الفصل الثالث عشر

نواب أو ممثلون

عندما تنقطع الخدمة العامة عن كونها عمل المواطنين الرئيس، ويُفَضِّل هؤلاء قيام ما لهم مقام أشخاصهم، تكون الدولة قريبة من سقوطها، فإذا ما وجب السير إلى الحرب أدوا إلى الكتائب وظلوا في منازلهم، وهم بما هم عليه من كسل وما لديهم من مال يكونون في نهاية الأمر ذوي جنود لاستعباد الوطن وذوي ممثلين لبيعه.

وهذه هي رَجَّةُ التجارة والمهن، وهذه هي منفعة الربح ذات الشره، وهذه هي نعومة وهوى الملاذِّ التي تحول الخدم العامة إلى مال، وإذا ما تنزل الإنسان عن قسم من فائدته فلكي يزيدها على هونه، وإذا ما أعطيتَ مالًا لم تلبث أن تكون ذا قيود، فكلمة «المالية» هي كلمة العبودية، وتجهلها الحاضرة، ويعمل المواطنون في الدولة الحرة حقًّا بذرعانهم، لا بالمال مطلقًا، ويبعدون من الدفع ليُعْفَوْا من واجباتهم، ويَدفعون إنجازًا بأنفسهم، وأجدني بعيدًا جدًّا من الأفكار السائرة، وأعتقد أن السُّخْراتِ أقلُّ مباينة للحرية من الجبايات.

وكلما كان نظام الدولة صالحًا فُضِّلت الأعمال العامة على الأعمال الخاصة في نفوس المواطنين، حتى إن الأعمال الخاصة تكون قليلةً جدًّا؛ وذلك لأن حاصل السعادة العامة يقدم حصة أعظم من حصة كل فرد فلا يكون له ما يطلبه في الخدم الخاصة غير القليل، وكل واحد في الحاضرة الحسنة القيادة يطير إلى المجالس، ولا أحد في الحكومة السيئة يود أن يتقدم خطوة إليها؛ وذلك لأنه لا يكترث أحد لما يحدث فيها، ولأنه يُرى أن الإرادة العامة لا تسيطر عليها، ولأن الأمور المنزلية تستغرق كل شيء فيها، وتؤدي القوانين الصالحة إلى وضع ما هو أصلح منها وتؤدي القوانين الصالحة إلى ما هو أسوأ منها، وحالما يوجد من يقول عن أمور الدولة: ما يُهِمُّني؟ جاز عَدُّ الدولة هالكة.

وأدى فتور حب الوطن ونشاط المصلحة الخاصة واتساع الدول والفتوحُ وسوء استعمال الحكومة إلى تخيل سبيل نواب الشعب أو ممثليه في مجالس الأمة، وهذا ما جرئ على تسميته في بعض البلدان بالطبقة الثالثة، وهكذا وُضِعَتْ مصلحة الطبقتين (الإكليروس والأشراف) الخاصة في المرتبة الأولى والثانية ولم توضع المصلحة العامة في غير المكان الثالث.

ولا يمكن السيادة أن تمثل لذات السبب الذي لا يمكن أن تباع معه، وتقوم السيادة، جوهرًا، على الإرادة العامة، والإرادة مما لا يُمَثَّل مطلقًا، والإرادة إما أن تكون عين الشيء أو غيره، ولا وسط، وليس نواب الشعب ممثليه إذن، ولا يمكن أن يكونوا ممثليه، وهم ليسوا غير وكلائه، وهم لا يستطيعون تقرير شيء نهائيًّا، وكل قانون لا يوافق الشعب عليه شخصيًّا باطل، وهو ليس قانونًا مطلقًا، ويرى الشعب الإنكليزي أنه حر، وهو واهم كثيرًا، وهو ليس كذلك إلا في أثناء انتخاب أعضاء البرلمان، فإذا ما انتُخِبُوا عاد عبدًا ولم يك شيئًا، وما يقوم به من استعمال أُوَيْقات الحرية يدل على أنه يستحق ضياعها.

وفكرة الممثلين عصرية، وهي تأتينا من الحكومة الإقطاعية، من هذه الحكومة الباغية الباطلة التي انحط النوع البشري فيها، والتي شِينَ اسم الإنسان بها، ولم يكن لشعب ممثلون قط في الجمهوريات القديمة، ولا في المَلَكيات أيضًا، ولم تُعْرَف هذه الكلمة، ومن الغريب أن كان محامو الشعب في رومة بالغي الحرمة، وأنه لم يخطر حتى على البال إمكانُ اغتصابهم وظائف الشعب، وأنهم لم يحاولوا قط في وسطٍ جم غفير أن يتقدموا من تلقاء أنفسهم إلى استفتاء عام، ومع ذلك فليُقَدَّر الارتباك الذي كان يؤدي إليه الجمهور أحيانًا بما حدث في زمن الغراكين حين كان قسم من المواطنين يلقي صوته من فوق السقوف.

