الفصل الرابع

مجالس الشعب الرومانية

ليس لدينا آثار وثيقة عن أزمنة رومة الأولى، حتى إن الظاهر يدل دلالة كبيرة على أن معظم الأمور التي تُرْوَى عن ذلك هي من الأقاصيص،١ وإذا ما نظر إلى الأمر على العموم وجد أن أكثر أقسام حوليات الشعوب إمتاعًا، وهو تاريخ تأسيسها، هو أكثر ما نفتقر إليه، وتُعَلِّمُنا التجربة كل يوم أي الأسباب تنشأ عنها ثورات الإمبراطوريات، ولكن بما أنه عاد لا يؤلَّف شعوب فإنه ليس لدينا غير فرضيات غالبًا لإيضاح كيفية قيامها.

وتدل العادات، التي نجدها قائمة، على الأقل، على وجود أصل لهذه العادات، وما يرجع إلى هذه الأصول من روايات، وما يدعمه منها أعظم الثقات وما يؤيده أقوى الأدلة، يجب أن يُعَدَّ صحيحًا كثيرًا، وهذه هي القواعد التي حاولتُ اتباعها ببحثي عن كيفية ممارسة أكثر شعوب الأرض حرية وقوةً سلطتَه العليا.

وتقوم رومة، فتقسَّم الجمهورية الناشئة، أيْ جيش مؤسسها المؤلَّف من ألبين وسابين وأجانبَ، إلى ثلاث طبقات حملت اسم قبائل بهذا التقسيم، ثم قسمت كل واحدة من هذه القبائل إلى عَشْرِ عشائرَ، وقسمت كل واحدة من هذه العشائر إلى فصائل يكون فوقها رؤساء.

وإذا عدوت هذا وجدت أنه استُخلص من كل قبيلة كوكبة مؤلفة من مائة فارس أو خَيَّال ومسماة مئوية يرى بها أن هذه الأقسام غير الضرورية كثيرًا في مدينة لم تكن غير عسكرية في البداءة، ولكنه يظهر أن غريزةَ عَظَمَةٍ كانت تحمل مدينة رومة الصغيرة على اتخاذها مقدَّمًا ضابطة مناسبة لعاصمة العالم.

ولَسُرْعانَ ما نشأ عن هذا التقسيم الأول محذور، وذلك أن قبيلتي الألبين٢ والسابين٣ إذ بقيتا على ذات الحال دائمًا، على حين كانت قبيلة الغرباء٤ تزيد بلا انقطاع بتزاحم الغرباء الدائم على رومة، لم تلبث هذه القبيلة الأخيرة أن فاقت الأُخريين قوةً، وقد قام الدواء الذي وجده سِرْفيوس لهذا المحذور الخَطِر على تغيير التقسيم، وقد قام الدواء الذي وجده لمحذور العروق التي ألغاها على إقامة عرق آخر من أحياء هذا المصر التي يشغلها كل قبيلة، وهو قد أحدث أربع قبائل بدلًا من ثلاث فجعل كل واحدة منها تشغل أحد تلال رومة وتحمل اسمه، وهكذا يكون بمعالجته التفاوت الحاضر قد تلافاه من أجل المستقبل أيضًا، وهو، لكيلا يكون هذا التقسيم عن الأحياء وحدها، بل عن الناس أيضًا، قد حظر على أهل أحد الأحياء أن ينتقلوا إلى حي آخر، وهذا ما حال دون اختلاط العروق.

وقد ضاعف مئوياتِ الفرسانِ الثلاثَ القديمةَ وأضاف إليها اثنتي عشرة أخرى، ولكن بأسماء قديمة دائمًا، أي اتخذ هذه الوسيلة البسيطة الصائبة فَوُفِّقَ لتمييز ما بين كوكبة الفرسان والشعب من غير أن يؤديَ إلى تذمر هذا الأخير.

