الفصل العشرون

قال الراوي:

وجد سيفٌ غُمْدان كما تركه منذ أربع سنوات، بستانه اليانع الذي لا يبخل بزهره لا يبالي أي عين تنظر إليه، ولا يضن بعطره الزَّكِيِّ لا يبالي أي صدر يمتلئ منه. وكانت طبقاته السبع ما تزال شامخة بقبتها الْمَرْمَرية التي تلمع في ضوء الشمس، مثل منارة على رأس جبل. وكانت أبهاؤه على عهدها، فسيحة أنيقة بأعمدتها الوردية، وسقوفها المذهبة، ونقوشها البديعة، وآنيتها الفضية، وتماثيلها الرائعة، والأسود النُّحاسية الأربعة التي تَزْأَر كلما هبَّ الهواء في أجوافها، وعناقيد المصابيح المتدلية من السقوف كأنها قطع من زخارفها. كان كل ذلك كما تركه سيف، ولم يتبدل في القصر شيء سوى سيده، وكان الوعاء الْمَرْمَري ما يزال على قاعدته الرشيقة الأبنوسية، في الركن الذي طالما كتم همسات نجواه مع خَيْلاء.

ولكن خَيْلاء لم تكن تنتظره أو تحييه ببسمتها، أو تعتب عليه بنظرتها، أو تبادره قائلة في دهشة: «أنت هنا؟» ووقف سيف حينًا إلى جانب الوعاء الْمَرْمَري وهو متجه إلى جناح أمه رَيْحانة.

وعادت إليه حُرقته كيوم رآها تخرج من صنعاء في هودجها على طريق نَجْران. هي خَيْلاء التي لا يهتز قلبه إلى امرأة كما يهتز إليها أو إلى صورتها. كانت هي أمنيته الكبرى قبل أن يلقي به اليأس منها إلى أمنيته الأخرى؛ تحرير أمته. وها هو ذا قد عاد إلى غُمْدان مَلِكًا، وها هو ذا شعب صنعاء يهتف باسمه عند أبواب المدينة وعلى جانبَيِ الطريق، حتى تبعه إلى فناء القصر، ولكنها لم تكن فرحته الكبرى. أما تجتمع له الأمنيتان معًا؟

أما تعود خَيْلاء إليه وقد عصمها الدَّيْر من العبودية كما عصمه الجهاد من العبودية؟ حرة تعود إلى حر. فأي ملك يصنعان معًا؟

والشيخ المسكين أبو عاصم، أيجدونه حيًّا في طباق القصر التي أمر بإخراج نازليها التعساء؟ ورَيْحانة؟ كيف يجدها بعد أن غاب عنها كل تلك السنوات؟ وأسرع خُطاه وقلبه يخفق، وسأل نفسه كيف يكون لقاؤها؟ أيأخذها بين ذراعيه ويقول لها: «ها أنا ذا قد حققت لكِ خيالي، وصدقتُ لكِ وعدي وأعدتُ إلى قومي عِزَّتَهم وحريتهم، وثأرتُ لكِ ولأبي؟» أم يُعَزِّيها عن ولدها الذي تركه مُعَفَّرًا في الرمال عند شاطئ البحر مُسجًّى بثوبه؟ وخطرت له نبوءة الكهف كأنها كانت تتجه إليه خاصة: «إن لم تقتله قتلك.»

وكان لقاؤهما كما يجتمع وحيدان نَجَوَا من حريق، يتناظران في صمتٍ وصدراهما يجيشان. وكانت تلك السنوات الأربع كأنها أربعون عامًا مرت على الأم الواجمة، فأَحْنَتْ عُودَها وعَصَفَتْ بمحاسنها وأَنْحَلَتْ جسمَها. كان وجهها ذابلًا تعترضه خطوط قاتمة، وكانت عيناها الواسعتان تغوصان في محجريهما وتلمعان كجمرتين خابيتين، وكان صوتها خافتًا كسيرًا عندما قالت: لِيَهْنِكَ مُلْكُ آبائك يا سيف.

ثم تهالكتْ على أريكتها قائلة: اجلس يا ولدي إلى جنبي، فإن قدمَيَّ تَخْتَلِجانِ وعينيَّ تُظْلِمانِ ورأسي يَدور بي.

