الفصل السابع عشر

قال الراوي:

أخذ سيف يسير بطيئًا من جانب الفضاء حتى لا يتعثَّر بين الخيام في الظلمة، وكانت السرادقات العالية تحجب نور القمر الهابط، فكان لا يكاد يتبيَّن ما أمامه. وكانت أفكاره ما تزال تضطرب بصور الليلة الصاخبة؛ حانة النبطي، وطليبة، والخصم المخمور، والخنجر الخائن، ونُفَيْل بن حبيب، وأي رجل ذلك الرجل الذي كان يتطلع إلى رؤيته في يومٍ من الأيام! أيُّ رجل يجمع من أسرار الطبيعة أضدادها! الرجل الذي لا يعرف عدلًا ولا اعتدالًا، ولا يؤمن بإلهٍ ولا إنسان، ولا يطمئن في صداقة ولا عداوة. بل الذي لا يطمئن إلى نفسه في يمينٍ آلى بها على نفسه؟ أيريده أن يُغمد سيفه في صدره إذا هو حنث في يمينه؟ وخيل إليه أنه يحسُّ قشعريرة في جسمه، كأنه يرى كائنًا لم تُنجبه الطبيعة. ثم خُيل إليه أنه سمع صرخة مثل نعيق بومة، كأنها صرخة جريح وقع خنجر في صدره. ورفع بصره يُقلبه في الفضاء الأغبش الذي يمسحه الضوء الخافت، وكان السكون عميقًا والهواء ساكنًا، لو رفَّ فيه جناح خفاش لتردد له صدًى. ثم عاد الصوت يقطع الصمت كأنه أنين مكروب يعاني خوفًا في أعقاب مأساة خفية يكتمها. وبدا له شبح يقطع صفحة السماء وهو يتعثر في الرمال خائرًا، ويقلع خطواته مترنحًا، فثبت في مكانه يراقب الشبح في دهشة. أهي امرأة؟

كانت حقًّا امرأة تنطق حركتها بالذعر والثورة، ويبرق في يدها شيء كأنه سلاح، فأسرع ذاهبًا إليها يدفعه شعور قوي أنه حيال قصة دامية. ولما خرج من ظل الخيام ووقعت عليه لفتة المرأة المذعورة سمع صرخة مكتومة، ورآها تجري هاربة وأقدامها تغوص بها ثقيلة. ثم خارت قواها ووقعت، فلم تحاول النهوض وبقيَتْ في مكانها تنظر إليه خامدة، وتقاربت أصوات أنينها المكتوم الممتد، ولمَّا صار على خطوتين منها جمع صورتها في نظرة، وقال في صيحةٍ ذاهلة: أنتِ؟

وكانت طليبة تنظر إليه مُكشرة عن أسنانها، وعيناها تلمعان في الضوء الضئيل بحدقتين واسعتين يتمثل فيهما الرعب والتحدي. كانت مثل ذئبة جريحة لا تستطيع حراكًا. ولما استطاعت أن تميز وجهه قامت تتساقط حتى وقفت، وتبدلتْ صورتها من الذعر اليائس إلى الاستسلام، وتهانفَتْ باكية تقول في صوتٍ متقطع: أأنت هنا؟ ألم يقتلك؟

واقتربت منه وسقط الخنجر من يدها، فانغرز في الرمل قائمًا.

وقال لها سيف: ماذا صنعتِ؟

فقالت وهي تلمسه بيدها: أنت هذا حقًّا ألمسك بيدي.

وتهالكت على الأرض تقول في صرخاتها المكتومة: قتلته. قتلته بخنجره ثم جريت أبحث عن جثتك، حسبته قتلك. وكانت تنتفض مُكِبَّة بوجهها إلى الأرض تسند رأسها بذراعها.

ومرت على سيف لحظات طويلة، خُيل إليه في أثنائها كأن الوجود استحال إلى هباء، لا يرى فيه ولا يسمع شيئًا. ثم أخذ الموقف المُحزن يتجلَّى له؛ فها هو ذا خنجر نُفَيْل مغروز في الرمل، وهذه البائسة ترتجف تحت قدميه. أتُسَخرِّها الأقدار في هذه اللحظة لكي تنفذَ مشيئته؟ أهذه النمرة الوحشية تعرف الندم والحزن حتى تبكي هكذا في حرقة تهزُّ جسمها؟ وتمثَّل له نُفَيْل وهو يمدُّ إليه يده مصافحًا، كان المسكين ينظر إليه بعينين ضارعتين كأنه يستنجد به على نفسه. أفي هذه الليلة يُقتل نُفَيْل؟ وغمره حزن شديد كأنه فقد صديقًا عزيزًا!