وإلى هذه القبائل الأربع المدنية أضاف سرفيوس خمس عشرة أخرى سُميت قبائلَ ريفيةً؛ وذلك لأنها أُلِّفت من سكان الريف الموزعين بين خمسَ عشرةَ مقاطعة، وقد أُحْدِثَ خمس عشرة أخرى فيما بعد، فوُجد الشعب الروماني مُقَسَّمًا بين خمس وثلاثين قبيلة في نهاية الأمر، أي إلى هذا العدد الذي ظلت باقية عليه حتى نهاية الجمهورية.

ونشأ عن هذا التفريق بين قبائل المدن وقبائل الريف أمرٌ يستحقُّ أن يلاحَظ؛ وذلك لعدم وجود ما يماثله في مكان آخر مطلقًا، ولأن رومة مدينة له بحفظ أخلاقها وتوسع إمبراطوريتها، وقد يُظَنُّ أن القبائل المدنية لم تلبث أن انتحلت السلطان والشرف ولم تُعَتِّمْ أن استذلَّت القبائل الريفية، والعكس هو ما وقع تمامًا، ومما يُعْرَف ذوق الرومان الأولين حول الحياة الريفية، وقد أتاهم هذا الذوق من المؤسِّس الحكيم الذي جعل الحرية تسير بجانب الأعمال الريفية والعسكرية، والذي أبعد الفنون والحِرَف والدسيسة والثراء والعبودية إلى المدينة.

وهكذا بما أن جميع أبناء رومة الممتازين كانوا يعيشون في الحقول ويزرعون الأرضين فإن النفس وُطِّنَتْ على عدم البحث هنالك عن غير دعائم الجمهورية، وبما أن هذه الحال هي حال أحسن الأشارف فإنها أُكرمت مِن قِبل جميع العالم، ففضلت حياة القرويين البسيطة الشاقة على حياة برجوازية رومة المتوانية البطالة، ولم يكن غير صعلوك تعس في المدينة ذلك الذي صار مواطنًا محترمًا بالزراعة في الحقول، ومن قَوْل فارُّون: إنه ليس من غير سبب إقامة أجدادنا السُّراةِ في القرية مَنبتَ أولئك الرجال الضُّلْع الشجعان الذين كانوا يدافعون عنهم أيام الحرب ويطعمونهم أيام السلم. ويقول بليني مؤكدًا: إن قبائل الحقول كانت تكرَم بسبب الرجال الذين تؤلف منهم، وذلك بدلًا من أن يُنقل إلى قبائل المدينة عن عارٍ جميعُ الأنذال الذين يراد إذلالهم، ولما جاء السابيني أبيوس كلوديوس ليقيم برومة غُمِرَ فيها بضروب الإكرام وسُجِّلَ في قبيلة ريفية اتخذت اسم عائلته فيما بعد، وأخيرًا كان جميع العتقاء يدخلون في القبائل المدنية، لا في القبائل الريفية مطلقًا، ولا يوجد في جميع العهد الجمهوري مثال واحد لواحد من هؤلاء العتقاء بلغ أي منصب قضائي وإن أصبح مواطنًا.

وكانت هذه القاعدة رائعة، غير أنه بُلِغَ من استبعادها ما نشأ عنه تغيير وسوء استعمال في النظام السياسي لا ريب.

والرقباء بعد أن انتحلوا، أولًا، ولطويل زمن، حق نقل المواطنين من قبيلة إلى أخرى نقلًا مراديًّا أباحوا لمعظم الأشخاص أن يسجلوا أنفسهم في القبيلة التي تروقهم، ولم تكن هذه الإباحة صالحة لا ريب، وكانت تنزع نابضًا من أعظم نوابض الرقابة، ثم بما أن جميع الكبراء والأقوياء كانوا يسجلون أنفسهم في قبائل الريف، وبما أن العتقاء الذين صاروا مواطنين ظلوا مع الرعاع ضمن قبائل المدينة، عاد لا يكون للقبائل للقبائل على العموم معنى المكان ولا الأرض، غير أنها كانت من شدة الاختلاط ما عاد لا يمكن معه تمييز أعضاء كل واحدة منها بغير السجلات، فانتقل بذلك مدلول كلمة «القبيلة» من حقيقي إلى شخصي، أو أصبح وهميًّا تقريبًا.

