إغريقيا المهد الثاني للحضارة

مصر هي المهد الأول للحضارة، هي التي اخترعت الزراعة واكتشفت المعادن ونحتت الحجر وشيَّدت المباني، وأوجدت الأسس الأولى للدين والاجتماع والقانون، ولكن إغريقيا هي المهد الثاني للحضارة، هي التي عمَّمت التجارة والنقود وأقامت حكومة المدينة الديمقراطية بدلًا من حكومة القطر الأتوقراطية ووضعت الرأي فوق العقيدة وبدأت حركة التفكير الحديث.

حضارة الفراعنة هي حضارة الزراعة، وحضارة الإغريق هي حضارة التجارة.

للمصريين ديانة وعقائد جزمية، وللإغريق فلسفة وآراء فرضية.

ونحن حين نقرأ مخلفات المصريين القدماء نشعر أننا في عالم قديم لا ننفصل منه انفصالًا كميًّا فقط بل كيفيًّا أيضًا، أما حين نقرأ مخلفات الإغريق فإننا نجد فيها روح العصر الحديث، وليس في عصرنا الحاضر من النهضات الاجتماعية المختلفة ما لا نجد بذرته الأولى عند الإغريق؛ فإن الحركة النسوية الحديثة والدعوة إلى الاشتراكية وتوحيد الأمم في حضارة واحدة وتأصيل الإنسان بالتزاوج والديموقراطية والفاشية والبحث العلمي والمضاربة الفلسفية وحركة العري والدعوة إلى الرياضة والجمال والرحلة من أجل العلم، كل هذا كان يعرفه الإغريق وقد عقدوا له المناقشات الحادة ولكن مع عظم هذا الفرق بين المصريين والإغريق القدماء نجد حلقات للاتصال تصل بين حضارتي مصر وإغريقيا.

•••

إن الذي يثبته التاريخ أن حضارة مصر القديمة دخلت الجزر الأيونية أو اليونان جملة مرات؛ ففي المرة الأولى اكتسحتها الموجة الأولى التي خرجت من مصر في الدولة القديمة فعممت الآرام التي بنيت محاكاة للقبور المصرية الفرعونية وانتشرت معها الزراعة واستنباط الذهب والنحاس.

ثم خرجت موجة أخرى من مصر إلى كريت ثم إلى أوروبا أيام الدولة الوسطى وقد طغت هذه الموجة على الجزر اليونانية كما طغت على أقسام مختلفة من أوروبا، وكان حظ هذه الجزر أكبر من غيرها لقربها من كريت ولبنان حيث كانت جالية أو جاليات مصرية تقيم فيها وتتصل بالإغريق.

ثم جاءت الموجة الثالثة وهي أهم الثلاث أيام الأسرة السادسة والعشرين في عصر إبساماتيك بل قبله وبعده، وهنا زاد الاتصال بين المصريين والإغريق حتى أنشئت مدن إغريقية في الأقاليم الشمالية من مصر واتصلت التجارة بين القطرين حوالي سنة ٧٠٠ قبل الميلاد، وأساطير الإغريق تقول أن أسرة ملوكية مصرية كانت تحكم الإغريق أنشأها دانوس، وسواء أصحَّت هذه الأسطورة أم لم تصح فإنها تدل على أن الإغريق كانوا يرون من الصلة بين القطرين ما يبررها.

•••

وليس هناك شك في أن رجال الفن والأطباء والفلاسفة الإغريق كانوا يحجون إلى مصر وينقلون عنها، بل لقد دخل فيثاغورس في نظام الكهنة في طيبة وعاش في مصر أكثر مما عاش في وطنه، والمشهور عن أفلاطون أنه زار مصر، ويعد طاليس أول فلاسفة الإغريق «٦٠٠ ق.م.» وهو الذي يقول إن الماء أصل جميع الأشياء كما كانت عقيدة مصر التي تنص عليها ديانة أوزوريس.

وقد نقلت الأرباب المصرية إلى إغريقيا، مثل الرب الراقص بيس، بل إن هيكات ربة السحر «عكاظ العربية» الإغريقية مشتقة من لفظة هيكا المصرية بمعنى السحر، وقد نحت الجُعْلَ «الجعران» في الجزر اليونانية على الطريقة المصرية، والتماثيل الإغريقية الأولى نحتت على النمط المصري: الذراعان تُرسلان والقدم اليسرى تتقدم قليلًا على اليمنى.

وكثير من الأساطير التي ذكرت في إلياذة هوميروس يمكن الاهتداء إلى أصولها في القصص القديمة.

•••

وكان من حظ الإغريق وهم في بداية نهضتهم أن اتصلوا بالمصريين في العهد الصاوي أي الأسرة السادسة والعشرين؛ فإن هذه الأسرة عادت تصبو إلى الدولة القديمة، وتنقل مومياءات فراعنتها من شمال الدلتا إلى مقابر الملوك عند الأهرام، وتنحت التماثيل على طريقة الفراعنة في عصر الأهرام، وهذه الطريقة تشترط التزام الطبيعة دون تكلف القواعد الموروثة، وأخذ الإغريق بهذه الطريقة وارتقوا بها إلى أن بلغوا الذروة في النحت.

والحضارة المصرية في عهد إبساماتيك كانت بعيدة بعدًا عظيمًا عن حضارة الفراعنة أيام الأهرام، فقد كان الملك حوالي سنة ٣٠٠٠ ق.م. زعيمًا للزراعة قبل كل شيء، أما حوالي سنة ٦٠٠ أو ٧٠٠ ق.م. أيام إبساماتيك فقد استحال الملك للتجارة ولذلك فإن الحضارة الصاوية التي تُذكر في مصر حوالي سنة ٧٠٠٠ أو ٦٠٠٠ ق.م. هي المهد الطبيعي للحضارة الجديدة الإغريقية.