وقال في صوتٍ مُهتز: ماذا فعلتِ أيتها البائسة؟

وأخذها من يدها فأقامها، ومال على الخنجر فغاص به في الرمل حتى دفنه. هكذا حلَّتِ الأقدار العُقدة بضربةٍ حاسمة قطعت تلافيفها، وانتهت حياة نُفَيْل. ماذا فعلت هذه البائسة؟ المجرمة؟ هذه الهرة الوحشية؟ أهي مجرمة في شرعة الحياة المطلقة من قيود الأخلاق ومن عُرف البشر؟ كيف ينظر وحش الفلاة إلى قطة وحشية حملها الذعر على أن تنقضَّ على زميل في الفلاة وتنشب فيه أظفارها وأسنانها؟ كان نُفَيْل مثلها ذئبًا أو ضبعًا أو سبعًا، يشقُّ طريقه في الأرض معترفًا بشرعة الحياة المطلقة. كان يُهاجم ويدافع ويراوغ، ويفر ثم يكر ويتربص، ويثب عندما يتمكن، فإذا انتصر ومزق فريسته أطلق نفسه في فرحةٍ ضارية يستمتع فيها بنشوة النصر، لا يفكر في رحمةٍ ولا عدالة. وسار بالفتاة متجهًا إلى منزله، وأحسَّ يدها الْبَضَّة تشتد في قبضته متعلقة مستأنسة، وتقترب إلى ذراعه حتى أحسَّ دفء جسمها. وكانت تسايره غير متعثرة ولا تجرر قدميها. أذهب عنها ذعر الجريمة؟ أم كانت هزة المعركة ثم انجلَتْ عنها؟ وبلغ منزله وهو لا يهتدي إلى رأي فيما يظنه عدلًا في جزاء فعلتها. وكانت خيامه قائمة على نَشْزٍ صُلْب من الأرض، وفي وسطها فناء واسع تكدست فيه طرودٍ شتَّى، ومن ورائها فضاء فيه مرابط الخيل والرواحل. ولم يجد أحدًا من أصحابه هناك، وكأنه أحسَّ ارتياحًا لذلك، ولكنه مع ذلك عجب إذ يُبطئ أصحابه عن العودة إلى مثل تلك الساعة.

وقالت طليبة وقد فطنت إلى دهشته: ذهبوا يبحثون عنك كما ذهبتُ أنا، أو لعلهم ذهبوا يبحثون عن جثتك عندما قلت لهم إن الرجل لا بد قاتلك. لم يَرَهُ أحد في ركنٍ من السوق بعد أن جاسُوا خلالَها.

فقال سيف: وكيف وجدتِهِ أنت؟

فقالت: ذهبتُ إلى منزله. نعم، ذهبت إلى منزله فقد كنت أعرفه أيها الفتى. لست أعبأ بما تظن. هم يشتهون وأنا أغوي، وهم يُسخرونني لمتعتهم وأنا أُسخرهم وأتمتع برؤية قلقهم، وتزيد متعتي كلما رأيت قلقهم يشتدُّ عندما يعودون بالخيبة.

ونظرت إليه كأنها في موقف إغراء، ثم عبست وحولت عينيها كامرأة تستلهم طبيعتها، ثم قالت فجأة: لمَ جئت إلى هنا؟ دعني أذهب إلى الحانة لأقضي سائر ليلتي أرقص وحدي وأشرب حتى يطلع الصباح. سأرقص وأرقص حتى أعيا، وأشرب حتى لا أعي. فغدًا لا رقص ولا شراب، وسيعلم الجميع أني قتلت نُفَيْل بن حبيب، غدًا يمزقونني إربًا إربًا، ولكني سأكون مخمورة.

ثم ضحكت حتى ظن سيف أنها لا تُمسك عن الضحك، وأحسَّ اشمئزازًا كأنه حقًّا أمام أنثى من الوحش.

وفي مثل لمحة البصر وثبت وثبة فتعلقت في عنقه بيديها، وألقت رأسها على صدره وجعلت تتشنَّج منتفضة.

