى إذا وقعت عينها عليه ألقت بنفسها بين ذراعيه باكية من فرط السعادة؟ هَيْهاتَ هَيْهاتَ! وعاد ببصره إلى الأفق، فرأى الهنة الصغيرة قد تبيَّنَتْ صورتها، إنها سفينة حقًّا؟ وكان الموج الهادئ يتدافع تحت قدميه كأنه دلافين تتلاعب في مرح. وودَّ لو ثارت عاصفة فقذفت على الشاطئ بموج فائر، يصطدم في الصخور صاخبًا ويتطاير عنه الرشاش الأبيض مُدَوِّيًا عنيفًا، فإن ذلك أكثر اتساقًا مع خواطره الثائرة.

وشق السكونَ الشاملَ صوتٌ منبعث من أعلى الشاطئ الصخري، يشبه صيحة أنثى الْعُقَاب إذا آوتْ إلى وكرها في قمة الجبل بعد طول غَيْبتها؛ لتدعو فراخها حاملة إليهم بُشرى عودتها إليهم بالفريسة. فاستجمع سيف نفسه ووثب من مجلسه خفيفًا وقد شردتْ عنه ذكرياته، كأنها سرب من الخفافيش أزعجتها المطاردة في الظلام؛ فتفرقت تطلب ملجأ في الزوايا البعيدة. وكانت الصيحة معروفة له ولأصحابه؛ صيحة الرَّبِيئَة الواقف في أعلى الصخور يرقب البحر في انتظار السفن العابرة.

وتسابق الفتيان إلى سفينة قابعة في ركنٍ من الخليج، تترجح فوق الماء الصافي، وما هي إلا لحظات حتى استقروا في مواقفهم، وقال سيف: الجميع هنا؟

فأجابته أصوات بعضها جادٌّ، بعضها ضاحك مُعابث، واندفعت السفينة الصغيرة مُنسابة في الخليج، والمجاديف تضرب في الماء معًا ثم تعلو معًا، كأن يدًا واحدة تحركها. ووقف سيف عند صدر السفينة يقلب بصره في عرض البحر، واضعًا يُسراه فوق حاجبيه. وصاح قائلًا: الشمس تميل إلى الغرب، فاجعلوه سباقًا معها.

وتقاربت ضربات المجاديف واندفعت السفينة تشقُّ الماء رشيقة، وأمسك الفتيان عن النطق إلا همسات، كأنهم يجمعون جهودهم للمعركة المنتظرة. واقتربت السفينة الضخمة بعد ساعة، وكانت تجاهد بطيئة في سيرها، والنسيم الفاتر لا يكاد يملأ أشرعتها الثلاثة. ونظر سيف إلى سطحها يتأمل مَن عليه وما عليه، وأحسَّ بشيءٍ يشبه خيبة الأمل. لم تكن من تلك السفن الأنيقة التي تحمل تجارة الحبشة من زَبِيد أو جزيرة فرسان، ولم تكن من السفن السريعة التي تقصد شواطئ مصر، عيذاب أو القلزم أو أيلة، وتحمل رُسل يكسوم وهداياه إلى قيصر. كان يود لو كانت تلك إحدى السفن التي يجد فيها فرصة لشفاء غليله، ويرى دماء أعدائه تسيل تحت قدميه، ويستمع إلى أنينهم وهم يعالجون سكرات الموت.

وجاء بعض ركاب السفينة، فوقفوا وراء جوانب السطح ينظرون في دهشة إلى السفينة الصغيرة التي تقترب منهم مُسرعة، وعلا صوت سيف قائلًا: علِّقوا السَّلالِيم.

وهدأت السفينة الصغيرة في سيرها، وقام بعض رجالها إلى سَلالِيم عريضة من الخشب، لها كلاليب من الحديد في أطرافها فأَلْقَوْها على السفينة الضخمة، وغرزوا الكلاليب في جنبها، واهتزَّتْ سفينتهم هزة عنيفة، ثم استقرت تُساير السفينة الأخرى. وعقلت الدهشة أَلْسِنَة الركاب، فبُهتوا حينًا وهم ينظرون إلى الفتيان إذ يتبادرون إلى السَّلالِيم وسيوفهم في أيديهم، ثم انطلقتْ منهم صرخات الذعر الحبيسة، وتفرقوا في اضطرابٍ يلتمس كلٌّ منهم ركنًا بعيدًا يلوذ به. وصعد سيف إلى السفينة أخيرًا وهو فاتر، حتى إذا بلغ سطحها رأى منظرًا جعله يُغمد سيفه ويقف مبهوتًا.

