الفارس الملثم

هذه دمشق جنة الله في أرضه، تتخايل بمروجها الخضراء، ورياضها الزهر، وبنسيمها الذي اعتلَّ فصحت به الأجسام، ورق فهفت له الأرواح، ومر وئيد الخطى فتشبثت بذيله الأزهار، وهذه جداولها التي تجري في خرير عذب يناغم تغريد الطيور، تفترق وتلتقي فتصور الحياة بين يأس ورجاء، وفرقة ولقاء، ثم لا تفتأ تتعثر بين الخمائل، وتنحدر بين الغياض، حتى تلتقي بنهر بردى فيلتقمها زخاره الخضم، ويدور بها كالمذعور الحائر يلج كل دار، ويخرج من كل حائط.

هذه دمشق بقبابها العالية، وقصورها الشامخة، ومآذنها التي امتدت إلى السماء كأنها تطلب شيئًا في السماء.

هذه دمشق في سنة ثنتين وتسعين للهجرة، في أيام خليفتها العظيم الوليد بن عبد الملك.

عظمة وسلطان ومُلْك عريض، وقوة أخضعت الفرس، وجثت أمامها بيزنطة خاشعة تلقي الزمام في ذل وخضوع، ومشت إليها الرسل من أقاصي أوربا والشرق يطلبون الزُّلْفَى، ويستجدون نظرة رضا تضع قلوبهم في أمكنتها، وسارت كتائبها في أرجاء الأرض فاتحة غازية لا يفارق النصر رايتها، ولا ينزل الدهر إلا عند كلمتها. ثم سياسة ودهاء ومراس بالحكم ملأت بها دولة أمية القلوب خشية ورعبًا، أو إخلاصًا وحبًّا، وجردت كل سيف من غمده في الذياد عن حوزتها، وبذل النفس رخيصة في توسيع رقعتها.

هذه دمشق أيام الوليد بن عبد الملك، وقد كانت زينة العواصم، وقرة عين الدنيا، تموج بمن يردون عليها من أقطار الأرض من عرب وترك وروم وبربر. وكانت في هذا اليوم الذي تبدأ فيه قصتنا شديدة الزحام، انتشر الناس في أرجائها جماعات جماعات، وأخذ بعضهم يصافح بعضًا في سرور ونَزَق، وخرج كثير منهم عما اعتادوه من وقار وتحرج، وكان الشبَّان يتغنَّوْن بأهازيج تترنم أنغامها بمجد العرب، وبسالة العرب، وإقدام العرب. وانتزعت فتاة خمارها وانتطقت له، ثم انطلقت ترقص بين تصفيق المعجبين، وترديد المنشدين، وكان من أراجيزهم:

«لذريق» قد طارت بك الأوهامُ
ما لك عند طارق كلامُ
أبطالنا غطارف كرامُ
الحق في يمينهم حسامُ
وراية يرفعها الإسلامُ
عزيزة في الجو لا ترامُ
الدير «لذريق» أو الحمامُ

وكان يقف ناحية شيخ جاوز الثمانين، حطمته الأيام، وحنت ظهره أثقال السنين، فتقدم نحو أحد الشبان، وسأل في كلمات تعثر بها لسانه: ما الخبر يا فتى؟

– فتحنا الأندلس، وانتصرت جيوش طارق بن زياد بوادي «لكَّة» على علوج «القوط»، وفر صاحب مملكتهم المسمى «لذريق» بجواده فلم يقفوا له على أثر.

– هذا فتح مبين يا بني! ولو أطاعتني عصاي، وحملتني ساقاي، لرقصت مع الراقصين.

ثم لوح الشيخ بعصاه، وصاح بقدر ما يستطيع صوته: «هلم إلى دار الخلافة، هلم إلى الوليد بن عبد الملك، إن هذا اليوم يا أبنائي يوم مشهود يجب أن تسرع فيه الوفود إلى تهنئة أمير المؤمنين.»

وكان لهذا الصوت الضعيف من هذا الشيخ الفاني سحر تفتحت له القلوب، وأصغت الأسماع، فتزاحم الناس صائحين. «إلى دار الخلافة! إلى دار الخلافة!»

كانت دار الخلافة بالجانب الشرقي من دمشق تطل على الغوطة التي تعد من أجمل منازه الدنيا، وكانت تُرَى من بعيد جاثمة فوق ربوتها العالية كأنها الحصن العظيم. وهي بناء بيزنطي قديم بذل فيه الفن والمال ما جعله صورة ناطقة بالجمال، وأثرًا باقيًا للعظمة والجلال. جلس الوليد في أصيل هذا اليوم في القاعة الكبرى التي يستقبل فيها الوفود وكبار رجال المملكة، وجلس إلى يمينه سليمان بن عبد الملك، وإلى يساره مسلمة بن عبد الملك، الذي لم تترك غزواته للروم بلدًا لم يرتفع فيه صوت مؤذن، ثم جلس بعدهما كبار دولته، وكان منهم: عبد الله بن همام السلولي، وقتيبة بن مسلم، وأبو القاسم المخزومي، والمغيث بن الحارث، وحبيب بن عقبة. فبدأ الكلام عبد الله بن همام وكان ذرب اللسان حاضر البديهة، فقال: إن هذا الفتح يا أمير المؤمنين إلى ما أنعم الله به علينا من فتح الهند والروم وأقصى بلاد خراسان، لدليلٌ على يمن طالع أمير المؤمنين وسعادة جده، وأن المسلمين في أقطار الأرض ليتجهون نحو دار الخلافة كما يتجهون في صلاتهم إلى القبلة، ويرون أن أمير المؤمنين — أمتعنا الله بحياته — عصمة دينهم، ومجد دنياهم، وحامل رايتهم إلى الظفر والانتصار.