ومضت لحظة لم يدرِ سيف كيف كان يصف شعوره فيها، ولم يعرف ما تكون حركتها المقبلة، كأنما هي هرة وحشية حقًّا.

ثم انفلتت منه في وثبةٍ أخرى، وأخذ تعدو على الرمال متعثرة، فاندفع سيف وراءها وأمسك بها قائلًا: قفي هنا.

ثم ألقاها كما يلقي حشرة، فلم تحاول مقاومة. وعاد إلى الخيام فأتى بفرسين عليهما عُدَّة السفر، وعاد إليها فقال: أتركبين؟

فوثبت خفيفة بغير أن تجيب، وسارت معه في صمتٍ حتى بعدا عن مضارب الخيام واتجها نحو الشمال. وكان القمر يَمِيل إلى الأفق، لا يزيد على حلقة حمراء خابية، والسكون لا يقطعه صوت حشرة. وعلا صوت حوافر الفرسين بعد قليل، فارتاح سيف إلى أنه خرج إلى أرضٍ صلبة، لا يستطيع أحد أن يتبع أثرهما فيها.

ولكن قلبه كان كئيبًا لفراق أصدقائه الذين ساروا وراءه في فجاج الأرض حتى جاءوا معه إلى عُكاظ، وشاركوه في هذه الأعوام مخاطر المعارك التي خاضها على البر وفي البحر، يقفون إلى جنبه ويحمون ظهره في المآزق. أهكذا تحل الأقدار العُقد التي يعقدها البشر بضربة واحدة قاطعة؟

وسار الراكبان في صمتٍ وكل منهما يَهِيم في عالمه. كان كلاهما يضرب في الأرض شريدًا وحيدًا، وسأل سيف نفسه: «أيَّة دفعة هذه التي جعلته يفعل ما فعل؟ لِمَ أسرع وراءها حتى أدركها؟ أهي جرفة أخرى ينساق فيها منهزمًا مع الحقائق عندما يصطدم بها؟ وخطرت له صورة أمه ثم صورة خَيْلاء. ماذا تقول رَيْحانة إذا رأته يسير مع هذه المرأة التي قتلت رجلًا من الأشراف في الشهر الحرام؟ وماذا تقول خَيْلاء لو خطر لها أنه يخرج في الليل هكذا مع مثل طليبة؟ أيخطر لها ذلك؟» ونظر إلى طليبة، وكانت تسير هادئة إلى جنبه، كأنها اعتادت كل حياتها أن تصاحبه. أكانت تريد أن تعود إلى الحانة لترقص حتى تَعْيا وتشرب حتى لا تعي ثم تنتظر قضاءها؟ وكأن الفتاة أحسَّتْ بما يجول في صدره، فصرخت صرخة فزع مكتومة كأنها رأت جَلَّاديها يُقبلون نحوها. وكان نور الفجر يطلُّ رويدًا رويدًا من المشرق، والنسيم الذي يرفُّ من الشمال في وجهيهما. وانحدرت الهضبة إلى وادٍ فسيح مُعْشِب فيه نخلات تلوح في الجانب الآخر هادئة وَسْنى. ونظر سيف إلى وجه الفتاة، وكان لونه المصفر يخلع عليه رقة لم يَرَها عليه من قبل. المسكينة! وهَمَزَ فرسه نحو النخيل، وكانت الشمس تبعث أشعَتها الأولى إلى السحب المتبرجة كما تفعل دائمًا.

ونزلا في جانب النخلات التي تقبع في فجوةٍ إلى جانب الوادي، تحتضنها الصخور من ورائها وتنفرج عنها إلى منبسَط أصفر من طَمْيٍ ناعم فيه شقوق واسعة لطول عهده بالأمطار، وتنبت فيه أشجار من السيال والسنط، وأنواع من شجيرات شوكية وصبِّير. وكانت أعراش الحنظل تمتدُّ خضراء يانعة كأنها رُويت منذ ساعة، وتتعلق بها ثمارها الموشاة بالنقوش مُستظلة بأوراقها. وخطرت لسيف صورة خَيْلاء في ملابسها الْبِيض وهي مُطرِقة في هودجها تصلي ولا تلتفت إليه. أما كان في مثل هذا الركن الضيق مَثْوًى سعيد لهما؟ ولكنها آثرت أن تذهب إلى الدَّيْر ولا تخرج معه في ظلمة الليل. أيخطر لها وهي هناك أنه في تلك الساعة ينزل مع فتاة مثل طليبة في جانب وادٍ مُعشِب وسط الصحراء؟ أم نسيَته وانصرفت بكل قلبها إلى الصورة التي اختارتها؟ ماذا تقول خَيْلاء لو رأتهما هناك؟