كان ركاب السفينة مثل قطيع بائس من الماعز، يتزاحم ويتخبَّط في دفعاتٍ هوجاء. وذهب الفتيان يبحثون في السفينة، فإذا التيار الأعمى يرتدُّ نحو سيف في عنفٍ وقد غطَّى الذعر على عيونهم، فوقف ثابتًا حتى اختلط به الجمع كأنه دجاج مذعور يتعثَّر فيه ويتطاير حوله. وكان فيه فتاة تحاول أن تقاوم صارخة غاضبة والتيار يدفعها معه، لا يستمع إلى شيء من ألفاظ الحنق التي كانت الفتاة تُصبها. واصطدمت في اندفاعها بسيف، ومدَّتْ يدها تتعلق به، فمدَّ يده إليها وانتزعها، فإذا هي بين ذراعيه يُسندها، وتشبثَتْ به حتى تفرق الجمع ومضى في دفعته إلى أقصى السفينة من الناحية الأخرى، ثم دفعَتْ نفسها عنه في غضبٍ وقالت له: تَعْسًا لك!

فقال لها سيف: لا تُراعي يا فتاة.

وكأنه لمح في وجهها شيئًا استوقف نظره لحظة، ثم التفت نحو أصحابه، وكانوا عائدين يتضاحكون في عجب.

وصاحت الفتاة بهم: وَيْلَكم، ماذا تَبْغون منا؟

فقال لها سيف في نظرة عابرة: لسنا نبغي شيئًا، فاهدئي.

فقالت في عنف: ما أخيبكم من لصوصٍ جُبناء. أتقول اهدئي؟ وهل رأيتني فزعتُ حتى أهدأ؟ إن هؤلاء الحمقَى هم الذين جرفوني، ولو كان معي سيف لوقفتُ في وجوهكم جميعًا. أما تخجلون أن تجردوا السيوف على العجائز والأطفال؟

وكان وجهها المقلص وعيناها الملتهبتان ورأسها المرفوع بالتحدي تَزِيد من ألفاظها حرارة. واتجه سيف إليها بنظرةٍ فاحصة وهي تَقْذِف بألفاظها، وتبعث مع كل لفظ منها شرارة من غَضْبَتِها. ولم يملك ابتسامة شاردة اجتمع فيها إعجابه ودهشته. كان وجهها الأسمر تعلوه نضرة الشباب، وعيناها السوداوان الواسعتان تنطقان عنفًا، على حين كان حاجباها الدقيقان وأنفها المستوي الدقيق تنطق رِقَّة من وراء ثورتها الوحشية، وكان رأسها المرفوع يُبرز محاسن عُنقها وصدرها، وحركة غضبها تهزُّ قوامها اللَّدْن المعتدل. كان جمالها يبرق من خلال عنفها كما تبرق محاسن النَّمِرة الشابة إذ تتجمع للوثوب على غريمٍ تعرض لها، ولم تزدها ابتسامة سيف إلا غضبًا، فقالت: خذ أصحابك وانصرفوا إن بقيَتْ فيكم شهامة، واستشعر الخجل بدل أن تبتسم هذه الابتسامة المتكبرة.

فقال سيف: أزيلي أيتها الحسناء هذه السحابة عن وجهكِ. ممن أنت؟ وخيل إليه أنها هدأت قليلًا عندما سمعت قوله، ولكنها همهمَتْ بجواب، ثم مضت بعد أن علقت بصرها لحظة في وجهه. وخُيل إليه كذلك أن بسمة خاطفة مثل لمحة البصر سنحت في عينيها وهي تنصرف نافرة. ونظر في أعقابها حتى غابت وراء أكداس الطرود الملقاة على السطح. ثم رأى رجلًا ضخمًا يتدحرج في مشيته البطيئة مُقبلًا نحوه كأنه كان مختفيًا يرقب ما يحدث للفتاة. وكان من ورائه بعض رجال يبدو عليهم الضعف والهزال في ثيابهم المهرَّدة. وصاح الرجل قائلًا بصوته الحاد: ما خرجنا إلى قتالٍ أيها الشجعان، وليس معنا ما يستحق أن يؤخَذ. نسائي طوالق وسفني غوارق إن كنت أقول غير الحقيقة.