وقد حدث أيضًا ظهور قبائل المدينة، وهي ما يمكن التقرب إليه، أكثر القبائل قوة في مجالس الشعب غالبًا، وبيعُها الدولة ممن يتفضلون باشتراء أصوات الأوباش الذين تتألف منهم.

وبما أن المؤسس جعل عَشْرَ عشائر في كل قبيلة فإن جميع الشعب الروماني، المحاط بأسوار المدينة حينئذ، كان مؤلفًا من ثلاثين عشيرة، فكان لكل واحد منها معابدها وآلهتها وموظفوها وكهنتها وأعيادها المسماة كُنْبِيتالْيَة والمشابهة للبغانالْيَة التي اتفقت للقبائل الريفية فيما بعد.

ولما قام سرفيوس بتقسيمه الجديد، ولم يمكن تقسيم الثلاثين عشيرة بين قبائله الأربع على التساوي، لم يُرِدْ مسها قط، فأصبحت العشائر المستقلة عن القبائل تقسيمًا آخر لسكان رومة، بيد أنه لم يكن موضع بحث عن العشائر قط في القبائل الريفية ولا في الشعب الذي كانت تتألف منه، وذلك بما أن القبائل صارت نظامًا مدنيًّا صرفًا، وبما أنه أُدخل نظام جديد لجمع الكتائب وُجِدت فرقُ رومولوس العسكرية أمرًا لا طائل فيه، وهكذا كان يوجد كثير ممن ليسوا أعضاء عشيرة وإن سُجل كل مواطن في قبيلة.

وكذلك قام سرفيوس بتقسيم ثالث لا صلة بينه وبين التقسيمين السابقين مطلقًا، فأصبح بنتائجه أهم من الجميع؛ فقد وَزع جميع الشعب الروماني بين ست طبقات لم يفرِّق فيها بالمكان ولا بالإنسان، بل بالمال، فملئت الطبقات الأولى بالأغنياء وملئت الطبقات الأخيرة بالفقراء وملئت الطبقات المتوسطة بمن يتمتعون بثروة معتدلة، وقد قُسِّمَتْ هذه الطبقات الست إلى ١٩٣ هيئة أخرى مسماة مئويات، وقد بلغت هذه الهيئات من التوزيع ما احتوت الطبقة الأولى وحدها معه أكثر من نصفها وما اشتملت الأخيرة معه على واحدة منها فقط، وهكذا كان أقل الطبقات عددًا في الرجال أكثرها مئويات، وهكذا لم تعد الطبقة الأخيرة بأكملها غير شعبة مع احتوائها وحدها أكثر من نصف سكان رومة.

وأُريدَ أن يكون الشعبُ أقلَّ نفوذًا إلى نتائج هذا الشكل الأخير، فحاول سرفيوس منحه مَسْحة عسكرية فأدخل إلى الطبقة الثانية مئويتين من السلاحيِّين، وأدخل إلى الطبقة الرابعة مئويتين من صانعي آلات الحرب، وإذا عدوت الطبقة الأخيرة وجدته في كل طبقة قد ماز الشباب من الشيب، أي ماز من هم ملزَمون بحمل السلاح ممن تعفيهم القوانين منه بسبب السن، وكان هذا التمييز هو الذي يقتضي في الغالب تكرارًا للإحصاء أو التعداد أكثر مما كان يقتضيه تمييز الثراء، وأخيرًا أراد انعقاد المجلس في ميدان مارس، وأن يأتيه جميع من هم في سن الخدمة مع أسلحتهم.

والسبب في عدم اتباعه في الطبقة الأخيرة ذلك التفريق بين الشبان والشيب هو أن الرعاع المؤلفة منهم كانوا لا يُمنحون شرف حمل السلاح في سبيل الوطن، فكان لا بد للرجل من دار نَيْلًا لحق الدفاع عنه، ولم يوجد، على ما يُحتمل، من زمر الصعاليك هذه التي لا يحصيها عد، والتي تزدهي بها جيوش الملوك في الوقت الحاضر، واحدة كانت لا تُطْرَد مع الازدراء من فوج روماني حين كان الجنود حماة الحرية.