فقال سيف: عداكِ الأذى يا أماه. ما أشدَّ شوقي إليكِ!

فقالت: الآنَ عرفْتُ ما كان يحمله لي الغد يا ولدي، وأقدر أن أستقبل نهايتي مطمئنة.

فقال سيف في مواساة: كنت أود لو لم يكن أخي الذي ذهب إلى لقائي، ولكنها المقادير التي أوقفتنا.

فقالت في هدوء: فِيكَ الْغَناء يا سيف.

فقال: تجلَّدي يا أماه، فلو استطعتُ دفع الموت عنه لدفعتُه، ولكن لا بُدَّ مما ليس منه بُدٌّ، وكان لا مَفَرَّ من هلاك أحدنا.

فقالت: عَلَّمَتْني الأيامُ هذا يا ولدي، علمتني أنه لا بد من أشياءَ كثيرة علينا أن نتحملَها. وعلمتني أن أرضَى بالأمر الذي يقع إذا لم يقع الأمرُ الذي أرضاه. وعلمتني بعد هذا أن مخاوف الخيال أشد وقعًا من مخاوف الحقائق. أتحسبه الحزن على مسروق؟

فقال في مواساة: عرفتُ قلبَكِ نبيلًا.

فقالت: لست أحب أنْ أَكْذِبَكَ يا سيفُ في أول لقاء، فقد كفاني ما كَذَبْتُ عليك في حياتي. أُحِسُّ كأن قلبي مات في صدري، فلا أَطْرَب ولا أرجو ولا أَجْزَع، وأستقبل البشير كما أستقبل النذير. وأطرقتْ لحظة تَعْبَث بحجرٍ أحمرَ بَرَّاقٍ مُعلق في سلسلة ذهبية بعنقها.

ثم قالت: أتعجب إذ تسمع هذا مني؟ اعجب يا سيف ولا تحمل لي رحمة، فإني لا أحب أن يرحمَني أحد وإن كان ولدي. لست أُحِسُّ حزنًا.

فتحرك سيف قلقًا، ومضت رَيْحانة قائلة: الحياة والموت، والبؤس والشقاء، واليأس والأمل؛ كلها ألفاظ لست أعرف معناها. وأبو مرة وأَبْرَهَة ويكسوم ومسروق؛ كلها صُوَر في الوهم، كأني لا أعرف حقيقتها، أو كأنني لم أَرَها في يوم من الأيام. لقد سلبتني الأيام كل ما وهبتْ، حتى اللعنة التي كنت أشكو منها، فلست اليوم أفزع من أوهامٍ أو هواجس. دعني يا سيف فإني أحسُّ ضعفًا.

فوضع سيف يده على شعرها الْمُبْيَضِّ الْخَشِن، كما كان يفعل عندما كان أسودَ غزيرًا. وقال في رحمة: دعي هذه الهموم تنقشع عن صدركِ يا أمي، فقد قاسيتِ طويلًا.

فأجابت وفي صوتها هزة: ليتني أحس هَمًّا يملأ صدري. نعم، أتمنى لو امتلأ قلبي بشيءٍ وإن كان همًّا، فإن هذا أرفق بي من الخلاء الموحِش الذي يفزعني، كأنني شبح في مقبرة! مقبرة!