ونظر إلى طليبة وهي تأخذ مجلسها مستندة إلى الجدار الصخري، وتمدُّ رِجْلَيْها ثم تغلق عينيها كما يلقي المسافر المجهد عَصاهُ ويطلب الراحة. أنسيتْ كل ما مضى؟ أهي لا تسأله عما يكون بعد ساعة؟ إنها تستجيب إلى حاجة الساعة التي هي فيها كما يستجيب كل أمثالها من ضواري الْفَلاة.

وذهب إلى ناحية من جانب الوادي فاستلقى مستندًا برأسه إلى صخرة، ولكنه لم يغمض عينيه. فماذا يقول أصحابه غدًا؟ وماذا يقول أهل عُكاظ من شتَّى القبائل عندما يَرَوْنَ جثة نُفَيْل بن حبيب؟ لن يذهب ظنُّ أحد إلى الفتاة الراقصة، بل ستذهب كل الظنون إليه هو. ألم يخرج معه من الحانة؟ ألم يغادر عُكاظ في ظلام الليل هاربًا بالفتاة التي نازل ابنَ حبيب من أجلها؟ ولكن ماذا كان يستطيع أن يفعل؟ أكان يبقى في عُكاظ ليشهد عذاب الفتاة حتى تموت قطعة قطعة؟ كانت طليبة أَمَة، وما كان لها إلا أن تجد عقاب أمَة قَتَلَتْ سيدًا من الأحرار. أَمَة؟ أَمَة مثل خَيْلاء؟

مسكينة خَيْلاء! هي الأخرى ذهبت إلى الدَّيْر لأنها أَمَة. ولو كانت مثل هذه الراقصة الشيطانة لاستطاعت أن تُغْمِدَ خِنْجَرها في قلب يكسوم، ولكنها لا تستطيع أبدًا أن تسير معه في ظلام الليل مستسلمة هادئة، ولا أن تُغمض عينيها هكذا في ركنٍ صخري من الصحراء كما تفعل هذه الأخرى. وكان النوم يمسح على ملامح طليبة ويزيل عنها هي كل أثر من العنف، فتمثلت له في صورة طفلة سعيدة، أهي طليبة حقًّا؟ هي الحياة التي عنفت عليها وجعلت منها الراقصة الشيطانة التي تلمع عيناها في ثورة ويرتدُّ رأسها إلى الوراء متحديًا، ولا تبالي أي قضاء ينتظرها. وقام ينظر إليها، فرأى تمثال حسناء ناعسة، بل هي خَيْلاء القريبة التي قاست في حياتها الكوارث والمآزق، وعرفت العنف في أعنف مآتيه والبؤس في أبعد مهاويه. هي التي تقوى على صحبته وهو يضرب في القفر مقاتلًا مستيئسًا، يتعرض في كل خطوة لصراع الموت والحياة. ألا ما كان أشبه ملامحها بخَيْلاء! وكأنه أحسَّ في قلبه حركة نحوها.

وفتحت الفتاة عينيها كأنها أحست وقع نظراته، وقالت باسمة: أليس معنا طعام؟

فذهب يلتمس شيئًا مما حمله معه في الحقيبة، وكانت الشمس تسطع صاعدة في السماء على الوادي الخالي.

وتبسَّم في شيء يشبه السخرية عندما أدرك الحقائق التي تحيط به، لقد صدقت رَيْحانة عندما قالت له إنه يعيش في الخيال ويصطدم بالحقائق وينجرف معها.

•••

وتقاذفت بهما الصحراء، وكانت طليبة امرأة طليقة كالوعل والذئبة، أو كالقطاة أو أنثى الصقر، لا تعرف قيدًا إلا ما تُحَتِّمُه عليها الطبيعة. كانت تجوع فتطلب الطعام، وتلتمسه أنَّى وجدَتْه، وتحس بالبرد فترتعد، والحر فتطلب الظل، وتحب فتهب حياتها للحب، وتكره فلا تبالي أين تندفع مع كراهتها. كانت لا تعترف بالناس لأنها لم تعرف نفسها سوى بضاعة، يملكها الناس كما يملكون الرواحل التي تحملهم ثم يذبحونها. لم تحس يومًا أنها إنسانة في جماعةٍ من الناس، كانت سلعة توهب أو تباع وتُشترى، أو داجنة تُقتل إذا بدا لمالكها أن يقتلها.