فقال سيف باسمًا: إلى أين تسير أيها الربان؟

فقال الرجل كأنه لم يسمع سؤالًا: هل مثل هؤلاء يحمل شيئًا له قيمة؟ ما رأيت في حياتي أكثر منهم خبثًا ولا أشد منهم لجاجة ومُماكَسَة في الأجر.

فقال سيف: من هم؟

فقال الربان: هؤلاء الذين تسمع صياحَهم وترى تخبُّطهم، كأنما رَأَوُا الشياطين أمامَهم. يضطربون هكذا مثل قطيع من الغنم، كأن حياتهم ذات قيمة. ولو رأيت كيف قلعوا الصاري الأكبر …

فقاطعه سيف قائلًا: وأين تسير بهم؟

فقال الرجل: ليتني أستطيع أن أقذفَ بهم ها هنا، خذهم إذا شئت فقد يكونون أثمن من بضاعتهم، قد تبيع الواحد بدينار والواحدة بنصف دينار، وفيهن واحدة يُقال إنها بمِائة ناقة. نسائي طوالق وسفني غوارق إن كنت أقول لك كلمة …

فقال سيف مقاطعًا: ولكنك لم تقل إلى أين تسير، وكنت أود أن أسألَك من أين جئت؟

فقال الرجل: ومع هذا فإنهم لا ينقطعون عن الثرثرة. ألم تسمع بأذنك كيف تستطيع إحداهن أن تشتم؟ هكذا يشتمونني أنا. ليتك رأيتهن وهن يطلبن مني كالمجانين أن أُسرع إليكم لأطردكم، كأنني خرجت لأطرد من يتعرض لهن. وهذه الجِنِّيَّة الشيطانة التي رأيتها منذ لحظة، أتصدق أنها خنقتني يومًا بيديها وكادت تُزهق روحي. أتصدق أن فتاة مثلها تفعل ذلك؟ أظنك تبتسم لأنها أعجبتك، لا يغرنَّك حُسنها، فإن أظافرها مثل مخالب القطط.

وغمز بعينه باسمًا وقال: كلما نزلنا بشاطئ أثارت فيه معركة، ومع هذا فكلهم يسألونني من هي؟ ولو عرفوا حقيقتها لفرُّوا من وجهها. إنها تُصبِّح سيدَها بعلقة وتُمسيه بعلقة.

فقال سيف: ألها سيد؟

فقال الرجل ضاحكًا: هكذا كان الجميع يسألون عنها. أرأيت؟!

وأعاد ضحكته عالية. ومضى قائلًا: لستُ أدري في الحقيقة أيهما السيد وأيهما الأمة؟ هو يقول إنه اشتراها بمِائة ناقة، وإنه لا يبيعها إلا بمِائتي ناقة سُود الحدَق. ولكني أظنه نتَّاشًا كاذبًا، وأغلب ظني أنه يبيعها لك إذا شئت بمِائة دينار. ولكن كيف تأتي له بثمنها؟ لا تؤاخذني يا سيدي. نسائي طوالق وسفني غوارق إن كنت أقصد …

فقاطعه سيف باسمًا: دع نساءك في سلام وقل لي من أين جئت؟

فقال في تردد: من جزيرة فرسان بعد أن انتهى سوقها. والحق أنني سمعت هناك. ولكن نسائي …

فقال سيف: ماذا سمعت؟ قل ماذا سمعت؟

فقال: أقصد أنهم قالوا لي، ولكني لم أصدق. كل منهم يريد أن يقول كلمة.