فتحرك في مجلسه قتيبة بن مسلم جبار خراسان، وظهرت على وجهه كدرة من الغيرة المكبوتة، وقال في تردد: لو كنت في سرج طارق ما اكتفيت بفتح الأندلس، وما خلعت رجلي من ركابي إلا بعد أن أخترق الأرض الكبيرة، وأُطِلَّ على البحر المحيط. فصاح به أمير المؤمنين: مه يا قتيبة، فإن لطارق من الجرأة ما لا تقف أمامه عقبة، وهو فتًى أحوذي بعيد الرأي واسع الحيلة، وأخشى ما أخشاه أن يغرر بالمسلمين، ويسلك بهم مسالك تنسد خلفهم منافذها، وبيننا وبينه المَهَامِهُ الفيح واللُّجَجُ الخُضْر.

فقال المخزومي: قدم في هذا الصباح حبيب بن عقبة رسولًا من قبل طارق، وما كاد يصل إلى بساطي حتى سقط من الإعياء بعد أن طوى في السفر إلينا شهرًا لا يستقر به جواده في ليل أو نهار … فلما سكت عنه التعب، وعادت إليه أنفاسه، تقدم إلينا برسالة من طارق لم يكتب فيها إلا سطرًا واحدًا.

ثم أشار إلى كاتبه وأمره أن يقرأ الرسالة فقرأ: «أيد الله أمير المؤمنين وأعز جنده، إنه ليس فتحًا يا أمير المؤمنين، وإنما هو الحشر ويومه!»

ثم اتجه حبيب بن عقبة نحو الخليفة فأومأ إليه بيده أن يتكلم فقال: لقد كانت مغامرة يا أمير المؤمنين، باع فيها المسلمون أنفسهم في سبيل الله والحق، ووثبوا بعزائم كالقضاء المحتوم ليس له من مرد ولا عنه من محيص، ونبذوا الخوف من العواقب وراء ظهورهم ساخرين مستميتين، ولقد كنت إلى جانب طارق حين أبحرت سفننا من «سبتة» في ظلام الليل الدامس كأنها مردة الجن لا تبطش إلا في الظلام، وكنت أراه وهو ينظر نحو الأندلس بوجهه العابس، وعينيه المتقدتين، فما كنت أرى إلا أسدًا غاضبًا يتحفز للوثوب، أو نسرًا جارحًا لاحت له الفريسة من بعيد فصفق بجناحيه لاصطيادها. بلغنا برَّ العدوة فنزلنا في صمت زاده ظلام الليل روعة وإرهابًا، وكأن الخيل والإبل أرادت ألا تكون دوننا في الحذر فكتمت ما في صدورها من صهيل ورغاء.

نزلنا يا أمير المؤمنين كأننا ملائكة الله نزلت على القوم من السماء، وتقدم جيشنا نحو الأعداء، وقَدِمَ لذريق بأجناده مدجَّجِين مسلحين لا يَعرِف أوله أين آخره.

فلما رأيت يا أمير المؤمنين كثرة عددهم، وقوة عتادهم، جشأت نفسي وجاشت — كما يقول قطري بن الفجاءة — وهالني ما يهول الشجاع إذا رأى الفرار حزمًا، فهمست في أذن طارق قائلًا: «حذار يا طارق! فإني أرى جيوشًا تسد الأفق، كأنها البحر المضطرب، وماذا نصنع أمام هؤلاء باثني عشر ألفًا من العرب لا يحمل أكثرهم إلا هراوة أو رمحًا محطمًا؟!» فنظر إليَّ نظرة ساخت لها نفسي، ثم قال في غضب: «صدق الله العظيم وكذبت يا حبيب»: كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ «البقرة: ٢٤٩».

ثم صاح في وجهي وكأن صوته زمزمة الرعد، وقال: «اذهب مع جماعة من جندك وأحرق السفن التي قدمنا عليها.»

فملكتني الدهشة وقلت: «ماذا بك يا طارق؟ أُحرق السفن؟» فصاح: «نعم أحرق السفن، واجعلها رمادًا؛ حتى ييأس من لم يثبت الإيمان قلبه من الفرار.»

«وأحرقت السفن أمام الجنود يا أمير المؤمنين، ووقف طارق بينهم خطيبًا، ولا والله ما طرق أذني من مخلوق كلام بعد كلام النبوة أنفذ إلى القلب، وأدعى إلى الإقدام والاستهانة بالموت!

وسار الجيش يا أمير المؤمنين، وتقدم كأنه البنيان المرصوص، فذُعِر القوط، وأدركهم الوهل، ولمح طارق من بعيد كبيرهم لذريق وهو في سريره، وعليه مظلة مكللة بالدر واليواقيت فصاح: «هذا طاغية القوم! هذا هو بعينه، وإني والله لقاتله!» ثم خلص إليه فضربه بالسيف فقتله على سريره. فلما رأى القوم مصرع سيدهم طارت نفوسهم شعاعًا، وتفرَّقوا أيديَ سبأ كما تطير العصافير قذفت على دوحتها حجرًا، وقد تركت طارقًا وهو ينتقل من ظَفَر إلى ظَفَر، والحصون تنقض أمامه كأنها كثبان الرمال.

أما ما أفاء الله به علينا من الكنوز والغنائم ففوق إدراك العقل وتصوير الخيال.»