واتخذها الناس متعة فرأت نفسها قَيْنة ترقص وتغني. لم تعرف القيود، ولم تكن بها حاجة إلى القيود التي يقيد الحرائر بها أنفسهن. وماذا يُجْدِيها أن تقيدَ نفسها وقد أخرجها الناس من حدود العرف والشرائع والأخلاق. لم تكن تعرف الإحسان أو الإساءة، ولا الخير أو الشر، والفضيلة أو الرذيلة، ولم ينتظر منها أحد أن تعرف من ذلك شيئًا. كان الحرائر ينزلن عن حرية الطبيعة لكي يفُزن بحرية المجتمع، فماذا يحملها على النزول عن الحرية التي تهبها لها الطبيعة؟ كانت وهي إنسانة تنظر إلى الناس كأنهم من عالم غير عالمها. كانت الطبيعة هي التي توحي إليها وترفص فيها. ترقص مرحًا أو حزنًا، وترقص حبًا أو كرهًا، وترقص أمنًا أو خوفًا، كانت ترقص بكل خلجة من خلجات نفسها؛ ولهذا كانت حياة الصحراء أقرب إلى طبيعتها.

ومضى عليها الخريف والشتاء وسيف يضرب بها في الأرض كأنهما آدم وحواء، لم يطلب سيف منها شيئًا ولم تطلب منه شيئًا، بل كانا يتقاسمان ما يجدان معًا، ويطلبان ما يريدان معًا، وكان سيف لا يجد مشقة في النزول بأحياء العرب يحتمي بجوارهم قبيلة بعد أخرى؛ لأنهم كانوا جميعًا يعرفون سَيْف بن ذي يَزَن. وكان في كل يوم من تلك الأشهر التي مرت به في شِعاب الصحراء يرى لونًا جديدًا من محاسن طليبة. لم يرَ منها في أول عهده بها إلا رونق شبابها، ولا يحس منها سوى أنفاس حواء، ولكن دقائق حسنها بدأت تتكشف له واحدة بعد أخرى؛ حاجباها الزَّجَّاوان، وعيناها الواسعتان اللتان تتوهجان. وكانت نظرتها أحيانًا تُذكره بنظرة خَيْلاء. ألا ما أقساها من ذكرى! كان أحيانًا ينطوي على نفسه بعد نظرة منها، ويقضي ساعات طويلة في كآبة، ولكن طليبة كانت لا تعبأ أن تقول له في أثناء ذلك كلمة؛ كانت هي كذلك تنطوي على نفسها ساعات، فلا تحب أن يقول أحد لها كلمة. وهذان الخدَّان الأسيلان اللذان أشربَتْهما شمس الصحراء سُمْرة الْخَمْر الْمُعَتَّقة، وهاتان اليدان اللطيفتان البَضَّتان وأناملها الرَّخْصة المستوية الدقيقة، وذلك القوام اللين الذي يخطر خفيفًا فوق قدمين صغيرتين خُلقتا لكي ترقصا رشيقتين. وكانت تلك المحاسن تبدو له في ألونٍ شتَّى، إذا تنفَّس الفجر، وإذا سطع ضوء الشمس، وإذا احتجبت أضواؤها خلف السحاب، وإذا أظلم الليل ولاح شخصها في ضوء النجوم الخافت، وإذا غمرها القمر في الليالي الزاهرة. أكانت خَيْلاء تستطيع أن تسير معه هكذا ولا تسأله إلى أين يسير بها؟ أكانت تصادم الليل والنهار معه هكذا، لا تعبأ أين يطلع عليهما الصباح التالي؟

وانتهى بهما المسير إلى جبل أوراة، من أطراف نجد فيما يلي العراق، فأقاما هناك في جوار بني تميم، وكان سيف يتحسس المواضع في سيره البطيء كأنه يقصد إلى قصد، وإن كان قصده مائلًا أمام عينيه في كل لحظة. أيستطيع أن يُدرك أباه وهو عند باب كسرى؟ أما زال أبوه يحزن من أجل زوجه رَيْحانة وولده سيف؟ أيعرف أنها ولدت لأَبْرَهَة؟ أمات يكسوم حقًّا؟ فمن يلقاه إذن عندما يعود إلى صنعاء؟ أهو أخوه مسروق؟

