المشترع
ويجب على من يكون من الجرأة ما يحاول معه وضع نظم لشعب أن يشعر بقدرته على تغيير الطبيعة البشرية، ومن ثم على تحويل كل فرد، هو في نفسه كلٌّ كامل منفرد، إلى جزء من كلٍّ أعظمَ منه، فينال مع هذا الكل حياته ووجوده من بعض الوجوه، وعلى تبديل كيان الإنسان تقوية له، وعلى إقامة كيان جزئي معنوي مقام كيان طبيعي مستقل منحتنا الطبيعة إياه جميعًا، والخلاصة أنه يجب أن ينزع من الإنسان قواه الخاصة؛ ليعطيه من القوى ما يكون غريبًا عنه، وما لا يستطيع أن يستعمله من غير مساعدة الآخرين، وكلما بادت هذه القوى الطبيعية وتلاشت عَظُمَتْ القوى المكتسبة ودامت، وأصبح النظام متينًا كاملًا، وذلك أن الموطن إذا لم يكن شيئًا، ولم يستطع شيئًا، من غير الآخرين، وكانت القوة المكتسبة من قبل الجميع مساوية لحاصل قوى جميع الأفراد الطبيعية أو أعلى منها، أمكن أن يقال: إن الاشتراع في أعلى نقطة من الكمال يمكنه أن يصل إليها.
والمشترع رجل عجيب في الدولة من كل ناحية، وهو إذا وجب أن يكون هكذا بعبقريته ليس أقل من ذلك بوظيفته التي ليست قضاءً ولا سيادة مطلقًا، وهذه الوظيفة التي تتألف الجمهورية منها لا تدخل ضمن نظامها مطلقًا، وإنما هي وظيفة فردية عالية لا اشتراك بينها وبين السلطان البشري مطلقًا؛ وذلك لأنه لا ينبغي لمن يسيطر على الناس أن يسيطر على القوانين، ولأنه لا ينبغي لمن يسيطر على القوانين أن يسيطر على الناس أيضًا، وإلا كانت قوانينُه خَدَمَةَ أهوائه فلم تؤدِّ، في الغالب، إلى غير دوام مظالمه، وما كان ليستطيع أن يتجنب، مطلقًا، إفساد غاياته الخاصة قُدْسية عملِه.
ومع ذلك فإن الحكام العشرة أنفسهم لم يَدَّعُوا، قط، حَقَّ وضعِ أي قانون استنادًا إلى سلطانهم فقط، وقد كانوا يقولون للشعب: «لا شيء مما نقترحه عليكم يمكن أن يتحول إلى قانون من غير موافقتكم. فيا أيُّها الرومان، كونوا بأنفسكم واضعي القوانين التي يجب أن تؤديَ إلى سعادتكم.»
إذن، لا يوجد، أو يجب ألا يكون، أي حق اشتراعي لمن يدون القوانين، ولا يستطيع الشعب، ولو أراد، أن يُجِرِّدَ نفسَه من هذا الحق الذي لا يُنْقَلُ؛ وذلك لأنه لا يوجد، وَفْقَ الميثاق الأساسي، غير الإرادة العامة ما يلزم الأفراد، ولا يمكن أن يوجد ضمانٌ تكون به الإرادة الخاصة ملائمة للإرادة العامة إلا بعد إخضاعها لأصوات الشعب الحرة. أجل، كنت قد قلت هذا، ولكن ليس من غير المفيد تكراره.
وهكذا يوجد في عمل الاشتراع، معًا، أمران يلوح أنهما متناقضان، وهما: مشروعٌ فوق الطاقة البشرية، وسلطةٌ لتنفيذه ليست شيئًا.
وتوجد مشكلة تستحق الانتباه؛ وهي أن الحكماء، إذا ما أرادوا أن يخاطبوا بلسانهم فريق العوام بدلًا من لسان هؤلاء، لم يستطيعوا أن يُسْمَعوا على ما يحتمل، والواقع أنه يوجد ألفُ نوعٍ من الأفكار يتعذر ترجمتُها إلى لغة الشعب، وكذلك المقاصد البالغة العموم، البعيدة الغور تكون خارجة عن إدراكه، وبما أن كلَّ فردٍ لا يستحسن خُطة للحكومة غير التي تلائم مصلحته الخاصة فإنه يجد من العسير عليه أن يُحَقِّقَ الفوائدَ التي يرجو نَزْعَها من الزهد الدائم الذي تفرضه القوانين الصالحة، ويجب، لكي يستطيع الشعب الناشئ أن يتذوق مبادئ السياسة الصحيحة، ويتبع القواعد الأساسية لداعي الدولة؛ أن يصبح المعلول علة، وأن تكون الروح الاجتماعية، التي يجب أن تصدر عن هذا النظام، على رأس هذا النظام، وأن يكون الناس قَبْلَ القوانين ما يجب أن يكونوه بهذه القوانين، وهكذا، إذ كان لا ينبغي للمشترع أن يستعمل القوة، ولا الدليل، فإن من الضروري أن يلجأ إلى سلطان من صنف آخر قادر على الجذب بلا عنف وعلى الإقناع بلا قطع.
وهذا ما حمل آباء الأمم، في جميع الأزمنة، على استشفاع السماء وتمجيد الآلهة بحكمتهم الخاصة، وذلك لكي تطيع الشعوب الخاضعة لقوانين الدولة خضوعها لقوانين الطبيعة، والمقرة بذات القوة في تكوين الإنسان وتكوين المدينة، بحرية وتحمل نِيرَ السعادة العامة بِدَعَةٍ.
ولا ينبغي لنا أن نستنتج مع واربرتن، مما تقدم، وجودَ غرضٍ مشترك للسياسة والدين بيننا، غير أن أحد هذين الأمرين كان يصلح أداة للآخر في الأدوار الأولى للأمم.