وفي الطبقة الأخيرة أيضًا مِيزَ على الخصوص بين الصعاليك ومن كانوا يُدْعَوْنَ capite censi، فالأولون، الذين لم يدفعوا تمامًا، كانوا يمنحون الدولة مواطنين على الأقل، حتى إنهم كانوا يمنحون أحيانًا جنودًا عند الحاجة الملحة، وأما الذين كانوا يدفعون فلا يمكن تعدادهم بغير رءوسهم فقد كانوا يُعَدُّون شيئًا غير مذكور، وكان ماريوس أول من تفضل بقبولهم في الجندية.

وإني، من غير أن أقرر هنا: هل كان هذا التعداد الثالث حسنًا أو سيئًا في ذاته، أعتقد أنه يمكنني أن أؤكد أنه لا يوجد غير أخلاق الرومان الأولين البسيطة وخلوهم من الغرض وميلهم إلى الزراعة وازدرائهم للتجارة ورغبتهم في الكسب ما يستطيع أن يجعله أمرًا يسيرًا، وأين هو الشعب الحديث الذي يستطيع ما عنده من الجشع الجامح والروح الجزوع والمكيدة والانتقالات الدائمة وتحولات الثروة المستمرة أن يدع مثل هذا النظام يدوم عشرين عامًا من غير قلب جميع الدولة رأسًا على عقب؟ حتى إنه يجب أن يلاحظ أن الأخلاق والرقابة إذ كانتا أقوى من هذا النظام فإنهما أصلحتا معايبه في رومة وجعلتا الغني يرى نفسه مُبْعَدًا في طبقة الفقراء عند إفراطه في عرض غناه.

ويمكن من جميع ما تقدم أن يدرك بسهولة ما السبب في أنه لم يذكر من الطبقات غير خمس تقريبًا مع أنه كان يوجد ست طبقات بالحقيقة، فبما أن الطبقة السادسة لم تقدم جنودًا إلى الجيش، ولم تصوِّت في ميدان مارس،٥ ولم تكن ذاتَ عملٍ في الجمهورية غالبًا، فإن من النادر أن كانت شيئًا مذكورًا.

وتلك هي تقسيمات الشعب الروماني المختلفة، ولننظر الآن إلى الأثر الذي أسفرت عنه في المجالس، وكانت هذه المجالس التي تدعى إلى الاجتماع شرعيًّا تسمى كوميسات، وكانت تجتمع عادة في ساحة رومة أو ميدان مارس، وكانت تماز بكوميسات عن عشائر وكوميسات عن مئويات وكوميسات عن قبائل، وذلك على حسب الشكل الذي كانت تجمع به من هذه الأشكال الثلاثة، وإن الكوميسات عن عشائرَ كانت من وضع رومولوس، وإن الكوميسات عن مئويات من وضع سرفيوس، وإن الكوميسات عن قبائل من وضع محامي الشعب، وما كان لقانون أن ينال تأييدًا، وما كان لحاكم أن ينتخب، إلا في الكوميسات، وبما أنه لا يوجد مواطن غير مسجل في عشيرة أو مئوية أو قبيلة فإنك لم تجد مواطنًا محرومًا حقَّ التصويت، فكان الشعب الروماني سيدًا حقًّا وفعلًا لا ريب.

وكان لا بد من ثلاثة شروط لاجتماع الكوميسات شرعيًّا، ولنيل ما يُقَرَّرُ فيها قوة القانون، فالشرط الأول هو أن يكون الشخص أو الحاكم الذي يدعوها صاحبًا للسلطة الضرورية في هذا السبيل، والشرط الثاني هو أن يقع اجتماع المجلس في يوم يسمح به القانون، والشرط الثالث هو أن تكون الهواتف ملائمة.

ولا يحتاج سبب النظام الأول إلى إيضاح، والنظام الثاني من شأن الضابطة، وهكذا كان لا يباح اجتماع الكوميسات يومَ عيدٍ أو يوم سوق، أي في يوم يأتي فيه أهل الأرياف إلى رومة لقضاء أمورهم فلا يكون لديهم من الوقت ما يقضون معه يومهم في الميدان العام، وبالنظام الثالث كان السنات يكبح جماح شعب مختال شموس فيلَطِّف حُمَيَّا محامي الشعب المشاغبين، غير أن هؤلاء المحامين كانوا يجدون غيرَ وسيلةٍ للخلاص من هذا العائق.

