الفصل التاسع

طرق الاشتراع المختلفة

إذا بحث عن الشيء الذي يقوم عليه أعظم خير للجميع، والذي يجب أن يكون غايةَ كلِّ طريق اشتراعي، وُجِدَ أنه يرد إلى أمرين أصليين: الحرية والمساواة؛ الحرية لأن كل تبعية خاصة تعني القوة التي أُخذت من هيئة الدولة بمقدارها، والمساواة لأن الحرية لا يمكن أن تكون من غيرها.

وكنت قد عَرَّفتُ الحريةَ المدنية، وأما المساواة فلا ينبغي أن يُعرفَ بهذه الكلمة كونُ درجات السلطة والغنى واحدة لدى الجميع على الإطلاق، وإنما السلطة في كونها دون كل طغيان، وفي كونها لا تمارس إلا من حيث المرتبة والقوانين، وإنما الغنى في عدم وجود مواطن يكون من اليسر ما يشتري معه آخر، وفي عدم وجود أحد يكون من الفقر ما يضطر معه إلى بيع١ نفسه، وهذا يفترض، من ناحية الكبراء، اعتدال الأموال والاعتبار، وهذا يفترض، من ناحية الصُّغَراء، اعتدال الشح والشهوة.

وقد قيل: إن هذه المساواة وهمٌ نظري لا يمكن أن يكون عمليًّا، ولكن سوء الاستعمال إذا كان أمرًا لا مفر منه أفلا يجب تنظيمه على الأقل؟ فبما أن قوة الأحوال تميل، بالضبط، إلى القضاء على المساواة دائمًا فإنه يجب على قوة الاشتراع أن تميل إلى صيانتها دائمًا.

بيد أن هذه الأغراض العامة لكل نظام صالح يجب أن تعدَّلَ في كل بلد على حسب الوضع المحلي وطبع السكان. ويجب، بناءً على هذه العوامل، أن يعطى كل بلد طريقة نظام خاصة تكون أصلح ما يكون، لا في حد ذاتها على ما يحتمل، بل من حيث الدولة التي عين لها؛ ومن ذلك أن الأرض إذا كانت نَكِدَةً جدباء أو كان البلد زاخرًا بالسكان وجب على الشعب أن يتحول إلى الصناعة والحِرَف فيبادل بين ما ينتجه وما يعوزه من البياعات … ومن ذلك أن الشعب إذا كان يشغل سهولًا غنية ومنحدرات خصيبة أو أرضًا صالحة، فيعوزه الأهلون، وجب عليه أن يوجه جميع همه إلى الزراعة التي تزيد السكان، وأن يقصيَ الحِرَفَ التي لا تؤدي إلى غير نقص السكان بحشدها في أماكن قليلة ما تشتمل عليه من الأهلين …٢ ومن ذلك أن الشعب إذا كان يسكن شواطئَ واسعةً ملائمة فدعوه يملأ البحر سفينًا ويزاول التجارة والملاحة، فهنالك يقضي حياة زاهرة قصيرة، ومن ذلك أن البحر إذا كان لا يبلل من سواحل الشعب غير صخور وعرة فدعوه يبقى متوحشًا آكلًا للأسماك، فهنالك يعيش أهدأ بالًا، وأحسن حالًا على ما يحتمل، وأكثر سعادة لا ريب … والخلاصة أنك إذا عدوت المبادئ المشتركة بين الجميع وجدت كل شعب يشتمل في نفسه على سبب ناظم لتلك المبادئ نظمًا خاصًّا به، على سبب جاعل اشتراعه خاصًّا به، وهكذا كان الدينُ غرض العبريين الرئيس في الزمن القديم وغرض العرب الرئيس في الزمن الحديث، وهكذا كانت الآداب غرض الأَثَنيين، والتجارة غرض قرطاجة وصور، والملاحة غرض رودس، والحرب غرض إسبارطة، والفضيلة غرض رومة، وقد بين مؤلف «روح الشرائع» في طائفة من الأمثلة دهاء المشترع في توجيه النظام نحو كل واحد من هذه الأغراض.

والذي يجعل نظام الدولة متينًا باقيًا حقًّا هو الإمعان في مراعاة الملاءمات بما تلتقي به العلاقات الطبيعية والقوانين في نقاط واحدة وما تضمن به هذه القوانين وتصاحب وتقوِّم تلك العلاقات، ولكن المشترع إذا ما أخطأ غرضه فاتخذ مبدأً غير الذي ينشأ عن طبيعة الأمور، كأن يهدف أحدهما إلى العبودية والآخر إلى الحرية، وكأن يهدف أحدهما إلى الثروات والآخر إلى السكان، وكأن يهدف أحدهما إلى السلم والآخر إلى الفتوح ضعفت القوانين رويدًا رويدًا، وفسد النظام، وما انفكت الدولة تضطرب حتى تنهار أو تغيَّر فتسترد الطبيعةُ التي لا تُقهر سلطانَها.

١  إذا أردتم أن تمنحوا الدولة ثباتًا فقربوا بين الطرفين الأقصيين ما استطعتم، ولا تحتملوا وجود أناس أغنياء وفقراء؛ فهذان الحالان اللذان لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر بحكم الطبيعة هما، كذلك، شؤم على الخير العام، فمن أحدهما يظهر أعوان الطغيان، ومن الآخر يظهر الطغاة، وبينهما تقع معاملة الحرية العامة؛ فأحدهما يشتري، والآخر يبيع.
٢  قال مسيو دارجنسون: «لا ينشر بعض فروع التجارة الخارجية غير فائدة زائفة في سبيل المملكة على العموم. أجل، يمكنها أن تغني بعض الأفراد، وبعض المدن أيضًا، بيد أن الأمة في مجموعها لا تكسب من ذلك شيئًا، ولا يتحسن حال الشعب.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