فقال مغيث بن الحارث فيما يشبه الدعابة: «يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا!» وزَفَر الخليفة زفرة طويلة وهو يقول: هذا كله من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن الخوف لا يزال يساورني، وأكثر ما أخشى أن يجتمع القوم بعد أن فجأتهم الهزيمة فيلمُّوا شعثهم، ويعيدوا الكرة على المسلمين، وليس أقوى من طالبِ ثَأْر، ولا أشدَّ شَكِيمة من ذائد عن وطن، ونحن هناك في قلة، وليس وراء جنودنا ما يحميهم. هذه الوساوس تلعب بي منذ الصباح، ولن تقرَّ لي عين، أو يستقرَّ لي وِسَاد، وأنا أرى المسلمين في خطر مُحْدِق وبلاء محيق.

فقال ابن همام: وليهدأ روعك يا أمير المؤمنين؛ فإن جنودك إنما يجاهدون في سبيل الله، وقد وعد الله في كتابه بنصر المؤمنين.

– نعم يا عبد الله، ولكن يجب أن نعد لهم — كما أمرنا الله — ما استطعنا من قوة ومن رباط الخيل.

وهنا وقف المغيث بن الحارث وقال: لو أمرني أمير المؤمنين بالرحيل لرحلت الساعة مع جنودي.

– كم عدد جنودك؟

– سبعمائة بين فارس وراجل فقال الخليفة في نبرة حزينة: يا له من جيش لهام!

– إن كل رجل في جيشي يعدل مائة.

– هل أعددت العدة؟

– ثلاثة أيام تكفيني.

– اذهب على بركة الله منصورًا موفَّقًا!

ثم تهيأ الخليفة للقيام فانصرف القوم، واتجه أبو القاسم المخزومي إلى المغيث فوضع ذراعه على كتفه في حنان الأبوة، ثم همس في أذنه قائلًا: ما أعجبك يا بني! لقد كنا نعد العدة لزواجك ببنت أخي عائشة، فماذا أنت قائل اليوم؟ وكيف تنفض إليها الخبر؟ إن نبأ رحيلك سينقض عليها انقضاض الصاعقة، فأجمِل لها الحديث يا بني وتلطف.

فقال المغيث وعلى وجهه سحابه من الحزن والقلق: لا تبتئس يا سيدي، فإن عائشة أشجع فتاة بدمشق، وهى لا تحب لمن اختارته لنفسها إلا أن يكون شجاعًا مقدامًا. هلم بنا إليها.

عائشة المخزومية بنت هشام المخزومي من بيت عريق النسب، كريم الأَرُومة. كان أبوها من حُمَاة الأموية وصناديدها، وكانت في ذلك الحين في العشرين من سنيها صبيحةً مليحةً رائعةَ القَسَمَات، مشرقة البَسَمَات، لها عينان يتألق فيهما السحر، وتتوثب الفتنة. ثم هي إلى ما منحها الله من الجمال البارع، والحسن الفاتن، تعتزُّ بنفس عربية كريمة خلقت للشجاعة والإقدام وخطيرات الأمور. جسم تحسده حور الجنة الحسان، ونفس أمضى عزيمة من الصارم الفصال.

خطبها المغيث إلى عمِّها فرضيته بعلًا لما عرفته وعرفه الناس فيه من البطولة والمروءة والطموح إلى العظائم. إلى قسامة وجه، ورجاحة عقل، وحُسْن أدب، ولطف حديث. وكان يزور دارها بين الحين والحين؛ فكانت كلما زادت به معرفة زادت به كلفًا وحبًّا، وكلما زالت بينهما الكلفة ونمت الألفة، زاد إكبارها له وافتنانها بأدبه وخلقه العظيم؛ لذلك أصبح حبه خيال أحلامها بالليل، وسمير وحدتها بالنهار.

دخل أبو القاسم مع المغيث فحيَّتْهُما عائشة في سرور وابتهاج، وصاحت: أعلمتما الخبر؟ لقد فتحنا الأندلس!

فقال لها المغيث مداعبًا: وعلمنا قبل ذلك أن فتاة تدعى عائشة المخزومية غزت القلوب، جلست فوق عروشها ملكة مطاعة!

فابتسمت عائشة وقالت: دع المزاح يا بن الحارث؛ فالأمر جِدٌّ وما هو بالهَزْل.

– هذا صحيح، وأظن طارقًا الآن في طريقه إلى طليطلة.

– يا له من فتح مبين!

– لا يكون فتحًا مبينًا إلا إذا ذهب حبيبك فملك الجزيرة كلها، وعاد إليك بتاج ملكة القوط؛ ليزين به أجمل جبين أشرقت عليه الشمس.

فبسر وجه عائشة كأنها توجَّست شرًّا وقالت: تذهب إلى الأندلس غازيًا؟

– نعم يا فتاتي، أذهب بعد أيام على رأس جيشي بأمر أمير المؤمنين.

فوثبت إليه تعانقه وتمسح بيدها على كتفه في رفق وتدليل وهي تقول: خذني معك يا مغيث، فإني لا أطيق أن يمرَّ يوم واحد دون أن أراك.

فقال المغيث في استنكار: كيف أصحب فتاة لم أكن لها بعلًا؟!

– نعقد الزواج غدًا، ونسير على بركة الله.