وعلا صوتها وسمعه سيف أَجَشَّ مرتعدًا، حتى اعْتَرَتْهُ على رغمه قشعريرة. ومضت قائلة: عفوًا يا ولدي، فإني أراك تفزع مني، ولست ألومك على هذا، فإنني أَفْزَع من نفسي. دعني أَنْطِق فهذه أول مرة أجد فيها من يستمع إليَّ منذ تركتني. سأذهب إلى بيت ذي جدن حيث كانت أول كوارثي، لعلَّ صور حياتي تجتمع إليَّ وتثير الأحزان في قلبي. وارتمت على الأريكة مُكِبَّة بوجهها على ذراعها تَبكي بكاءً حارًّا. وجَثا سيف إلى جنبها يُطَوِّق كتفيها الهزيلتين بذراعه، وقال في همسٍ متقطع: تجلَّدي وقاومي هذه الأشجان التي تعذبكِ. أأُعِيد عليكِ كلماتكِ التي حفظتُها منكِ؟ انظري إلى أعماق نفسكِ واكشفي عن الهواجس التي تعذبكِ، واطرديها في هذه الدموع التي تذرفينها، ولا تكوني عونًا لها على إفساد حياتكِ. أما تتذكرين يومَ جئتُ إلى هنا لِأُوَدِّعَكِ؟ كنتِ في ذلك اليوم تَنْطِقين كما تنطق أمُّ بطَل، وكانت كلماتكِ تصاحبني وتَشُدُّ أَزْرِي وتُؤْنِسُنِي كلَّما أَحْسَسْتُ ضعفًا. وذهبت في الأرض كما قلتِ لي لأنشد حريتي وحرية قومي، وها أنا ذا أعود إليكِ لأزفَّ إليكِ البشرَى والعزاءَ معًا. قولي لي إنكِ سعيدة، أو إنكِ حزينة، أو إنكِ لا تَدْرِينَ أيهما أقوى عندكِ؟ قولي إنكِ الآن في ساعة فاجأك لقائي مع ذكرى ولدك المسكين، ودعيني أحدثكِ وأقول لكِ إنه كان في صَدْر المعركة، وقُتل كما يُقتل مَلِك؛ فلعل هذا يبعث إلى قلبكِ السلام.

فرفعت رَيْحانة رأسها وجفَّفَتْ عينيها الحمراوين، وتنفست قائلة: لا تؤاخذ ضعفي يا ولدي. هذه أول مرة بكيت فيها منذ فارقتني. كنتُ في كل صباح وكل مساء أُمْسِكُ نفسي بِقَيْدٍ من حديد حتى لا أُظْهِرَ جزَعي ولا حَنَقي، حتى جَمَدَتْ عيني وجمدت مشاعري.

ووقفت لحظة تتهانف بالبكاء، ثم مضت قائلة: لست أحب أن أعود إلى البكاء في هذه الساعة، وإن كان البكاء يُفَرِّج عني. أُحِسُّ كأنه يحل عُقدة صلبة تتوسط بين عيني وتفرج عن قلبي. كنت لا أسمح لنفسي بالبكاء ويكسوم يسومني العذاب والذُّل، وفي نفسي مَراجِلُ تَغْلِي. وكنت لا أسمح لنفسي بالبكاء كلما ذكرتُ غيبتَكَ عني، وأنا لا أعرف أين تمضي لياليك ولا كيف تستقبل أيامك. كنت أسأل نفسي أأنت حي تُرجى، وهل ألقاكَ يومًا هنا أو في أرضٍ أخرى؟ بل لقد كنت أسأل نفسي هل يعود أبو مرة؟ نعم، كنت أسأل نفسي عنه والفزع يكاد يذهب بعقلي. ولكَمْ تمنيتُ الموت وإن كنت أخشاه، بل لقد رفعتُ يدي بالسُّمِّ إلى فمي، ثم قذفته في رعبٍ لأنني لم أجرؤ على الخطوة التي تُفضي إلى العالم المجهول. ولكني كنت دائمًا لا أبكي، حتى إنني لم أبكِ عندما سمعت أنك عُدت وانتصرت، وأن أخاك خلَّف جثته في المعركة. أترى هذه يا سيف؟

وفتحت الحجر الأحمر اللامع المعلق في سلسلتها، فإذا هو حُقٌّ صغير يَحوي قطعة صغيرة من مادَّة صفراء. واستأنفت قائلة: ادخرتُ هذا السمَّ للساعة الأخيرة لو رأيت أبا مرة. كانت هذه الساعة وحدها لو جاءت تجعلني أجرؤ على اقتحام الخطوة الحاسمة.

ثم نفضت القطعة الصفراء وداستها، فلوَّنت الطنفسة الثمينة التي تحتها ببقعةٍ صفراء. ورنَّتْ في سمعيهما في تلك اللحظة صيحاتُ الناس في الفناء واسم ذي يَزَن يتردد فيها. فقالت رَيْحانة: اذهب إليهم يا سيف. اذهب يا ولدي إلى شعبك الذي يَدِين لك بالكرامة. ودعني لأفرج عن نفسي وأُطلق دمعي. إن هذه الصيحات تثير الدموع في دمائي فدعني أرسلها.