ولم تكن القوانين وانتخاب الرؤساء كل ما هو خاضع لحكم الكوميسات، فبما أن الشعب الروماني اغتصب أهم وظائف الحكومة فإن من الممكن أن يقال: إن مصير أوربة نُظِّمَ بمجالسه، وكان تنوع الموضوع هذا يفسح في المجال لمختلف الأشكال التي تتخذها هذه المجالس وفق المواد التي كان يجب أن تَقْضِيَ فيها.

وكان يكفي أن يقابَل بين مختلف الأشكال هذه ليحكم فيها، وكان رومولوس، بإقامته العشائر، يهدف إلى ردع السنات بالشعب وردع الشعب بالسنات مهيمنًا عليهما بالتساوي، فمنح الشعب بهذا الشكل، إذن، كل ما للعدد من سلطان ليوازن ما ترك للأشارف من سلطان القوة والغنى، غير أنه ترك، وفق روح الملكية مع ذلك، للأشارف منافعَ كثيرةً بنفوذ تابعيهم في أكثرية الأصوات، فكان نظام السادة والتابعين العجيب هذا من روائع السياسة والإنسانية، وما كان ليمكن بدونه بقاء طبقة الأشارف المخالفة لروح الجمهورية كثيرًا، وكان لرومة وحدها شرف منح العالم هذا المثال الجميل الذي لم ينشأ عنه سوءُ استعمالٍ قط، والذي لم يُتَّبَعْ قط مع ذلك.

وبما أن شكل العشائر ذلك بقي في عهد الملوك حتى زمن سرفيوس، وبما أن عهد آخر تارْكِنِيٍّ لم يُعَدَّ شرعيًّا قط، فإن هذا ماز القوانين الملكية، على العموم، باسم شرائع الحاشية الملكية.

وبما أن العشائر في العهد الجمهوري كانت مقصورة على العشائر المدنية الأربع دائمًا، وبما أنها عادت لا تشتمل على غير رَعاع رومة، فإنها كانت لا تلائم السنات الذي كان على رأس الأشارف، ولا محامي الشعب الذين، وإن كانوا من العوام، كانوا على رأس المواطنين الموسِرين، ولذلك زال نفوذ العشائر، وقد بلغت من الهوان ما صار حملة فئوسهم الثلاثون يصنعون معه ما كان على المجالس عن عشائر أن تصنعه.

وكان التقسيم عن مئويات من ملاءمة الأرستقراطية ما يُبْصَرُ معه في البداءة كيف أن السنات يفوز دائمًا في الكوميسات التي كانت تحمل هذا الاسم والتي كان ينتخب بها القناصل والرقباء وغيرهم من الحكام ذوي الكراسي العاجية، والواقع أن الطبقة الأولى إذ كانت تشتمل على ثمان وتسعين مئوية من المئويات اﻟ ١٩٣ التي كانت تتألف منها طبقات جميع الشعب الروماني الست، وأن الأصوات إذ كانت لا تحصى إلا عن مئويات، فإن تلك الطبقة الأولى وحدها هي التي كانت تفوز على جميع الأخرى بعدد الأصوات، وحينما كان جميع هذه المئويات على اتفاق لم يداوَم حتى على جمع الأصوات، وما كان يقرره العدد الأقل يعد قرار الكثرة، فيمكن أن يقال: إن الأمور في الكوميسات عن مئويات كانت تنظم وفق أكثرية البدرات٦ أكثر مما وفق أكثرية الأصوات.

بيد أن هذا السلطان المتناهي كان يُعدَّل بوسيلتين: فالأولى هي أن محامي الشعب إذ كانوا من طبقة الأغنياء عادة، وعن عدد كبير من العوام دائمًا، فإنهم كانوا يوازنون نفوذ الأشارف في الطبقة الأولى.