فقال في سخرية لاذعة: وماذا نقول للشاعر الذي يقول:

كتب القتلُ والقتالُ علينا
وعلى الغانيات جرُّ الذيولِ؟

– نقول: إنه مغرور أحمق، جهل الرجال ولم يعرف بعض خلائق النساء. فليس كل رجل شجاعًا، وليست كل غانية خائرة العزم مكسالًا. ما هذه الأَثَرَة أيها الرجال؟ كأن الله لم يخلق سواكم للمجد والبطولة. نعم، إن الله مَيَّزَكم علينا ببسط الجسم، وقوة العضل. ولكن قوة الروح وجرأة العزيمة أقوى من الحديد والنار. والعزيمة إذا تمكنت من المرأة وتغذَّت بعواطفها، ونهلت من غرائزها، خاضت الأهوال، وعصفت بكل ما أمامها من عقبات وصعاب. لقد زينت لكم كبرياؤكم أن المرأة لم تخلق إلا ليلهو بها الرجل في شبابها، ولتلهو هي بالمغزل في هرمها، فَرُحْتُم تتندرون بالنساء وبضعف النساء. لِمَ لا تقود المرأة الصفوف، وتلاقي الحُتُوف، وتضرب في سبيل الله كما تضربون؟ إن الله فرض الجهاد على الرجل والمرأة معًا، فدعونا نقاتل في سبيل الله، ودعونا نقاسمكم ثمرات المجد أو نفز بالشهادة إذا وارتنا القبور.

كان المغيث مطرقًا واجمًا، فقد هاله ما سمع من فتاة بني أمية، وأبت عليه نفسه أن يُطفئ هذه الشعلة، أو ينال من هذه الحماسة بسوء، فربت كتف عائشة وقال: لم تزيديني يقينًا ببطولتك يا عائشة، ولن يزال الإسلام بخير ما زاحم النساء الرجال في ساحات المجد والجهاد.

فتهلل وجه عائشة وصاحت: إذن خذني معك يا مغيث؛ فتلعثم لسانه وقال: دعي هذه الغزوة يا عائشة، فإن الخليفة يخشى فيها على الرجال، فكيف يرضى أن تخوض غمارها النساء؟

– أَيَقِفُ الخليفةُ في وجه فتاةٍ رأت أبواب الجنة مفتحة فحنَّت إلى دخولها؟

– إن شؤون المسلمين أمانة في يده يا بُنَيَّة، وهو بهم رحيم، وعليهم حريص.

ثم انفلت من بين يديها في خفة الطائر الحذر، وقامت عائشة لتدركه فلم تجد له أثرًا، كأنما ابتلعته الأرض أو تخطفته السماء.

رحل المغيث إلى الأندلس برجاله، والتقى بطارق بمدينة «إشبيلية»، فرأى جنودًا يتقدون حماسة، وقائدًا لم تلهه الغنائم والكنوز عن مقصده الأسمى، ولم تستهوه غانيات الأندلس بما أفاض الحسن عليهن من سحر وملاحة، فاندمج في جيش طارق وانقض معه على «أستجة»، وكان أهلها في قوة ومنعة وعدد وعدة.

أما عائشة، فبقيت بعد رحيله أيامًا تقاسي ألم الفراق ولوعة الهجر، وتشكو مما أسمته ذل الأنوثة واستخفاف الرجل بالمرأة؛ لأنها لا تشهد حربًا ولا تصول بسيف.

وحينما ضاق بها نطاق الصبر، ألحت على أمها أن تأذن لها في الرحيل إلى الأندلس، فبهتت المرأة، وظنت أن مسًّا من الجنون قد أصاب فتاتها لفراق من تحب، ولكن عائشة لم تنهزم أمام هذا الاستنكار، فكررت الرجاء، وأَلْحَفَتْ في المسألة، وكلما زادت أمُّها إباءً زادت عزيمة وعنادًا، وطال الجدل، وطال الحديث، حتى ألقت أمها بالعنان مستنكرة ساخطة، وخضعت لإرادة ابنتها؛ لأنها لم تستطع إلا أن تخضع. وهبت عائشة كأنها النَّمِرة الوَثُوب، فارتدت ملابس أخيها عبد الله، ولبست درعه، وتسلَّحت بسلاحه، ثم أعدت حقيبة ملابسها ووضعت بها مائة دينار، وصاحت: «يا رباح!» فأقبل عبد زنجي برَّاق السواد كبير الهَامَةِ شعشاع، كأنه قطعة من جبل. وحينما وقف بباب الحجرة دهش لما رأى عائشة في زي الرجال، وهزَّ رأسه في عنف كأنه يريد أن يستيقظ من حلم مخيف، فابتدرته آمرةً: خذ الأُهْبَة يا رَبَاحُ لسفر طويل، فأعد أربعة جياد، واحمل على اثنين منها ما تحتاج إليه من زاد وسلاح. أسرع!

– إلى أين يا سيدتي؟

– إلى حيث تغرب الشمس. فبهر العبد وقال: أخشى أن يلتقمها البحر يا سيدتي قبل أن ندركها.

– لا تخش شيئًا يا رباح. اذهب قبل أن يظلَّنا الليل.

فانطلق رباح، وكان يرى لذة في خدمة سيدته، وسعادة في أن تأمره فيطيع، وبعد قليل أعدت الخيول، وودعت عائشة أمها بين زفرات الألم وقطرات الدموع.

انطلقت عائشة من دمشق وخلفها رباح في أصيل يوم من أيام ذي الحجة سنة ثنتين وتسعين، وأحرى بنا ألا نحاول وصف ما لاقت هذه الفتاة المقدام في طريقها في الشام ومصر وبلاد المغرب، من أخطار وصعاب، فقد يكون أحيانًا من حسن الوصف ألَّا تصف، ومن حسن الرأي أن تدع الكلام عمَّا يعجز عنه الكلام.