فقال سيف في شيءٍ من الضيق وهو ينظر إلى الشمس المنحدرة: ماذا قالوا؟

فقال الرجل: قالوا كلامًا كثيرًا، ولكن هذا الطريق أقصر، وأنا أعرف هذه الشواطئ جميعًا، والماء هنا أهدأ والشواطئ لا صخور فيها. والطريق الآخر أشد عواصف، ولو استمعت إليهم لكنت الآن أزحف في وجه التيارات القوية، ولكني عصيتهم وسرتُ من هنا. وإذا علت الريح اندفعَتِ السفينة مثل الْمُهر الأصيل. ولستم مع هذا كما صوروكم في أحاديثهم، لم تمدُّوا يدًا إلى أحد، وأنت تتحدث معي كما لو كنت إنسانًا مثل الناس. نسائي طوالق …

فانطلقت ضحكة عالية من الفتيان وقال أحدهم: كم عدد نسائك أيها العصفور؟

فتبسم الرجل في خبثٍ حتى ضاقت عيناه المكوَّرتان وقال: إن شئت الحق فلستُ أدري ما عددهن.

فعادت الضحكة وقال سيف: كم ثوبًا تشتري لهن؟

فقال وقد اتسعت بسمته: لست أشتري شيئًا، كل شاطئ فيه واحدة أو اثنتان أو ثلاث، ولست أجد وقتًا للشراء في أحدها، فأنا دائمًا على عجل.

فقال أحد الفتيان: ومن معك منهن على السفينة؟

فالتفت إليه الرجل بنصف جسمه قائلًا: أما هذا فلا. نسائي طوالق إن كنت أحدث الناس عن حرمي.

فقال سيف وهو يضرب بكفه على كتفه: يلوح أنك غيور يا صديقي. كم سَنَة تجوب هذا البحر؟

فقال في مُباهاة: أربعون عامًا. قبل أن يعبرَ الحبشةُ إلى اليمن. لست أنت من الحبشة بلا شك.

فقال سيف: وأنت؟

فقال الرجل: أنا؟ أما ترى وجهي؟ ليس على سفينتي أحد منهم. أما سمعت عن سيف؟

فقال سيف: أتعرفه؟

فقال الرجل: وكيف لا أعرفه؟ سيذهب إلى يكسوم بجيشٍ عظيم ليطردَه من صنعاء، ولكنه لن يُدركَه حيًّا إلا إذا أسرع منذ الآن.

فقال سيف في اهتمام: وكيف؟

فقال الرجل: يقولون إنه مريض، ويقولون إنه جُرِحَ في موقعة مع نُفَيْل بن حبيب، ولكن آخرين يقولون إنها خدعة، وإنه يدَّعي المرض حتى يطمع فيه سَيْف بن ذي يَزَن ويعود إلى صنعاء، وهناك …

ثم رفع يده وأشار إلى رقبته إشارة القطع.

فقال سيف: أنت رجل ظريف أيها الربان. ما اسمك؟

فقال الرجل: أظنكَ قد تأخرت هنا، والشمس تنحدر مُسرعة. نسيت أن أقول لك إن هؤلاء سائرون إلى عُكاظ، وسألقي بهم عند أقرب نقطة من ساحل الحجاز، فإذا احتجْتَ يومًا إلى خدمة مني فاسأل في جزيرة فرسان عن أبي العيُّوق.

فانفجرت ضحكة أخرى من الفتيان وشاركهم سيف وهم يُسرعون على السَّلالِيم، والرجل الضخم ينظر في آثارهم فاتحًا فمه كأنه يقول: «إن في هذا العالم من يصيبهم الجنون.» ومالت الشمس تكاد تصافح الأفق عندما بلغت السفينة الصغيرة مدخل الخليج، وكانت الأمواج تتلاطم متدافعة في أذيال ريحٍ عاتية بدأت تعنف شيئًا بعد شيء آخر النهار. وتفسَّح الفتيان على الشاطئ بعضهم يوقد نارًا وبعضهم يستروح ساعة قبل أن يلف الليل الفضاء. وكانت السفينة الضخمة تدب عند الأفق متجهة نحو الشمال، وصورة الفتاة الغاضبة تتمثل لسيف، وصوت الموج يقع في ظهر وعيه الحالم. ولما غمضت الآفاق وانبهمت معالم الشاطئ قام من مجلسه يسير نحو الكهف الذي اتخذه منزلًا؛ إذ لم يجد خِفَّة إلى المجلس الذي اعتاد أن يجتمعَ فيه مع أصحابه في ساعة العشاء.

