الفصل السابع

قال الراوي:

انصرف الزائران اللذان كانا مع الشيخ أبي عاصم في الصباح، وبقي هو في مجلسه مائلًا بظهره على الوسادة التي وراءه، شاخصًا ببصره في الفضاء الذي وراء باب الحجرة الفسيحة. وكانت ضبابة خفيفة تنعقد في الجو تضل فيها أشعة الشمس القليلة التي تنفذ من الباب، وتحجب عن النظر زُرقة السماء، فكانت نظرته لا تستقر عند غاية، كما كانت أفكاره لا تستقر عند غاية. وبدتْ له الحياة مثل الفراغ الأغبش الذي لا معالم فيه، عماء من فوقه هواء ومن تحته هباء، لا تلوح فيه بارقة تتطلَّع فيها العين إلى ما وراءها. ماذا كان بالأمس وماذا يكون غدًا؟ تذكر الأمس فوجد فيه كوارث تنبعث منها كوارث، مثل أمواج البحر المضطرب، كلٌّ منها يسوق ما أمامه، وهي جميعًا تصدع الساحل في عُنف، ولو بقيَتْ من بعد تلك الكوارث المتلاحقة بقيةٌ من الأمل لكانت الحياة تبدو أقل جهامة؛ لأن الأمل يبعث في الشقاء شيئًا من الرفاهة. ولكن أين يلوح وميض ذلك الأمل الخابي؟ لم يَجِدْه الشيخ في نفسه، فإنه كان في حياته وحيدًا كأنه غصن اهْتُصِرَ عن شجرته، فلماذا حرص على البقاء ولم يلحق بأصحابه الذين كانوا إلى جنبه وسقطوا في المعركة، ووجدوا الراحة في النسيان؟ ذهبوا جميعًا وخلَّفوه بين هؤلاء الذين لا يعبئون إلا بأنفسهم وبما يعود عليهم من النفع في المال أو الجاه، ولا يغضبون إلا بمقدار ما يُصيبون أو ما يصيبهم. وهل في مثل نُفَيْل بن حبيب بقية؟ ذلك الذي كان يحدثه منذ ساعة قصيرة ويدعوه إلى العودة معه إلى أودية الصحراء ليثيرا معًا ثورة القبائل على أَبْرَهَة، أليس هو الرجل الذي خان قومه من قبل عندما وقفوا لأَبْرَهَة منذ عشرين عامًا؟ كان أَبْرَهَة عند ذلك يستميله بالوعود ويبعث إليه الهدايا، ويلوح له بالسيادة في قومه إذا هو تخلَّى عن المعركة، لم يتردد عند ذلك في شيء، وانقلب على أصحابه ففرَّ من المعركة بلا خجل وأوقع الفشل في أصحابه، ولم يكن ذلك كله إلا من أجل السيادة والمال، ومن أجل الحقد الذي كان يُضمره لمنافسه الشاب ذي يزن أبي مرة. وذلك الشيخ ذو نفر الذي جاء مع نفيل ليذكِّره بمجد حِمْيَر الزائل، ويقول له بصوته المتهدج المرتعش: لقد ذللنا. أذللنا لأن أبرهة ذاهب إلى قريش ليهدم كعبتهم؟ ألا يغضب إلا لأن أَبْرَهَة يصلي في الْقُلَّيْس ولا يعرف آلهة قريش؟ ألا يعبأ بشيءٍ سوى اللَّاتِ والْعُزَّى ومَنَاة؟ أما ذلك الذل الذي استُعبد فيه الأحرار وأُهدرت فيه الكرامة، والحرمان الذي يعيش فيه أهل المدن والقرى والبوادي؛ لكي يوفروا للسادة السفلة ما يتنعَّمون فيه من ترف، وذلك الظلم الذي يخبط الناس خَبْطَ عَشْواء ليُمهِّد للطغاة أسباب السرقة، أما هذا كله فلا يعبأ به ذو نفر. أين ذو جدن؟ وأين ذو يزن؟ وأين الآخرون الذين سقطوا وقوائم السيوف في أيديهم، أو هاموا على وجوههم في الأرض ليستأنفوا الجهاد إذا ما سنحت الفرصة؟ وتذكر صورة الشاب الفارس أبي مرة الذي كان يُحارب إلى جنبه حتى أثخَنَته الجراح، وتمثَّل صورته وهو يتسلل في الظلام إلى ظهر فرسه، ويُناديه باسْمِه هامسًا بصوته الضعيف قائلًا: «إذا كُتبت لك الحياة فانظر إلى زوجتي وولدي.» إنها لبقيَّة ضئيلة تلك التي بقيَتْ بعد هؤلاء. أمَّا هو ففيمَ امتدَّتْ به الأيام؟ وتمنَّى الشيخ لو كانت الجراح التي أصابته في ذلك اليوم قد ذهبت به مع صديقه وابن عمه ذي جدن، أو لو استطاع أن يقوم على قدميه مُترنِّحًا من بين جُثث القتلى كما فعل ذو يزن، ثم يلتمس فرسًا من بقايا المعركة ويتسلل معه في الظلام ضاربًا في الأرض، ولكنه أفاق من غَشْيَته فوجد نفسه في خيمة، ووجهٌ أسود يُطلُّ من فوقه، وتذكر إذ صاح به: «نَحِّ وجهَك الكريهَ عني.» ولكن أَبْرَهَة ضحك مُقهقهًا وقال: «إنها فُكاهة ظريفة.» ثم التفت إلى أصحابه قائلًا: «اعنوا بجراحه من أجلها.» ثم تذكر اليوم الذي رأى فيه أَبْرَهَة مرة أخرى بعد ذلك، وكان أول ما قاله له: «أما زلت تكره النظر إلى وجهي؟»