وبلغت عائشة «سبتة»، وهي مدينة حصينة بِمُرَّاكش، تقع قبالة الجزيرة الخضراء بالأندلس، وبينهما بحر الزقاق الذي يبلغ عرضه بضعة أميال. وحينما وقفت على سيف البحر حاولت أن تجد سفينة تمخر بها إلى عدوة الأندلس، ولكنها لم تجد إلا سفينة واحدة ظهر لها مما فيها من العبيد والخدم أنها خاصَّة ببعض كبراء المدينة، فوقفت حائرة تجيل الطرف هنا وهناك، علَّها تظفر بسفينة أخرى، ولم يطل بها الوقوف حتى رأت فتاةً تدنو منها في بشاشة ولطف وتقول: أراك تنظر نظرة الحائر أيها الفتى الشجاع، فهل من حاجة لك نقضيها؟

فقالت عائشة في نبرة حزينة: أشكرك يا فتاتي، لقد كنت أبحث عن مركب أَصِلُ به إلى شاطئ الأندلس.

– إني ذاهبة الآن إلى الأندلس في سفينتي هذه، وفيها متسع لعربي كريم مثلك. فهل تسعدني بإجابة طلبتي؟

وكانت عائشة حريصة على السفر، فلم تأبَ الكرامة وقالت: «هذه منَّة لن أنساها أبد الدهر.» ثم التفتت نحو رباح، وكان يقبض على عناني جوادين بَقِيَا لهما بعد سفرهما الطويل، وقالت: «انزل يا رباح بما معك إلى السفينة، فقد تفضلت السيدة بحملنا إلى بر العدوة.»

كانت هذه السيدة، أو الفتاة إن شئت، تدعى «فلورندا»، وهي ابنة «يوليان» الإسباني الذي كان حاكم «سبتة» من قِبَل القوط، وكانت ذاهبة إلى الأندلس للقاء أبيها. وعندما كانت السفينة على وشك الإبحار لمحت فلورندا عائشة أو لمحت — فيما رأته عيناها — فتى عربيًّا يتألق فيه ماء الشباب، فأطالت التأمل، وأتبعت النظرة النظرة، فإذا شاب وسيم تظهر عليه سيماء النبل وملامح البطولة، وجه مشرق كأنه تنفس الصباح، وقامة معتدلة كأنها صعدة الرمح، وشباب ورونق وفتوَّة. رأت فلورندا كل هذا بعينيها فترجمتْه غريزتُها، وغريزة الفتاة في هذه السن الناضجة سريعة التأثُّر، ماهرة في الانتقال من الاستحسان إلى الرغبة والأمل. وكثيرًا ما يطغى بها الخيال فتجعل الأمل حقيقة واقعة، فتنت فلورندا بما رأت، وتيقَّظت أنوثتُها عاتية جامحة، فكادت تلتهم الفتى العربي بنظراتها، وتحرقه بزفراتها، وميل الفتاة إلى الفتى أو ميل الفتى إلى الفتاة أمر فطري يقوَى ويضعُف كما تقوى كل الميول والغرائز وتضعف، ولكن إذا اختلف الجنسان اشتد هذا الميل وعنف، كالكهرباء فإنها لا تتولَّد إلا إذا التقى سالب بموجب. وهنا التقى الجنس الآري بالجنس السامي؛ فكانت الشرارة لوَّاحة متأججة اللهب، هتفت نفس فلورندا صاخبة ساغبة: «لم لا تتزوجينه؟ إنك لن تجدي له بين الفتيان مثيلًا ولو ذهبت إلى أقصى الأرض، إن له وجهًا لم تطلع الشمس على أصبحَ منه. إن سمته وزيَّه ينمَّان عن أصل كريم ومجد عريق، إن بسمته في الصباح صباح، وطلعته في المساء ضياء المساء، يجب أن تتزوجيه أو أن تعملي على أن تتزوجيه، فإن من جَدَّ وجد، وكل من سار على الدرب وصل.»

جالت بنفس فلورندا كل هذه الخواطر وهي جالسة إلى جانب عائشة والسفينة تنشر قلاعها للرحيل، فقالت في صوت تكلفت أن يكون غير مختلج: من أين وإلى أين يا أخا العرب؟

– من دمشق يا سيدتي إلى جيش طارق.

– وهل اجتزت هذه الطريق الموحشة المزدحمة بالأخطار مع هذا العبد لا يصحبك سواه؟

– كان يصحبني سواه.

– من هو؟

– سيفي.

فابتسمت فلورندا وقالت: «أنتم هكذا أيها العرب؛ لا تفارقكم هذه الثقة بالنفس التي نسميها غرورًا؟!»

– سمُّوها يا سيدتي كما تشاءون … ولكننا حينما نثق بأنفسنا نثق معها بخالق أنفسنا.

– إني أخاف على هذا الشباب النضر أن تعصف به الحرب في إسبانيا.

– نحن عقدنا صفقة بيع ولن نرجع فيها.

– مع من؟

– مع الله، فإنه يقول، عز شأنه: إِنَّ اللهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ «التوبة: ١١١».

فضحكت فلورندا ضحكة ناعمة، وقالت: إذن لا أستطيع أن أرجعك عن عزمك؟

– يا سيدتي كانت أمي أقوى منك.

– ولكني قد أكون أقوى من أمك إذا كان لي مكان من قلبك.

قالتها مبتسمة وهى تنظر إلى عائشة بعينين فيهما كل حبائل الشيطان، فأحسَّت عائشة بالخطر، وهالها ما لم تفكر فيه أو تحسب له حسابًا. هالها أن الفتاة مفتونة بها مشغوفة، وأن هذا الشغف قد يكشف سرَّها الذي بالغت في كتمانه؛ فرأت من حسن الرأي أن تجامل وتراوغ حتى يفصل بينهما غمار الحرب، فقالت: إن لك مكانًا يا فتاتي في كل قلب، ولو أن بنات الإسبان كُنَّ مثلك لانتصرنَ على طارق وجيشه بسهام عيونهن.