وكانت شعلة المصباح الضئيل تتراقص مع أنفاس الهواء، وتبعث على جوانب الكهف ظلالًا غبشاء تتحرك كالأشباح، فعادت إليه ذكرى كهف ينور وقصة العجوز وصاحبه الشيخ المسكين أبي عاصم. أيهلك يكسوم قبل أن يُنْفِذَ إلى صدره طعنةً تُمَزِّقه؟ أتحرمه الأقدار من هذه السعادة الكبرى؟ وخَيْلاء؟ كان يومًا يظن أنها سعادته الكبرى. أحقًّا تبعد عنه أبَدَ الدهر؟ أحقًّا كان يومًا في قصر غُمْدان ووقف معها إلى جانب الوعاء الْمَرْمَري؟ إنها أيام بعيدة إن كانت حقيقة. ثم لمعت له صورة الفتاة الغاضبة، لم يَكَدْ ينظر إلى وجهها عندما قال لها: «لا تراعي يا فتاة»، ولكنه أحسَّ دفء جسمها وهو يضمها إليه بغير وعي، ثم نظر إلى وجهها الغاضب. ما أعجب تلك اللمعة الوحشية التي رآها في عينيها، وأنفها المستقيم، وحاجباها الدقيقان، ورونق شبابها النضير. كان جسمها اللَّدْن أشبه بتمثال جِنِّيَّة غاضبة. كم وقفتْ تلك الفتاة في مواقف عنيفة؟ كانت كل حركة منها تنمُّ عن أنها اعتادت الدفع والمقاومة والاستماتة، ومثلها من يستطيع أن يطعن بخنجر أو يتعرض للطعنة. أهي الأخرى أَمَة تُباع وتُشترى بمِائة ناقة أو مِائة دينار؟

كان بين الصورتين شَبَهٌ عجيب، كما كان بينهما فرقٌ عجيب. بين صورة تلك الفتاة، وبين صورة خَيْلاء. ماذا تفعل في عُكاظ؟ وأية تجارة هناك لمثل تلك الشيطانة الحسناء؟ وأي فرق بين بسمتها وبسمة خَيْلاء؟

وأحسَّ وخزة من الندم عندما تحدث عن خَيْلاء وهو يتمثل صورة الفتاة النَّمِرة. كيف يَقْرِن صورة مَلَاك بصورة … ماذا يُسَمِّيها؟ ولكن أين خَيْلاء؟ إنها هناك في دَيْر نَجْران، لا في عُكاظ حيث الزحمة والتدافع والتنازُع والتحدي.

أما الأخرى فهي مثله في حياته الجديدة التي يحياها في السطو على السفن، أو في القتال العنيف الذي يملأ قلبه حقدًا وعداوة وقسوة. هذه تستطيع أن تستمعَ إليه إذا حدَّثها عن طعناته للأعداء وعن مغامراته في الأودية والبحار، وتَطْرَب إذا وصف لها المآزق التي وقف فيها، ونجا منها على سراطٍ ضيق معلَّق فوق هوَّة عميقة مظلمة.

واستطاع بعد حين أن يُغمض عينيه في نومٍ عميق، لم يستيقظ منه إلا بعد أن أطلَّتِ الشمس عليه من بين صخور الكهف.

وكان أول خاطر سَنَحَ له: أن ذهب إلى أصحابه ليفضيَ إليهم برأيٍ جديد بدا له بغتة، كأنما استقرَّ عليه في أثناء نومه العميق.

فقد أوشك ذي القعدة أن يستهِلَّ، وسيذهب الناسُ من كل فجٍّ إلى سوق عُكاظ يَبِيعون ما عندَهم ويشترون ما عندَ غيرهم، ويشهدون الموسم الذي تستفيض فيه الأحاديث عمَّا يَجْرِي في بلاد العرب جميعًا، يحمل كل قوم منهم طَرَفًا يُعَلِّمونه. وهناك يستطيع أصحابه أن يجمعوا أكداسًا من الذهب لقاءَ ما عندَهم من الغنائم المكدسة. وما كاد يُفضي بهذا الرأي إلى أصحابه حتى وَثَبُوا إليه في حماسة كأنهم كانوا يَتَمَنَّوْنَه.

وأخذوا يستعدون من ساعتهم للرحلة القريبة قبل أن تتفلَّتَ فرصة الموسم العظيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