وكانت الوسيلة الثانية تقوم على ما يأتي، وذلك أنه بدلًا من أن تُحْمَلَ المئويات على التصويت وفق ترتيبها، وهذا يعني البدء بالأولى، كان يصار إلى اختيار واحدة بالقرعة فتأخذه هذه٧ وحدها في الانتخاب، فإذا ما وقع هذا كَرَّرَتْ جميع المئويات، التي تدعى ليوم آخر على حسب درجتها، ذات الانتخاب وأيدته عادة، وهكذا كان يُنزَع سلطان المثال من المرتبة لتُعطاه القرعة وفق مبدأ الديمقراطية.

وكان ينشأ عن هذه العادة فائدة أخرى أيضًا، وهي أن كان لمواطني الأرياف من الوقت بين الانتخابين ما يبحثون في أثنائه عن مزايا المرشح الذي عُيِّنَ موقتًا فلا يعطون أصواتهم من غير معرفة للأمر، بيد أن هذه العادة أبطلت بحجة السرعة فيقع الانتخابان في اليوم نفسه.

وكانت الكوميسات عن قبائل مجلس الشعب الروماني ضبطًا، وكانت تدعى من قِبَلِ محامي الشعب وحدهم، وفي هذه المجالس كان محامو الشعب يُنْتَخبون ويعرضون استفتاءاتهم، ولم يكن للسنات حقُّ حضورها فضلًا عن عدم وجود مرتبة له فيها، وبما أن أعضاء السنات ملزَمون بإطاعة قوانين لم يستطيعوا التصويت لها فإنهم كانوا أقل حرية من آخر المواطنين، وقد أُسيءَ تَمَثُّلُ هذا الحيف تمامًا، فكان يكفي وحده لإبطال مراسيم هيئة لم يُقبل جميع أعضائها فيها، ولو كان لجميع الأشارف أن يحضروا هذه الكوميسات وفق حقهم كمواطنين لبَدَوا أفرادًا حينئذ ولم يؤثِّروا قط في طِراز أصوات تجمع على حسب الرءوس فيكون لأحقر الصعاليك من القدرة ما لأقطاب السنات.

وإذا عدوت النظام الذي كان ينشأ عن هذه التوزيعات المختلفة لجمع أصوات شعب بالغ تلك العظمة أبصرتَ، إذن، أن هذه التوزيعات لم تتحول إلى أشكال غير مكترثة بنفسها، وإنما ترى أن كل واحد منها ذو نتائجَ مناسبةٍ للأغراض التي كانت تجعله مفضَّلًا.

وإنا، من غير خوض في الجزئيات أكثر من ذلك، نرى أنه يستنتج من الإيضاحات السابقة كونُ الكوميسات عن قبائلَ أكثرَ ملاءمة للحكومة الشعبية وكون الكوميسات عن مئويات أكثر ملاءمة للأرستقراطية، وأما الكوميسات عن عشائرَ، حيث تكون الأكثرية لرَعاع رومة وحدَهم، فبما أنها لم تكن صالحةً لغير مساعدة الطغيان والمقاصد السيئة فإنه وجب خُسْرَانُها حُسنَ الذكر، حتى إن المشاغبين أحجموا عن استعمال وسيلة كهذه كانت تفضح خططَهم كثيرًا، ولا مراء في أن جميع جلال الشعب الروماني تجلى في الكوميسات المئوية التي كانت شاملة وحدها؛ وذلك لأن الكوميسات عن عشائر كانت لا تشتمل على القبائل الريفية، ولأن الكوميسات عن قبائلَ كانت لا تشتمل على السنات والأشارف.

وأما طراز جمع الأصوات فقد كان لدى الرومان الأولين من البساطة كطبائعهم وإن كانت دون ما في إسبارطة، وكان كل واحد يعطي صوته عاليًا فيقيده كاتب، وكانت أكثرية الأصوات في كل قبيلة تعيِّن أصواتَها، وكانت أكثرية الأصوات بين القبائل تعين أصوات الشعب، وقل مثل هذا عن العشائر والمئويات. أجل، إن هذه العادة حسنة ما ساد الصلاح بين المواطنين فيستحي كل واحد من إعطاء صوته جهرًا لرأي مخالف للإنصاف أو لتابع غير أهل، ولكن الشعب عندما فسد وصارت الأصوات تُشترى صار من الملائم أن تُعطى سرًّا زجرًا للمشترين بعدم الثقة، وتجهيزًا للخبثاء بوسائلِ عدمِ الخيانة.