•••

تعددت الطرق التي انتقلت بها حضارات مصر إلى إغريقيا، ولكن ليس شك في أن جزيرة كريت كانت أعظم هذه الطرق، فإنها تقع بين بلادنا وبين شبه الجزيرة، وإذا نحن تعمقنا قليلًا في بحث الآثار في كريت أَلْفَيْنَا البراهين القاطعة على أن كريت كانت عيالًا على مصر في كل ما عرفته من حضارتها المينوية كما يسميها السر آرثر إيفانز.

وأول ما يستغرب في هذه الجزيرة أنه ليس فيها ما يدل على أن سكانها عاشوا في العصر الحجري؛ فإن أول السكان عرفوا الزراعة، وهذا يدل على أن الجزيرة لم تكن مسكونة مدة العصر الحجري القديم وأن الناس رحلوا إليها على السفن، ولما كان المصريون هم الذين اخترعوا السفن والزراعة فإن المعقول أنهم هم أيضًا الذين رحلوا إلى كريت وسكنوها لأول عهدها بالإنسان ونقلوا معهم الحضارة الزراعية.

•••

والإغريق يذكرون مينو كأنه أسطورة قديمة في كريت، ولكن أبحاث السر إيفانز قد أثبتت أن عصر مينو هو الثمرة اليانعة لحضارة قديمة مضى عليها أكثر ٢٠٠٠ سنة وصلت كريت من مصر حوالي سنة ٣٥٠٠ قبل الميلاد وقبل الأسرة الفرعونية.

وقد وُجِدَتْ أسلحة من النحاس وآنية من المرمر، إما أنها قد استوردت من مصر قبل عهد الأسر وإما أن الجاليات المصرية قد صنعتها في هذه الجزيرة.

•••

ومما يلاحظ مع الاستغراب أن المصريين كانوا يرسمون الزنوج والحيثيين وغيرهم من أبناء الأقطار الأجنبية كأنهم أجانب يراد تهزئتهم، أما الكريتيون فكان المصريون يرسمونهم كما يرسمون أنفسهم بدون هذه النزعة الكاريكاتورية، مع تخفيف ألوانهم.

وملابس الكريتيين تشبه كل الشبه ملابس المصريين قبل عهد الأسر، وشعر المرأة يضفر ويرسل على الظهر كما كان الشأن عند النوبيين.

وهناك أداة لها قيمة في الشعائر الدينية هي الفأس المزدوجة، وقد وجدت لهذه الغاية في كل من مصر وكريت، كما أن العجل قدس فيها، والصليب المصري القديم «أنخ» قد عرف في القطرين أيضًا.

•••

ومن أعجب ما يُروى في تاريخ كريت أن الانحطاط كان يصيبها على الدوام عقب الانحطاط الذي كان يصيب مصر، وحينما تكون في مصر نهضة تكون أيضًا في كريت نهضة لأن الارتباط كان قويًّا بينهما والتجانس في الحضارة تامًّا والعلاقات متصلة، وبين كريت وبين إغريقيا عشرات من الجزر وقد وجد في واحد منها وهي سفنوس قدور عليها رسم سفينة مصرية، ومثل هذا الرسم وجد أيضًا في نقادة بالوجه القبلي.

ويمكن أن نزيد من الأمثلة للدلالة على أن حضارة مصر التي استقرت في كريت قد انتقلت إلى الجزر اليونانية ومنها إلى شبه الجزيرة في الثلاثة الآلاف من السنين التي سبقت الميلاد المسيحي، وزاد هذا الانتقال قوة أيام العصر الصاوي في حكم إبساماتيك وبعده.

•••

وكما أن حضارة مصر القديمة تفشت في العالم القديم وخرجت موجات متوالية إلى جميع أنحاء العالم وفي عصور مختلفة كذلك تفشَّت حضارة الإغريق بعد ذلك، وأثر هذه الحضارة لا يزال واضحًا في البوذية التي يؤمن بها مئات الملايين من الأسيويين، كما يتضح أيضًا في ملابس المتوحشين في أقصى حدود آسيا فإن كساء الرأس الذي نعرفه عن بركليس يتخذه المتوحشون الآن في بعض أنحاء آسيا.

وتفشي الحضارة الإغريقية هو برهان غير مباشر على تفشي الحضارة المصرية القديمة؛ فإن الإنسان ليس حيوانًا مدنيًّا بالطبع وإنما هو يتمدن بالتطبع، والظروف التي تبعث على إيجاد حضارة جديدة قليلة جدًّا وهي لا توجد في كل قطر، فليس في كل قطر «نيل» يعلم الناس الزراعة ويجبره على تعلمها.

واختراع النقود الذي جعل التجارة تنتشر أيام الإغريق وتنشئ حضارة جديدة هي حضارة المدينة المستقلة لا يمكن أن يتكرر في كل زمان أو مكان.

وحسبنا أن نتأمل في هاتين الحقيقتين البارزتين أمام أعيننا وهي كيف أن الثقافة المسيحية انتشرت في القارات الخمس، وكيف تم ذلك أيضًا للثقافة الإسلامية؛ فإن ثقافة مصر القديمة قد وصلت إلى أمريكا الجنوبية والوسطى على نحو ما وصلت الثقافة الإسلامية جزر فيليبين في المحيط الهادي مع أنه لم يمض على الإسلام سوى نحو ١٣٠٠ سنة، في حين أن تاريخ الحضارة المصرية القديمة لا يقل عن ٦٠٠٠ أو ٧٠٠٠ سنة قبل الميلاد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