فضحكت فلورندا، ومدت يدها إلى عائشة، وسألت: أتعرف من أنا؟

– كيف أعرف يا فتاتي وأنا لم أصل إلى سبتة إلا هذا الصباح؟

– أولًا ما اسمك؟

– أسامة الفهري.

– أنا فلورندا. فلا تقل «يا سيدتي» أو «يا فتاتي»! ولكن ادعني باسمي هكذا مجردًا كما يدعو الصديق الصديق.

– سمعًا وطاعة يا …

– فلورندا.

– يا فلورندا.

– إن أبي يوليان كان حاكم سبتة، وهو من عظماء القوط. وكانت العادة أن يرسل أمراء المملكة بناتهم إلى قصر الملك لتدريبهنَّ على آيين القصور، فأرسلني أبي إلى بلاط لذريق؛ فرأيت من لمحاته وكلماته ما أعجلني إلى الفرار بعرضي. وعلم أبي بالأمر فاشتد غضبه، وأقسم بدين المسيح أن يكون حربًا عليه مواليًا مع العرب، وذهب إلى قائدكم ابن نصير فعاهده على مناصرته وتذليل طريق الفتح لطارق، ولولا أبي ما استطاع جيشكم أن يفوز بهذا النصر المبين.

فابتسمت عائشة وقالت: إن لك أن تنسبي الفضل كله في هذا الفتح إلى أبيك يا فلورندا، فكل فتاة بأبيها معجبة كما تقول العرب في أمثالها. ولكنني أعتقد أن سيل العرب الزخَّار سيلتهم إسبانيا أساعدهم أبوك أم لم يساعدهم.

إن هذه صاعقة من السماء يا فتاتي لا يقف أمامها جيش، ولا تصدها قوة، وهل كان يوليان يعين جيش عمرو بن العاص حينما فتح مصر بأربعة آلاف مقاتل؟ وهل كان يوليان مع سعد بن أبي وقاص حينما سار لفتح الفرس بسبعة آلاف؟ دعي هذا يا فلورندا فإني أخشى أن أقول: إن أباك كان حكيمًا ألمعيًّا، وأنه رأى أن لا بد مما ليس منه بُدٌّ.

– أنت تقسو على أبي.

– أنا أصفه بالحكمة والألمعية، وأنت ترمينه بخيانة قومه ووطنه، فأيُّنا أنصف الرجل؟

– هذا جدال على الطريقة العربية يا حبيبي.

– أو على طريقة الحق.

وبلغت السفينة في المساء جبل الفتح أو جبل طارق، وأرادت عائشة التخلص من الفتاة، فقالت: أنت ذاهبة إلى أبيك، أما أنا فسأبقى هنا قليلًا لأستريح.

فقالت فلورندا: إن أبي مع طارق وأنت ذاهب إليه، فلنذهب معًا. فلم تجد عائشة بدًّا من مرافقتها فامتطتا جواديهما وخلفهما الخدم والعبيد، وما زالتا تغذان السير حتى بلغتا مدينة «أستجة»، وكان طارق قد فتحها، وأقام بها أيامًا؛ ليستريح جنده.

بلغتا المدينة عند الأصيل، وكانت تموج بالفاتحين، وقد ضربوا حولها خيامهم، وأناخوا إبلهم، وربطوا جيادهم. وزادت عائشة في تنكرها فوضعت على وجهها لثامًا على عادة أشراف العرب؛ فالتفتت إليها فلورندا ضاحكة وقالت: كنت أجتهد في أن أختار لك وصفًا جميلًا أدعوك به يا أسامة، ولكنك كفيتني عناء البحث. فهل تحب أن أدعوك بالفارس الملثم؟

– ادعيني يا فاتنة الإسبان بما تشائين.

ثم أمرت رباحًا أن يبحث في حذر وتلطف عن مكان المغيث، فعاد إليها بعد قليل يقول: إنه مع طارق في فناء قصر أمير المدينة.

وصاحت فلورندا: وهل رأيت أبي؟

– لا أعرف أباك، ولكني رأيت معهما علجًا مديد القامة طويل الشاربين كان الجنود يسمونه يوليان.

– الجنود يسمونه يوليان وأنت تدعوه علجًا يا ليلة المحاق؟ ولولاه …

فأشارت إليها عائشة أن تكفَّ، وقالت: «إن رباحًا رجل خشن لا يعرف مواقع الكلام.»

وانطلقت الفتاتان نحو جيوش القائدين، والتقت فلورندا بأبيها فطلب إليها أن تنزل معه، فهزَّت رأسها في امتناع، وهمست في أذنه قائلة: «لقد أسرت فتى عربيًّا جميلًا.» فدهش يوليان وقال: أسرت عربيًّا ونحن نحارب في صفوف العرب؟

فضحكت فلورندا وقالت: أسرته بشيء آخر غير الأغلال والقيود.

فابتسم يوليان وهو يقول: غمزة بعين، وابتسامة مغرية، وينتهي كل شيء؟

فهزت فلورندا رأسها في عبث الفتاة المتمكِّنة من فنونها. فقال أبوها: حسن، وماذا تريدين؟ إن طارقًا سيزحف على طليطلة، والمغيث سيذهب لفتح قرطبة غدًا. فأي جيش تتبعين؟

– سأتبع الجيش الذي يختاره الفارس الملثم.