وأعلم أن شيشرون ذم هذا التحول، وعزا إليه خراب الجمهورية من بعض الوجوه، غير أني وإن كنت أشعر بوزن حُجَّة شيشرون هنا، لا أشاركه رأيه، وعلى العكس أرى أن زوال الدولة عُجِّل بعدم اتخاذ مثل هذه التحولات بدرجة الكفاية، وبما أن نظام الأصحاء لا يلائم المرضى فإنه لا ينبغي أن يراد الحكم في شعب فاسد بقوانين ملائمة لشعب صالح، ولا شيء يثبت هذه القاعدة أكثر من دوام جمهورية البندقية التي لا يزال هيكلها قائمًا لكون قوانينها لا تلائم غير الخبثاء.

ولذا وُزِّعَت على المواطنين رِقاعٌ كان يمكن كل واحد أن يصوت بها من غير أن يُعرف رأيه، ووُضعت أيضًا شكليات جديدة لجمع الرقاع وعد الأصوات والمقابلة بين الأعداد، إلخ، ولم يمنع هذا من الشك غالبًا في إخلاص الموظفين الذين عُهِدَ إليهم في القيام بهذه الأعمال،٨ وأخيرًا وُضعت مراسيمُ لمنع المكايد والسُّحت دلت كثرتُها على عدم فائدتها.

ولما دنا الوقت الأخير (للجمهورية) قضت الضرورة في الغالب بأن يُلْجأَ إلى وسائلَ غيرِ عادية تلافيًا لعدم كفاية القوانين، فكانت العجائب تُفْتَرض أحيانًا، غير أن هذه الوسيلة، التي كان يمكن أن تخدع الشعب، لم تكن لتخدع من يحكمون فيه، وكان يدعى مجلسٌ بغتةً في بعض الأحيان، وذلك قبل أن يكون لدى المرشحين من الوقت ما يقومون فيه بشغبهم، وكان يقضى اجتماع بكامله في الكلام عندما يُرى الشعب المُنالُ مستعدًّا لاتخاذ وضع سيئ، ولكن الطموح زاغ عن كل شيء في نهاية الأمر، وكل ما لا يمكن تصديقه هو أن هذا الشعب العظيم كان بين كثير من سوء الاستعمال لا ينقطع، بفضل نظمه القديمة، عن انتخاب الحكام وسن القوانين والقضاء في الدعاوي وإنجاز الأعمال الخاصة والعامة، وذلك بمثل السهولة التي كان السنات نفسه يستطيع أن يأتيها.

١  إن اسم رومة الذي يُزْعَمُ مجيئه من رومولوس يوناني، ومعناه القوة، وإن اسم نوما يوناني أيضًا، ومعناه القانون، وأي أثر يكون ملكًا هذه المدينة الأولان قد حملاه مقدمًا من الاسمين ذوي النصيب من الذي صنعاه؟
٢  Ramnenses.
٣  Tatienses.
٤  Luceres.
٥  قلت في «ميدان مارس»؛ لأن المجالس الشعبية عن مئويات كانت تجتمع فيه، وكان الشعب في الوجهين الآخرين يجتمع في الساحة المعروفة بالفوروم أو في مكان آخر، وهنالك كان لرأس الإحصاء (capite censi) من النفوذ والسلطان ما للمواطنين الأولين.
٦  البدرة: الكيس توضع فيه الدراهم.
٧  كانت هذه المئوية التي تخرج بالقرعة تسمى امتيازًا (proerogativa)؛ لأنها أولى المئويات التي يسأل صوتها، ومن هنا أتت كلمة امتياز (prerogative).
٨  Custodes, distributores rogatores, suffragiorum.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