واستلقت بوجهها مرة أخرى على يدها، وأشارت إلى ولدها باليد الأخرى ليتركها.

ونزل سيف كئيبًا إلى الإيوان، وكانت صيحة الْهُتاف تَرِنُّ في كل مشاعره، كأنه لم يُدْرِكْ إلا في تلك اللحظة أنه أصبح مَلِكَ اليمَن. وأطلَّ من طنف الإيوان على الجموع الزاخرة التي تهتف باسمه وتُلَوِّح إليه بأيديها وتنطق له بوجوهها.

ومرت به لحظات وهو واقف يحيي شعبه كأنه في حُلم، لا يدري أهي الحقيقة تصدمه وتجرفه مرة أخرى؟ أم هي بعض صور أوهامه التي كانت تلازمه وتجعله يعيش معها قَسْرًا في عزلة عن الحياة؟

وتنبَّه إلى نفسه وهو يخطب في الناس متدفقًا تتسابق المعاني إلى لسانه، حتى انتهى إلى قوله: «إن الأمة التي ترضى بالعبودية تنكر إنسانيتها وتبرأ من أصولها، وتعيش محطمة يتبرأ بعض أبنائها من بعض، ويمص بعضهم دماء بعض. هي مثل شجرة خبيثة لا أصل لها في الأرض ولا تَحْمِل زهرًا، ولا تجري في أعوادها إلا السموم والدنس؛ فارفعوا الرءوس يا أهل اليمن كما كنتم ترفعونها دائمًا، وأطيعوا حكمة المقادير التي لا ترضَى إلا عن أمة تتعلق بالْمُثُل الْعُلْيا، وافتحوا قلوبكم يا أهل اليمن للعدالة، وأطيعوا حكمة المقادير التي لا تُبقي على أمة إلا إذا كان العدل الصحيح أساسها، والرحمة الصحيحة لواءها.» وعاد بين الْهُتاف إلى الإيوان يُحِسُّ أنه حقيقة، وأن قومه حقيقة، وأن قصره حقيقة، وأن صور الخيال التي كانت تُحدثه وتدعوه وتشير إليه ليسير وراءها قد صَدَقَتْهُ وَعْدَها، فانتهتْ به آخِرَ الأمر إلى الغاية التي بَدَتْ له في أول أمرها أبعد من أوهام الخيال.

وسأل عن السجناء الذين كانوا في جِباب القصر، وكان ما يزال به أمل متلهف أن يجد فيهم الشيخ أبا عاصم، ولكن الأقدار كانت رحيمة بالشيخ، فإن يكسوم قتلَه يوم خرج من عنده.

ولما خلا إلى نفسه عادت إليه خَيْلاء في آخِرِ صورة رآها. أيجرؤ أن يذهب إليها ويطوي عنها ذكر طليبة، في كذبةٍ كبرى مثل الكذبة التي طوتها عنه أمه أعوامًا طويلة؟ ولكنه كان يعرف أن طليبة هي الأخرى حقيقة من حقائق حياته التي جَرَفَتْهُ في تيارها. لم يخطر له وهو يودِّع خَيْلاء عند باب صنعاء أنه سيأنس يومًا إلى امرأة، كان يحسب أنه سيقنع في كل حياته بصورها وأصداء أحاديثها. كانت صورها عنده ذات أحاديث شتَّى؛ في بستان القصر، وفي أبهائه، وفي درس الشيخ، وفي مخدعها يوم جَثا إلى جنبها يستعطفها لتخرج معه، ثم عند باب صنعاء وهي مُطْرِقة في هَوْدَجِها تصلي. وكانت تلك الصور وأحاديثها كفِيلَة بأن تملأ فراغ فليه سعادةً وشقاءً. ولكن طليبة اصطدمت به يومًا، ثم سارت إلى جنبه في الصحراء، وصارت له سكنًا في أيام تشريده وبأسه. وكانت هي الأخرى تودعه صورًا شتى لكل منها حديث؛ كانت بجسمها وروحها تؤنسه، وكانت بطبيعتها الدافقة الثائرة تحركه وتشعل فيه جذوة الجهاد كلما أوشكت أن تخبو. وقد أبى أن يدعَها لقضائها في عُكاظ، ولم يُبالِ أن يتهمه الناس بقتل رجل غِيلَة في الشهر الحرام، وما زال يتمسك بها، حتى أودعها عند صاحبه الشيخ أبي عدي بمدائن كسرى ريثما يفرغ من حربه. فهل كان يستطيع أن يفارقَها وإن كان ذلك من أجل خَيْلاء؟ أكان عليه أن يختار إحداهما؟ أم يجمع بينهما؟ أهما أمتان؟

لم يكن بين الحرائر من هن أعنف منهما حرية. خَيْلاء التي هربت من أن تكون ملكة لتحفظ على نفسها اختيار المرأة الحرة، وطليبة التي وقفت وحدَها أمام العالم كله منذ كانت طفلة، تتحدى وتحقد وتعنف وتدافع وتسخر، والتي طعنت بالخنجر ولم ترتجف من هَوْل فعلتها، بل ضحكت قائلة إنها ستقضي ليلتها راقصة حتى تَعْيا، وشاربة حتى لا تَعِيَ، ثم تستقبل قضاءها هازئة. أهاتان أَمَتان، يسأل نفسه، هل يجمع بينهما؟

ووجد سيف نفسه آخر المرحلة عند باب الدَّيْر في نَجْران يرجو أن يقابل خَيْلاء. وكانت أسوار الدَّيْر العالية وأبراجه الضخمة تجعله مثل قلعة حصينة، وكان الباب يُفضي إلى فناء مغلق تحيط به جدران أربعة لا منفذ فيها، فوقف سيف هناك في قلق، لا يدري هل يُؤْذَن له. ولم يَخْلُ قلبه من شعور يشبه الإهانة؛ إذ يقف هناك منتظرًا كأنه لم يكن ملكًا. ومضتْ لحظات، كانت عنده مثل ساعة طويلة. أتأبى خَيْلاء أن تراه؟ ثم رأى سقف الفناء المغلق ينفرج عن طاقة مربعة، ويتدلى منها سَفَط كبير معلق في حبالٍ غليظة، وسمع صوتًا يناديه: «تفضل باسم المسيح أيها الضيف الكريم.» وبَقِيَ لحظة مترددًا، وهبطت بصدره قبضة، ولكنه اعتلى السَّفَط وصعد فيه، حتى دخل في الثغرة ورأى الراهبات يجاهدن في تدوير آلة كالعجلة، تُلف الحبال به كَيْما يصعد. واستقبلتْه رئيسة الدَّيْر واضعة يديها قائمتين متقابلتين على صدرها كأنها في صلاة، ثم تمتمتْ ببعض ألفاظ، وسارت به إلى غرفتها قائلة: أنت يا مولاي أول رجل يدخل إلى هذا الدَّيْر، ولعلك تكون آخِرَ رجل، فإن خَيْلاء القديسة أبت إلا أن تراك.

وما فرغت الرئيسة من قولها حتى أقبلت … من؟ خَيْلاء؟ وتقدم سيف نحوها في لهفة بغير أن يعي ما يفعل، ولكن خَيْلاء كانت أهدأ جأشًا، ووقفت تنظر إليه في خشوعٍ صامتة، وكانت في ملابسها الْبِيض الفضفاضة التي تغطي رأسها وجانبي وجهها ويديها إلى أطراف أصابعها، مثل زَنْبَقة بيضاء في كمها. ووضعت يديها كما وضعت الرئيسة يديها، وتمتمت قائلة: يباركك السيد المسيح يا مولاي!

فنظر إليها سيف ذاهلًا، ثم إلى الرئيسة نظرة حائرة، وكان قلبه يفيض قولًا ولا يجرؤ أن ينطق بكلمة. ثم اندفع قائلًا: خَيْلاء! أما أستطيع أن أتكلم؟ أما تقولين يا سيف؟

فقالت في صوتٍ خافت وأسبلت جفنيها: كنت دائمًا أصلي لك يا سيف، وسأصلي لك في الصباح والمساء.