ثم شبت على أصابع قدميها وتعلقت بعنق أبيها فأشبعته لثمًا وتقبيلًا، وانفلتت منه كما ينفلت الظبيُ من الحبالة، تبحث عن فتاها، فألفَتْه قد ضرب خيمته إلى جانب قصر المغيث فأظهرت الدهش وصاحت: أعزمت على النزول هنا يا أسامة؟

– نعم.

– سأضرب خيمتي إلى جانب خيمتك.

– ألم تريْ أباك؟

– رأيته، ولكني لا أستطيع أن أفارقك يا حبيبي.

فقالت عائشة وقد أدركها ما يشبه الغيظ: إنني قد أخوض مهالك أخشى أن يصيبك رشاشها، فخير لك يا فلورندا أن تقيمي هنا حتى أعود. إنني سأكون في جيش المغيث وسنثب غدًا على قرطبة، فرَجِّي الخير وانتظري إيابي.

– لن أنتظر، وسيكون فرسي جنب فرسك.

فهزت عائشة رأسها في صمت ووجوم.

وتحرك جيش المغيث في الصباح نحو قرطبة، وكان البرد شديدًا، والريح صرصرًا عاتية، وركبت عائشة وفلورندا ووراءهما العبيد، وكانت عائشة تتبع راية المغيث، وتمشي في ظله لا يرتد طرفها عنه لحظة.

سار الجيش يهزُّ جناحيه متصل الأجزاء متماسك البناء، كأنه وحش هائل الجثة من وحوش الأساطير، ومر بالجند يومان، حتى إذا كانوا على مقربة من نهر «شقندة» والشمس على وشك المغيب، لمحت عائشة فارسًا مدججًا بالسلاح من فرسان الإسبان، يخرج في تلصُّص وحذر من غيضة أرز، ويدنو نحو المغيث من الخلف، وسيفه في يده يلمع على صفحته لعاب المنيَّة، وما كاد يرفع به يده حتى انقضت عليه بسيفها انقضاض النسر الغاضب، فأطارت رأسه في الهواء كأنه كرة لاعب. وتلفت المغيث وأصحابه فإذا الإسباني الذي حاول الغدر به صريع مجندل، ورأوا الفتى الذي أنقذ حياته يمرُّ من خلفهم مرور البرق فيندس في الجيش، ويغيب في آذيِّه المضطرب، ولا يكاد يلمحه المغيث حتى يصيح: «أدركوا الفارس الملثم!»

ويسرع أتباعه يتعقبونه فلا يجدون له أثرًا، فيضرب المغيث كفًّا بكف، ويهمهم: «لقد كاد العلج يقتلني لولا هذا الفارس، فمن يكون يا ترى؟» فيجيبه مالك الجرهمي، وكان من أخص أصحابه: لقد حيرني هذا الفتى بفراره، ولو أن غيره فعل فعلته لتبجح بها، ولملأ الدنيا صياحًا بأنه أنقذ حياة القائد.

– هذا عجيب! لقد حاولت أن أرى وجهه وهو يطير بجواده فما استطعت؛ لأنه كان ملثمًا.

فضحك مالح وقال: لعله ملك من السماء.

– إن لم يكن ملكًا فلقد قتل شيطانًا، وإني لأتحرق شوقًا إلى لقائه لأجزيه أجر ما صنع لنا.

– سنراه بعد المعركة إن تركته شجاعته حيًّا.

بلغ الجيش نهر قرطبة فعبره، ورفع الجنود أبصارهم فرأوا أسوار المدينة شامخة متحدية، وقد أغلق أهلها أبوابها فلم يتركوا منفذًا لهاجم. ورأى المغيث أن ينتظر حتى يقبل الليل؛ ليباغت الحراس، وينقضَّ عليهم انقضاض الباشق، وكان البرد شديدًا قارسًا، وهطل مطر منهمر أخفى أصوات الجنود، ووقف المغيث بين جنده وهو يقول في صوت خافت: «ليس من وسيلة إلا أن يتسلق رجل منا السور، حتى إذا بلغ قمته تحين غفلة من الحراس فنزل إلى المدينة في خفةٍ وحذر، وفتح الباب للجيش.» فقال رجل كانت دقات قلبه أعلى من نبرات صوته: إن الحراس لا يتركون الأبواب في هذه الليلة، والذي ينزل إليهم إنما ينزل إلى قبره!

فقال المغيث في غضب: استرح يا أخا الهزيمة، فإني لم أدع الجبناء لهذا الأمر الجسيم، وإنما دعوت من يرون أن الموت في سبيل الله حياة باقية.

وهنا التفت بعض الجنود إلى بعض في ذهول اعترك فيه الجبن والإقدام، ولم تدم حيرتهم طويلًا حتى رأوا فارسًا ملثمًا يتسلق شجرة زيتون كانت إلى جانب السور، ثم يتعلق بأحد فروعها العالية، ويترك جسمه يترجح ذهابًا وجيئةً، وهو في كل مرة يزيد في اتساع قوس حركته، حتى إذا قرب من قمة السور قذف بنفسه إليها في خفة النمر وجرأته، وكان الجنود ينظرون إليه في دهشة وعجب، ورآه المغيث فصاح: «إنه الفارس الملثم! إنه البطل الذي يحمل روحه في يده؛ ليصون أرواح المسلمين.»

وكانت ساعة رهبة وصمت ويأس وأمل، واستمرَّ المطر هطَّالًا والبرد قاسيًا. ونظرت عائشة من أعلى السور إلى المدينة فإذا الحراس وقد أضناهم التعب والسهر وأضرَّ بهم البرد والمطر، قد اجتمعوا تحت سقيفة والتفُّوا بأغطيتهم، وأسلموا أجسامهم الهامدة إلى نوم مفزع مضطرب، فنزلت من السور في هدوء كأنها الحرباء، لا تسمع لها نأمة، ولا تحسُّ ركزًا، حتى إذا قربت من الأرض وَثَبَتْ في خفة واحتراس، واتجهت نحو الباب؛ فعالجت مزاليجه، وكانت من الحديد الضخم الثقيل. فعجزت أول الأمر، وخانتها قواها، وسعل أحد الحراس تحت غطائه، فاهتزت أعصابها وأدركها الخوف، وكادت تستسلم لليأس لولا أن استنجدت بما بقي من قواها، واستنفدت كل طاقتها، وأعادت الكرَّة فخضع لها الحديد، ورفعت المزاليج، وكانت تنوء بالعصبة أولي القوة، وما كادت تفتح الباب حتى اندفع إليه المجاهدون كأنهم السيل المنهمر، وهم يصيحون: «الله أكبر! الله أكبر!»

ففر جيش المدينة أمامهم، وألقى السلم خاضعًا مستكينًا، ونظرت عائشة فرأت رباحًا وفلورندا في طليعة الداخلين، فجذبتهما إليها بإشارة خفيفة، ثم امتطت جوادها وأمرتهما أن يركبا، واهتبلت فرصة اشتغال الجيش بالأسرى والغنائم، وخرجت بهما من باب المدينة؛ فصاحت فلورندا في دهش: إلى أين يا حبيبي.

– إلى الخيام التي ضربناها بعيدًا عن المدينة.

– ولم هذا، ألم تأت لفتح قرطبة؟!

– فتحتها …

فضحكت، وقالت: فتحتها، وتفرُّ من شرف فتحها؟

– فِرَّ من الشرف يتبعك الشرف!

– وحق المسيح إن أمرك لعجيب يا أسامة!

– لو عرفت ما أعرف ما تعجبت.

فهزت فلورندا رأسها في يأسٍ وقالت: افعل ما تشاء يا حبيبي، ولكن القائد لن يترك الفتى الذي فتح له المدينة يفرُّ من بين يديه دون أن يجزل له العطاء، أو يرفع منزلته بين القواد.

– دعي هذا الحديث يا فلورندا، فإن مما يهين الشجاعة أن تؤجر.

وبعد أن قضى المغيث بعض شؤون القيادة اتجه إلى مالك الجرهمي، وقال: أين الفتى الملثم الذي فتح الباب للجيش؟

– بعثت أطلبه في كل مكان فلم أجده.

– ابحث عنه ثانية.

– بحثت عنه ثانية وثالثة … وأغلب الظن أنه لحق بجيش طارق بطليطلة.

ومرت أيام رأت فيها فلورندا أن من الخير لها أن تخبر المغيث بمكان أسامة؛ لأنها أقنعت نفسها بأنه سيكون لها بعلًا، وهى تحب أن يكون زوجها رفيع المكانة ملحوظ المنزلة. ورأت أنها لو دلت المغيث على مخبئه لَأَعْلَى ذِكْرَه وجعله من كبار قواده، فتسللت من خيمتها ذات صباح وقصدت إلى قصر القائد، فلما مثلت أمامه قالت: «إني أعرف يا سيدي مكان الفارس الملثم.» فألقى المغيث قلمًا كان في يده وقال في دهشة وعجب: أين هو يا فتاة؟ أخبريني وأسرعي.

– ليركب معي سيدي القائد لأدله على مكانه.

وصاح المغيث بعبيده، فأعدوا جواده، وسار مع الفتاة حتى بلغ الخيمة، فهمست في أذنه: «إنه هنا في هذه الخيمة.» فأمرها أن تبتعد قليلًا ودخل في هدوء وسكون، ويا لدهشته، ويا لذهوله، حينما رأى فتاة رائعة الحسن فاتنة الطلعة، ولكنه ما كاد يحقق فيها النظر حتى صاح: عائشة؟!

فالتفتت عائشة وقد بهرتها المفاجأة وقالت: نعم عائشة يا مغيث.

– من جاء بك هنا؟

– جئت بنفسي.

– ولم جئت؟

– لأراك.

– وأين الفارس الملثم؟

فأسرعت تشير إلى ثياب أخيها في شمم مصطنع وتقول متحدية: هذا هو الفارس الملثم!

– كنت تتنكرين بهذه الثياب يا عائشة؟ أنت والله أشجع من حمل سيفًا أو صال برمح. أنت والله الشرف الخالد لنساء العرب جميعًا. أنت التي نزلت إلى الموت بقدميها؛ لتفتح بابًا كان فتحه للعرب فتحًا مبينًا.

ثم انكبَّ عليها عناقًا وتقبيلًا، ودخلت فلورندا وهما في نشوة الحب وغشية الغرام فصاحت في رعب: يا مريمُ العذراء أدركيني! ماذا أرى؟

فأفاق العاشقان، والتفت إليهما المغيث قائلًا: هذه خطيبتي يا فتاة.

فأسرعت تقول في غضب وخبال: لا إنه خطيبي أنا!

فقالت عائشة: لا تجزعي يا فلورندا فلست أول من خابت آماله في الغرام.

وجذب المغيث عائشة إليه ثانية، وهو يردد: سنتزوج الليلة. سنتزوج الليلة.

فلم تطق فلورندا صبرًا، وخرجت باكية تتعثَّر خطواتها بين الحسرة واليأس، وتضرب كفًّا بكفٍّ وهي تولول وتصيح: ضاعت بلادي! وضاع حبي!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