وحينما كان الحق والحرية كل شيء لم تكن المساوئ شيئًا، وكان كل شيء يعطى قيمته الحقيقية لدى هذا الشعب الحكيم، وكان يدع حملة الفئوس يصنعون ما لم يجرؤ محاموه أن يصنعوه، وكان لا يخشى رغبة حملة فئوسه في تمثيله.

ومع ذلك يكفي، لإيضاح الوجه الذي كان محامو الشعب يمثلونه به في بعض الأحيان، أن يُتَصَوَّرَ كيف أن الحكومة تُمَثِّل السيد، فبما أن القانون لم يكن غير إعلان للإرادة العامة، فإن من الواضح في السلطة الاشتراعية تَعَذُّرَ تمثيل الشعب، غير أن من الممكن ومن الواجب، أن يمثل في السلطة التنفيذية التي ليست غير قوة تطبيقية للقانون، وهذا يدل على أن الأمور إذا ما دقق فيها وجدت أمم قليلة ذات قوانين، ومهما يكن من أمر فإن من المؤكد كون محامي الشعب لم يستطيعوا تمثيل الشعب الروماني بمقتضى وظائفهم لما لم يكن لهم نصيب في السلطة التنفيذية، وإنما اتفق لهم بما اغتصبوه من السنات فقط.

وما كان على الشعب أن يصنعه لدى الأغارقة كان يصنعه بنفسه فيجتمع في الميدان بلا انقطاع، وكان يقيم بإقليم معتدل، ولم يكن طَمَّاعًا قَطُّ، وكان العبيد يقومون بأعماله، وكانت حريتُه همَّه الأكبر، وكيف يحافظ على ذات الحقوق وقد عادت لا تكون له ذات المنافع؟ تزيد أقاليمكم الأقسى في احتياجاتكم،١ ويكون ميدانكم العام غير صالح للإقامة مدة ستة أشهر من السنة، ولا تستطيع ألسنتكم البكم أن تُسْمع نفسها في العراء، وتبالون بكسبكم أكثر مما بحريتكم، وتخشون العبودية أقل مما تخشون البؤس.

ماذا؟ ألا تستقيم الحرية بغير عون العبودية؟ ربما كان ذلك، فالأقصيان يلتقيان، ولكل ما ليس في الطبيعة محاذيره، والمجتمع المدني أكثر من الجميع، ويوجد من الأحوال السيئة ما لا يمكن أن تحفظ معه الحرية إلا على حساب حرية الآخرين، وما لا يمكن المواطن معه أن يكون تامَّ الحريةِ إلا بكون العبد عبدًا إلى الغاية، وكانت هذه حال إسبارطة، وأما أنتِ، أيتها الشعوب الحديثة، فليس عندك عبيد، وإنما أنت من العبيد لتأديتك حريتهم من حريتك، ومن العبث مفاخرتك بهذا الاختيار، ففي هذا أجد نذالةً أكثر مما أجد إنسانية.

ولا أقصد بجميع هذا ضرورة اقتناء عبيد، ولا كونَ حق الرق شرعيًّا، وإنما ذكرت أسباب كون الشعوب الحديثة التي تعتقد أنها حرة ذات ممثلين، وكون الشعوب القديمة غير ذات ممثلين، ومهما يكن من أمر فإن الشعب إذا ما جعل لنفسه ممثلين عاد لا يكون حرًّا، وعاد لا يكون موجودًا.

وإني، بعد بحث في جميع الأمور، لا أرى، فيما بعد، كونه يمكن السيد أن يحافظ بيننا على ممارسة حقوقه إذا لم تكن الحاضرة صغيرة جدًّا، ولكن ألا تُقْهَر إذا كانت صغيرة جدًّا؟ كلا، وسأثبت، فيما بعد،٢ كيف يمكن جمع قوة الشعب الكبير الخارجية مع الضابطة السهلة وحسن نظام الدولة الصغيرة.
١  انتحال ترف الشرقيين ونعيمهم في البلاد الباردة يعني رغبة في اتخاذ قيودهم، يعني خضوعًا لها أشد من خضوعهم بحكم الضرورة.
٢  هذا ما قصدت صنعه في سياق هذا الكتاب، فأنتهي إلى موضوع المتحدات عند معالجة الصلات الخارجية، والموضوع تام الجدة، ولا تزال مبادئه قيد الوضع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