وكانت لحظة ضعف غلب عليه حب الحياة فيها، فقال له: «بل أنت أكرم الناس نفسًا أيها الملك.»

فما باله يلوم الناس على خضوعهم لأَبْرَهَة، وقد كان من أولهم خضوعًا. وأحسَّ الشيخ أن الجو يزداد ظلامًا، فقد مرَّتْ به هذه الأعوام العشرون وهو يحاول أن يصرف نفسه عن التفكير في الحياة، مُنقطعًا إلى الكتاب. وسافر في أنحاء الأرض يلتمس ما يسميه الحكمة، حتى أصبح الناس يقولون عنه: حكيم اليمن وعالِمها. فماذا أجدى عليه ذلك العلم أو تلك الحكمة؟ هل رعى أَبْرَهَة علمه وحكمته؟ هل رعى أذناب حاشيته أنه حكيم اليمن؟ لم يكن عندهم إلا رجلًا تافهًا يتقرب إلى القصر بأن يكون معلِّمًا للصبية، ولو كان قد خرج ليفسد في الأرض أو يقطع الطريق ويسلب الناس، أو لو رضي أن يتذلل لأَبْرَهَة ويأخذ أجره على ذلك بسيادة مزيفة يستطيع بها أن يعسف ويملأ خزائنه من ضرائب العسف، لو أنه فعل ذلك لكان أكرم عند الناس وأسمَى قدرًا. وها هي ذي الأيام تتقاضى حقها منه إلى آخر ذرَّة، ولم يبقَ له إلا أن يشرب الكأس حتى ثمالتها. لم يبقَ له إلا أن ينتظر انقضاء آخر أيامه وحيدًا محرومًا مُعدمًا.

وسمع الشيخ في وسط عاصفته كأن صوتًا يُناديه باسمه، ومن ذا الذي يأتي إليه في تلك الساعة في بيته المنعزل المهدم؟ أهو نفيل يعود إليه؟ أيجرؤ؟

وقام في شيءٍ من الغضب إلى باب الحجرة، فأطلَّ من الطَّنْف على البستان الأشعث، ومن خلال أشجاره نحو الباب الواسع الخشبي الذي تراكَمَتِ الرمال تحت عَقِبَيْه. وقال: من أنت؟

فخرج سيف من وراء الفروع المتسلقة التي كانت تتوكَّأ صاعدة على جانب الطَّنْف وأعلن عن نفسه.

وزحف الشيخ مُسرعًا، وكان صوته هشًّا يحمل ترحيبه، وتحرك ليهبط على الدَّرَج المحطم وهو يقول: لقد تكلفتَ مشقة في سعيك إلى هنا.

فقال سيف وهو يُسرع نحوه مادًّا يديه: عفوًا يا سيدي الجليل، فإنه لا يشقُّ علينا إلا أن نُحْرَم منك.