وكان أوارة الأجرد يُشرف عابسًا على مروجٍ خضراء باسمة خلَّفتها الأمطار التي توالت غزيرة في شِتاءين متعاقبين. وكانت بطون الصخر مَلْأَى بالمياه الصافية، وقِيعان الأودية ما تزال تلمع بجداولها المتعرجة، فأقام سيف هناك يَستجمُّ أيامًا قبلَ أن يَثِبَ المرحلة الأخيرة إلى الحيرة، ليلقى بها الملك عمرو بن المنذر. وكان في مقامه بأرض تميم يتطلع إلى اليوم الذي يبلغ فيه المدائن، فلا شك أن عمرو بن المنذر اليمني يُعينه على بلوغ باب كسرى. بل هو جدير بأن يغضب معه لليمن وما أصابها من ذل الحبشة؛ لأنه كان يمنيًّا مِنْ قِبَلِ أبيه اللَّخْمِيِّ ومِنْ قِبَلِ أمه هند بنت الحارث بن عمرو الْكِنْدِيِّ.

ولكنه وهو يوشك أن يغادر الصحراء كان يتمسك بالأيام الباقية كما يتمسك الظمآن يبقيه ماء بارد في كأسه. كانت الصحراء تغمره شعورًا بالحياة، ولا تقيم بينه وبين نفسه حجابًا، ولا تختلس من إحساسه شيئًا من المتعة التي يعب منها مع طليبة.

كان يحيا هناك في كل لحظة من أيامه ولياليه، يحيا في أنفاسه وفي عطر الصحراء الوحشي الذي يتنافح إلى شمه، وفي الْأَصْباح والأماسي وفي محاورة الوعول فوق الهضاب، وفي استقبال طليبة إذا آبَ من الصيد، وفي عبير شعرها الذي لا يمسه الطيب، وفي لين غصنها الرطيب ونغم صوتها إذا كركرت ضاحكة أو ترنمت بأغنية، بل في نومه العميق الذي لا يتخلله حُلم. وكان يجلس مع طليبة عند النار بعد عودته من الصيد، يجهزان معًا عشاءهما وهي تحدثه بين ضحكاتهما عما لقيت في يومها عند مورد الماء؛ إذ انقطع حبل دَلْوِها فقضت نصف يومها تَفْتِل حبلًا جديدًا، وتصنع من جلد الماعز دلوًا لا يكاد يُمْسِك الماء. وحدثته عن كلبها الضاري الذي كان يدع الغنم وَحْدَها لِيَلْحَقَ بأرنب تَسْنَح له، ثم يعود خائبًا غاضبًا. ولما نَضِجَتِ الْقِدْرُ وفاحت ريح الشواء كان عشاؤهما شهيًّا، وأخذ سيف يصف في مرح حوادث يومه الصغيرة.

وقالت طليبة في غير مبالاة: أعرفت أن القوم يتحملون للسير؟

فقال سيف في دهشة: يتحملون للسير؟

فقالت هادئة: أنذروا بغارة من عمرو بن هند؟

فقال في دفعة: أتحجبين هذا الخبر عني منذ عودتي؟

فقالت ضاحكة: أأقوله وأنا جائعة؟!

وقام يلقي رداءه على كتفه، فقالت: إلى أين؟

فقال: إلى حاجِب بْنِ زُرارَة.

وكان حاجبٌ سيدَ قومِه بعد موت أبيه زُرارة الذي كان صاحب عمرو بن هند لا يكاد يفارقه، حتى لقد أَمَّنَه على ولده أسعد بن عمرو ليقوم على تنشئته بالبادية. وكان أسعد يلعب يومًا بقوس، فرمى ناقة في ضَرْعها، فجاء صاحبها التميمي وعَدَا عليه فقتله ثم هرب، فأسرَّ الملك غضبته على تميم إعظامًا لصاحبه زُرارة، حتى إذا مات وجَّه جيشه إليهم ليقتصَّ من قتل ولده.

ولكن حاجِب بن زُرارة لم يكن هناك، فإنه ارتحل منذ الصباح يضرب في الصحراء هربًا من جيش عمرو بن هند. وكانت خيبة سيف عظيمة عندما عاد إلى طليبة يؤذنها بالرحيل من أواره، وسار في أعقاب الليلة بقلبٍ ثقيل على درب العراق، لا يدري كيف يصل إلى كسرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