فقال في لفظٍ متقطع: ولكن ماذا تقولين؟ أما تعودين معي؟

فقالت: تصاحبك صلواتي!

وتحركت في ارتباكٍ واضطربت أهدابها، فقالت الرئيسة: يا خَيْلاء القديسة! في صحبة السيد المسيح اذهبي.

ورفعت خَيْلاء بصرها في نظرةٍ جائشة، ثم وضعت يديها على صدرها وتمتمتْ بصلاةٍ خافتة، ثم انصرفت بخُطًا متقاربة خفيفة. ونظر سيف وراءها كأنه يريد أن يلحق بها، فقالت الرئيسة: تجلَّدْ أيها الملك! لقد عرفت قصتكما في اعترافها، ولا أشك في أنها الليلة ستعترف اعترافًا طويلًا. إن قلبها ما يزال يتعلق بالْفَناء الزائل، وما تزال تُضْمِر لك الحب الذي وصفَتْه أنه أبقى من الحياة وأقوى من الموت، إنه ما زال يُنازعها في قدسية صلواتها. ترفَّقْ بها يا ولدي وترفق بنفسك، ولا تحاول أن تراها، فقد وهبت نفسها للمسيح، ولن تستطيع أن تَسْتَرِدَّ ما وهبت.

فقال سيف وهو يخفي حَنَقه: ولكنها لي أيتها الأم الطيبة.

فقالت: لن تكون خَيْلاء لبشر.

وكان صوتها الهادئ صارمًا، ونظرتها الوديعة نافذة.

وبقي سيف لحظة ينظر إليها صامتًا واليأس يدبُّ إليه كما كان الظلام يدبُّ في الأصيل الخافت. واستأنفت رئيسة الدير قولها: ترفَّق بالقديسة يا ولدي، فإنها لا تمتنع عن لقائك إذا شئت، ولكن ذلك يُجهدها ويشرد بها عن وصولها.

وانصرف من الدَّيْر ينزع نفسه؛ فما كاد يخرج إلى الفضاء حتى همز جواده؛ فاندفع في الليل عنيفًا على الطريق كأنه يطارد عدوًّا.

وكان أول همه عندما عاد إلى غُمْدان أن يذهب إلى الوعاء الْمَرْمَري، لعله يجد فيه الصورة التي تعزيه عن خَيْلاء، وكان الوعاء على عهده يقف مزهوًّا على قاعدته الرشيقة، والنقش الخالد يبدو عليه عبقريًّا. وكان سفر أربع ليالٍ متوالية قد أجهده، واليأس من خَيْلاء يُثقل صدره. وأمسك بالوعاء الثمين بين يديه وخطر له أن يحطمه. لم يجده إلا حجرًا صامتًا عليه نقش خافت لصورتين جامدتين لا حياة فيهما، ينظران إلى القمر نظرة مملة، ويبتسمان له ابتسامة بلهاء. وخُيل إليه أنه كلما نظر إليه من بُعد ثار حنقه، وعاد إليه بأسه وهوانه عند خَيْلاء. أهي تؤثر عليه صورة، وتفسد على نفسها وعليه سعادة كانت محققة؟

ولكنه لم يقذف بالوعاء على الجدار ليحطمه، بل أعاده إلى موضعه في شيء يشبه الترفُّق. وذهب ليطيع حاجة جسده المضنَى.

واجتمع إليه في ضحوة صباح بعد أسابيع جمع حاشد من الوفود التي كانت لا تنقطع عن غُمْدان منذ عاد إليه، كان فيهم وفود من القبائل البعيدة في سرو وحمير وفي شواطئ البحر وفي سهول تِهامة، وكان فيهم من شيوخ زَبِيد والطائف ومكة، وعبد المطلب بن هاشم مع جماعة من قومه، جاءوا يؤدون إليه تحية قريش الظافرة.

ودخل معهم الشعراء ينشدونه المدائح ويُزْجُون إليه التهنئة، وكان فيمن جاء إليه الشيخ أبو عدي، يحمل إليه نبأً من طليبة التي تركها عنده.

وسأله في لهفة: أجاءت معك؟

فقال الشيخ واجمًا: بعثَتْ معي رسالتها.

فقال سيف: رسالتها؟

فقال الشيخ: تقول إنها صاحبَتْك عندما كنت تضرب هائمًا في الصحراء؛ لأنها خُلقت لتهيم في الحياة، وبقيت معك وأنت تضرب في يأسك على باب كسرى لأنها خلقت لتضطرب وتيأس وتتحدى. ولكنها لا تطيق أن تكون ملكة.

فقال سيف في صيحة مكتومة: الحمقاء! سأبعث إليها وأحملها قَسْرًا.

فقال الشيخ: كدْتُ أفعل ذلك، ولكني لم أَجِدْها. أصبحتُ يومًا فلم أَجِدْها، ولم أستطع أن أَجِدَ لها أَثَرًا.

وأطرق سيف في خيبة أشد من خيبته عندما خرج من دَيْر نَجْران، وأحس الوحشة تحيط بالبهو المزدحم.

وتقدم أبو الصلت الشاعر الثقفي مع وفد الطائف، فقال يهنِّئه:

ليطلب الثأرَ أمثالُ ابنِ ذي يَزَن
في البحر رَيَّمَ للأعداء أحوالًا

ولكن الملك كان ذاهلًا عنه يفكر في طليبة الهرة الوحشية، امرأة أخرى تأبَى أن تكون ملكة!

وكان كذلك يفكر في غُمْدان الذي صار أشد وحشة مما كان عندما خرج منه، حتى رَيْحانة هاجرت منه إلى بيت أبيها!

وانتهى الشاعر إلى آخر قصيدته قائلًا:

فاشرب هنيئًا عليك التاج متكئًا
في رأس غُمْدان دارًا منك محلالًا

وقدم إليه الساقي كأسًا ذهبية، فتناولها وجرع ما فيها لعلها تُذهب عنه ضيقه. ولما انصرف الجميع قام سيف فاترًا تقوده قدماه إلى البهو حيث كان الوعاء الْمَرْمَري.

وجلس هناك ينظر إليه وهو لا يدري أيحطمه أم يُبقي عليه؟ أيُبقي عليه ليُذكره كلما وقعت عينه عليه بالخيبة الكبرى في حياته؟ ولكنه عندما وقعت عينه على الصورة وجدها تتحرك وتتحدث وتذكره باللحظة المسحورة، عندما وقفت خَيْلاء إلى جنبه هناك تُحدثه وهو يقول لها: «لو كنت فنانًا لخلَدتُ موقفنا هذا في صورةٍ مثل هذه.» وعادت إليه ذكريات كل حياته الأولى منذ كان طفلًا، إلى أن ترك خَيْلاء في دير نجران، وأحسَّ نسيمًا من السلام يدب إليه شيئًا فشيئًا من خلال أشجانه الثائرة. لقد سَمَتْ به خَيْلاء إلى آفاق الحب الأعلى الذي يسمو فوق حب الأجساد، وذاق في ذلك سعادة تغذي روحه بما لا تغذيه المتعة أو الطرب أو الجهاد في سبيل الثأر أو الحرية. وإن كانت خَيْلاء لم تَعُد معه إلى غُمْدان فإن صورتها هناك دائمًا تصاحبه، وهي هناك في ديرها تذكره وتصلي من أجله. ورفَّ قلبه في رفقٍ ورحمة، وأعاد نظره إلى الوعاء الْمَرْمَري يتأمل صورته. كانت صورة حية سعيدة خالدة على الدهر، لا يعتريها تبدل ولا فناء، وهكذا كانت صورة خَيْلاء. ستبقى تلك الصورة في قلبه ما عاش، وسيراها في كل مرة مثل الزَّنْبَقة البيضاء، لا تدب إليها شيخوخة، ولا تمتد يد الأيام إلى محاسنها، ولا إلى السلام المنبعث من نظرتها.

واستيقظ من سبحه على صوت الحاجب الذي جاء يستأذنه في استقبال الشيخ وهرز، وقد جاء مستأذنًا في العودة بجنوده إلى مدائن كسرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