ودخل الشيخ والفتى يُسْنده من ذراعه إلى ما يشبه البهو، لولا أنه كان عاريًا من كل أثاث إلا أريكة خشبية خشنة تعلو شبرين عن الأرض، وعليها فروة شاة تغطيها، ومن ورائها وسادة. فمال الشيخ إلى الأريكة ليُصلحها، وأومأ بيده كأنه ينفض عنها غبارها قائلًا: لم تكن مثل هذه الأريكة بمجلس للأمير.

وتبسَّم سيف قائلًا: كل ما في هذه الدار كريم يا سيدي الشيخ.

فتبسَّم الرجل ونظر إليه عاطفًا، ثم التفت عنه ذاهبًا إلى داخل الدار، فغاب لحظة، وجلس سيف على الأريكة وهو يُدير بصره في البهو، وداخله ما يُشبه الحزن أو الرحمة. الشيخ يؤثر هذه الدار المهدمة على غُمْدان! وعاد الشيخ ووجهه متهلل، وأعاد كلمته قائلًا: لقد جشمت نفسك مشقة يا سيدي.

فأجاب سيف: لو كان في سيري مشقة لكان جزائي مُضاعفًا إذ أراك سليمًا مُعافًى.

وقال الشيخ وهو يجلس: أعائد من وادي ضهر؟

وجاءت خادم تحمل طبقًا من الخوص فيه أصناف من الفاكهة، ووضعته على الأرض بين يدَيْ سيف، ثم خرجَتْ تتعثر في أذيال ثوبها البالي. ومدَّ سيف يده إلى الطبق وهو يقول: بل جئتُ من صنعاء. أهذه الفاكهة من بستانك؟

فقال الرجل باسمًا: إذا شئت أن تُسميه بستانًا.

وقال سيف وهو يذوق تفاحة: ما أشبه بستانك هذا ببعض أركان وادي ضهر.

ونظر إلى إفريز الجدار من أعلى، وكانت عليه زخرفة كبيرة الشبه بزخرف قصر ذي جدن، وكانت الجدران مطلية بجصٍّ أبيض لامع، لم تبقَ منه إلا قطع قليلة، وكانت الأبواب والنوافذ تحتفظ بأثرٍ من روعتها، وبقية ألواح النوافذ المحطمة كانت من الْمَرْمَر، الذي اعتاد سادة صنعاء أن يجعلوه في نوافذهم وسقوفهم، فلا يحجب لمعة الشمس وإن حجب حرارتها.

وقال سيف ماضيًا في الحديث: لم أذُق مثل هذه الفاكهة في غُمْدان، بل هي صنف لم أرَ مثله من قبل.

فانبسطت أسارير الشيخ وقال في بساطة: أأعجبتك حقًّا؟ وأخذ يمدُّ يده إلى الطبق فيأخذ من أصنافه قطعًا يضعها أمام سيف وهو يتحدث عنها وعن أشجارها، كأنه يتحدث عن جمع من الأصدقاء لكلٍّ منهم عنده قصة.

فهذا عنقود من العنب الملاحي، نقلت أولى أعواده منذ ثلاثين عامًا من وادي الخارد، هدية من صديق كان شيخًا لخثعم. وأما العنب الأشهب فقد نُقل من وادي ضهر من حدائق ذي جدن جد الأمير نفسه.

وتبسَّم الشيخ قائلًا: كان ذو جدن صديقًا لي يا سيف. وأما شجر التفاح فإنه نُقل من أعلى أودية السراة، أهداه الملك ذو نُوَاس نفسه إلى أبيه شكرًا له على خدمته في القضاء على ثورة أهل نجران. ألا تذكر قصة هذه الثورة؟ ثورة أتباع المسيح على ذي نُوَاس؟

وكان سيف يستمع إليه في شغفٍ كأن كل قطعة من الفاكهة إنسان من بقية الماضي، فلم يتنبَّه إلى سؤال الشيخ إلا بعد مُضي لحظات، فقال في شيءٍ من الارتباك: لا شك يا سيدي الشيخ أني أذكر تلك القصة، ولكني لم أعرف أنها وقعت في هذه السنين القريبة.

فقال الشيخ باسمًا: لم تكن في هذه السنين القريبة يا ولدي، فإنها وقعت منذ خمسين عامًا.

ومضى في حديثه متدفقًا في سرد الذكريات التي تثيرها فاكهة البستان، وكان يتحدث كما لو تحدث إلى نفسه. وكان سيف ينظر حينًا إلى وجهه المجعَّد الذي خلعت عليه الحماسة شيئًا من الحُمرة، ثم إلى جدران البهو المتداعية وإلى نوافذه الْمُحطَّمة، وإلى الفضاء الأغبر الذي خلف بابه كأنما كان يَهِيم في حُلم.

ولمَّا فرغ الشيخ من حديثه نظر إلى سيف عاطفًا، كأن تلك الصور القديمة قد أشاعت في نفسه أُنْسًا بعد وحشة، وتنفَّس عميقًا وهو يقول: لقد نسيت نفسي فأطلتُ الحديث عن هذه الأشياء التافهة التي لا تمثل لك شيئًا. إنها أزمان مضت يا سيدي الأمير، ولم يبقَ منها إلا شيخ مُحطَّم تراه، مثل النخلة التي جفَّ ماؤها وذَوَى أعلاها ونَخِرَ أسفلُها.

فقال سيف في حماسة: بل هي أحاديث طليَّة، وما أشد أسفي إذ حُرمتُ من مثلها هذه المدة الطويلة، ولعلَّها تتجدد يا سيدي الجليل.

فقال الشيخ هادئًا: وكيف حال سيدتي؟

فقال سيف: هي في وحشة من غيبتك.

فنظر إليه الشيخ مترددًا، وتحرك وجهه المجعد حركة خفيفة. وقال سيف ماضيًا في الحديث: بل إن صنعاء كلها في وحشةٍ من غيبتك، وما أكثر ما أسمع من سؤال أهلها عنك!

فقال الشيخ وبسمةٌ ضئيلة تنطلق على وجهه: صنعاء في وحشة من غيبتي؟ وما أنا في صنعاء؟ وهل أنا إلا بقية من ماضٍ بعيد لا محلَّ له اليوم في مكان؟

ونظر سيف إليه صامتًا، ومضى الشيخ قائلًا: إنه لمنظر حزين عندما يجفُّ البستان وتيبس أشجاره، وتتساقط الأوراق الصفراء عنها فتذروها الرياح، ولا تبقى منها سوى نخلة وحيدة يضطرب سعفها في عنفٍ أمام عاصفة هوجاء. ما أشد شقاء النخلة الوحيدة والرمال السافية الكالحة تغطي الأحواض التي حولها، بعد أن كانت منابت لخمائل الزهر.

وصمت لحظة ثم قال: عفوًا يا سيف، فإني أكاد أعجب من نفسي إذ أقول لك هذا، فكأنني نسيت أنك أمامي، إنما هو مثل أضربه، وما أكثر الخطأ الذي تطويه الأمثال في زخارفها!

فقال سيف: ولكن النخلة الوحيدة لا تبخل بظلها أبدًا. ها أنا ذا أمضي مع المثل، وما أحسبه إلا صادقًا.

فقال الشيخ باسمًا: ومن ذا يعبأ بظل نخلة ذاوية؟ إنه لا يغني شيئًا إذا اشتدَّ الحر في الظهيرة، ولا يُقدم للناس عذرًا بثمرة تُرجى منه. ما أنا إلا رجل تخلَّف عن عالمه خطأ، ذهب لِدَاتي الذين عرفتُهم وعرفوني، وزالت معالم الحياة التي أَنِسْتُ إليها، فأنا لا أرى حولي إلا أغرابًا، أجهل عنهم كل شيء ويجهلون كل شيء عني.

فقال سيف: قد تجهلهم أنت يا سيدي، ولكن من ذا يجهلك أنت؟

فقال الشيخ هادئًا: ومن أنا يا ولدي؟

فقال سيف في ثبات: حكيم صنعاء، بل حكيم اليمن. هذا ما يقوله الناس جميعًا.

فقال الشيخ: حكيم اليمن؟ ما أطيب الناس إن قالوا هذا!

لست أتواضع يا سيدي الأمير، ولا أحب التواضع الكاذب الذي يستدرُّ الرحمة أو يختلس المجاملة، أودُّ مخلصًا لو استطعت أن أتجرد من هذا الفكر الذي أشعرني الجدب والإفلاس، فكلما تعمقت ضميري لم أجد فيه شيئًا يستحق أن أسميه فكرًا. فإذا عثرت على شيءٍ أظنه يستحق أن أجهر به لم أجد جدوى في أن أنطق به. ولمن أنطق؟ لمن أتحدث؟ أللقليلين الذين يستطيعون أن يستمعوا، ومع ذلك فهم لا يريدون إلا أن ينصرفوا إلى التافه السخيف؟ أم إلى الأكثرين الجهلاء الذين لا يجدون وسيلة إلى شيء غير ما يُمْسِك الرَّمَق؟

فقال سيف: إذن تعيش لفكرك وحكمتك، وحسْبك أن تكون موردًا لنفسٍ بشرية واحدة.

فأطرق الشيخ ثم قال في صوتٍ خافت: لو علمت أن عندي ما يروي نفسًا بشرية لما ترددت في شيء. ليس عندي ما يروي، فما أنا إلا رجل إذا عاش مع الناس عاش وَحْدَه. إن المغني لا يَطْرَب إذا غَنَّى في سجنه؛ لأن طربه مُستمد من استجابة سامعيه.

فقال سيف: أليس هذا هبوطًا بالفكر؟

فقال الشيخ: ولِمَ تُسميه هبوطًا؟ إن الناس يخدعون أنفسهم بمثل هذه الأباطيل، وما هي إلا محاولة ماكرة لصرف الفكر عن أداء واجبه في الحياة. ليس المفكر مثل الوعاء الممتلئ الذي يفيض بما فيه عن مدد غير منقطع. لا يستطيع المفكر أن يؤديَ الفرض الذي توجبه عليه طبيعته إلا إذا اتصلت أسبابه بالناس، واستطاع أن يستمد منهم نبع أفكاره، فهو يعطيهم ما يستمده منهم، مثل النحلة التي تستمد شرابها من قطرات الزهر ثم تُحيله إلى عسل فيه حلاوة وشفاء. الأفكار لا تعيش في فراغ ولا تجد صدًى إلا في القلوب، والمفكرون قوم فيهم شَطَط وكلفة، لا يَرْضَوْنَ إلا إذا تحركت قلوب الناس ليستمدوا الإلهام من حركتها. ولكن الحركة تُكَلِّف الناس جهدًا، كما أنها تزعج الذين اطمأنوا في مقاعدهم، بعضهم يَقْتَعِدُ الأكتافَ مِنْ عَلُ، والآخر يَرْزَح مطمئنًّا تحتَ العبء الثقيل الذي يحمله، وكلاهما لا يحب أن يتكلف مشقة، فالراكبون على الأكتاف يَخْشَوْنَ مشقة النزول، والرازحون تحت الأعباء لا يستطيعون أن يبذلوا جهدًا ليتخلصوا من أحمالهم. فما الذي يحملني على أن ألتمس المتاعب لنفسي ولغيري؟

فقال سيف باسمًا: لم أقصد كل هذا يا سيدي الجليل، وإن كان ما أسمعه يلذُّ سمعي، ولكن قولك يحملني على أن أسألَك هل ترتاح إلى أن تترك الشر مستقرًّا لأنك تشفق من الحركة؟ ماذا تريد أن يبقى للناس إذن؟

فقال الشيخ في شيءٍ من الْحَنَق: تبقى فيها الأسواق التي تعرض ما يطلبون.

فضحك سيف قائلًا: عفوك يا سيدي، فإنها كلمة فَكِهَة. أتقصد الخبز واللحم والمساكن والملابس؟

فقال الشيخ باسمًا: صدقتَ يا ولدي. وإن شئتَ فأضف الخمر والعطور وأنواع العقاقير من مخدر وسُمٍّ وترياق.

فقال سيف: أهذا كل ما ينبغي أن يُعرض في الأسواق؟

فقال الشيخ: في أسواقنا … هذا ما يطلب الناس حقًّا … هذا كل ما تتحرك نفوسهم إليه.

فقال سيف: وليس للفكر مكان؟ ولا للأدب ولا العلم ولا الحكمة؟ أأنت تقول هذا يا سيدي الجليل؟

فقال: لأني لست أحب أن أَكْذِبَ نفسي أو أَكْذِبَ الناس. ولكني لست أنكر قدر العلم أو الحكمة أو الأدب، وهل أنكرها وهي كل ما أدِّعي؟

فقال سيف: ما الذي يحملك على أن تحسب أن الناس لا يطلبون شيئًا من ذلك؟

فقال الشيخ في شيء من المرارة: رأيتهم يختارون ما يطلبون وينصرفون عمَّا لا يُحِسُّون حاجةً إليه، هذا كل شيء. وجدتهم يشترون ما يتملَّق غرائزهم البهيمية وما يثير الحيوان في طبيعتهم، ويبذلون أثمانًا غالية، حتى إنهم لَيَشترون الإنسان نفسه إذا وجدوا فيه متعة. أليسوا يشترون المرأة ليتخذوها أَمَة ومتعة؟ ألا ترى الناس يهبطون بالإنسانية إلى مستوى السلعة إذا وجدوها تُرضي حيوانيَّتَهم؟ ولكنهم لا يقذفون قطعة من الخبز الجاف إلى إنسانٍ جائع. يبذلون الأموال في الخمر والميسر وفي الجواهر، في الحجارة الثمينة، وفي العطور والحرير، بل يَرْضَوْنَ أن يبذلوا الأموال ثمنًا لكلمة نفاق أو رياء أو مديح أو دعاية، ولكنهم ينصرفون ساخرين عن الإحسان وعن الكلمة التي تثير المعاني السامية، أقصد المعاني التي تقلق النفوس أو تكلف الأجسام شيئًا من المشقة. هم يختارون ما يشاءون، ولا حيلة لأحد في حملهم على غير ما تهوى نفوسهم. أيستطيع أحد أن يلقي سلعته على الناس قسرًا؟ تقول لا؟ إنهم يدوسونها بالأقدام ثم ينصرفون ساخرين. إذن فأولى بمن كانت عنده سلعة كاسدة مثل سلعتي أن يتحمل وحدته وأن يقنع بجدب الوحشة والعزلة، فذلك أرفق بي وأهدأ لضميري.

فقال سيف في شبه عتاب: قد يكون أرفق بك، ولكنه لا يمكن أن يكون أهدأ لضميرك.

بل عفوًا أيها السيد الجليل إذا قلت: كأنك أنت تشفق على نفسك من الحركة. لا تؤاخذني فيما أقول يا سيدي، فإنني أحد من يطلبون ما عندك.

فقال الشيخ باسمًا: أنت؟

فقال سيف: عفوًا يا سيدي، فكأنك تشير إلى ما اعتراني في تلك الأشهر الماضية.

فقال الشيخ هادئًا: بل أُشفق عليك يا ولدي.

– وكيف؟

فقال الشيخ بعد لحظة صمت: لقد كلمتني صريحًا فلأجبك صريحًا.

ثم سكت لحظة أخرى واستأنف بعدها: إنك أمير وابن أَبْرَهَة.

وصمت مرة أخرى ينظر إليه، وخُيل إليه أنه يرى حمرة خفيفة على وجه الفتى.

ومضى قائلًا: وهذا الذي أصفه لك من فساد الضمائر وإسفاف النفوس وزر من أوزار الحكم. لا تؤاخذني فقد قلت إنني سأكون صريحًا. بل لا يغضبك قولي؛ لأنني أقوله لك على أنني أمتُّ إليك بصلة من القربى لا تعرفها.

فقال سيف: بل أعرفها، فإن أمي أخبرتني.

فقال الشيخ مرتاحًا: لست أحاول أن أسمو إلى مقام الملكة، فما أنا إلا رجل من العرب وهي ملكة اليمن. ولكني أتوسل إليك بصلة القربى ليكون قولي عندك رفيقًا. فإذا أردت أن تحرك الأفكار وأن تجعل الناس يتحركون، كنت بمثابة من يريد أن يُزلزل الأرض تحت أقدامه.

فقال سيف: ولكن الحاكم يستطيع أن يصلح ويستطيع أن يسمو بالناس إذا خلصَتْ نيته في الإصلاح.

فقال الشيخ وفي صوته هزة: هَيْهاتَ يا ولدي! لعلك نَسِيتَ أنني عربي. لعلك نسيت أنني حاربتُ يومًا في صفوف العرب ضد أَبْرَهَة.

فأطرق سيف حينًا ثم قال: ولكن ذلك عصر مضى، وأَبْرَهَة اليوم ملك اليمن، والعرب رعاياه. بل لعلك أنت تنسى يا سيدي الشيخ أنني ابن رَيْحانة.

وخفق قلب الشيخ وقال: ما أجمل هذا يا ولدي! كأنني أسمع صوت ذي جدن.

فقال سيف: لقد نسيت يا سيدي أن أحمل إليك رسالتي، فإن أمي بعثَتْ بي إليك ترجو أن تعودَ إلى غُمْدان.

فقال الشيخ: عهدتها نبيلة كريمة، فاحمل لها شكري ومحبتي.

وصمت لحظة ثم قال: واعتذاري.

فقال سيف في قلق: إذن فهل أقول إنني كذلك أتيت إليك راجيًا؟ وهل أعزز رجائي باسم خَيْلاء؟

فقال الشيخ متأثرًا: أنت تعرف ما لك وما لخَيْلاء عندي، ولكنك لا تعرف ما للملكة الرحيمة من دَيْن في عنقي.

واستند برأسه إلى الوسادة التي وراءه وأغمض عينيه قائلًا: احمل إلى الملكة الجليلة جميل عرفاني ورجائي أن تعفيني من العودة إلى صنعاء. لن أستطيع أن أعيش هناك طويلًا، وأحسُّ أن صفحتي قد طُويَتْ أو أوشكت أن تُطوى، فدعني أقيم هنا في هذه الدار البالية أنتظر يومي. هنا لا أرى إلا السماء والنجم، أو هذا البستان الأشعث المضطرب، أو حقول الأودية المحيطة بي، حيث لا يلقاني إلا العامل الذي يسوق الثور، أو الراعي الذي يسير مع كلبه وراء غنمه، فهؤلاء أقرب إلى نفسي من كل السادة الذين أراهم في أبهاء غُمْدان. لا، لن أعود إلى غُمْدان.

فقال سيف: لا يحملك الغضب يا سيدي على أن تعيدني خائبًا. ماذا أقول لك؟ أأقول لك أيها الخال العزيز؟

وتحرك الشيخ في مجلسه وأدار وجهه قليلًا.

ومضى سيف قائلًا: قد عرفتك كما عرفت نفسي، وإن كنت لا أبلغ أعماق حكمتك، وكنت أستمع إلى أقوالك أحيانًا في ضجَر عندما كنت تتحدث عن قوم أمي الذين حاربوا أبي، وكنت إذا قلت لي إنني أشبه جدي كنت أحسُّ كأنك تريد أن تَحُطَّ مني، ولكني كنت عند ذلك لاهيًا، يحملني الجهل والغرور على تياره لا على طبيعتي. وإني أحسُّ في نفسي شيئًا جديدًا، أحسُّ كأنني كنت نائمًا ثم استيقظت، فأنا أنظر اليوم إلى الناس كما أراهم، ولست أَكْذِبُكَ أن بؤس الأشقياء يحرك من نفسي أكثر مما تحرك الكبرياء، أُحِسُّ في قلبي أحاديث كثيرة، وأتلفَّتْ أحيانًا أريد أن أجد أذنًا تسمعني. وهناك خَيْلاء تستجيب لي، ونَهِيم معًا في أودية الفكر على غير هُدًى، فهل لك أن تكون هادينا؟ ألا تجد سوقًا لحكمتك إلا أن تكون سوقًا عامة مزدحمة تلتمس لها الرواج فيها؟ لا تنزل إليها الحكيم بالحكمة إلى سنة الأسواق كما يفعل باعة الخبز واللحم أو الخمر أو العطور. لا تؤاخذني إذا كان قولي عنيفًا فإني أود أن تسمع حجتي.

وأطرق الشيخ في صمت، وذهب به خياله إلى بعيد عندما قال له أبو مرة: «أوصيكَ بولدي.» أيقول الفتى إنه يحسُّ في نفسه شيئًا جديدًا؟

ونظر إلى وجهه وإلى جبهته العالية وعينيه السوداوين العميقتين وتعبير ملامحه النبيلة، وخطر له سؤال وهو يعلق به عينيه: أما آن الأوان بعد؟

ولم يملك أن قال: سأعود معك إلى صنعاء يا ولدي، وإن كلَّفني ذلك ما بقي من أيامي.

وكان الليل يلفُّ صنعاء عندما دخل الراكبان من بابها الضخم، وكانت الأنوار الباهرة تلمع من نوافذ القصر ومن وراء قُبَّته الْمَرْمَرية العالية. وذهب سيف إلى أمه بعد أن أنزل الشيخ في غرفة بمنزل الضيوف ليحمل إليها بُشرى عودة ابن عمها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