التضحية البشرية قبل عهد الفراعنة

ليس الانفصال القائم الآن بين الملوكية والألوهية قديمًا؛ فإن الاثنتين كانتا في بداية التاريخ متصلتين موحدتين، فقد كان الملك هو الإله والإله هو الملك، بل هذا هو الحال القائمة الآن في اليابان فإن الإمبراطور هناك إله اليابانيين الذي يجب أن يعبد، وكان الفراعنة آلهة مصر، وكلنا يذكر كيف أن الإسكندر المقدوني حين قدم إلى مصر رحل إلى واحة سيوة حيث أقيمت له الشعائر التي جعلته ابنًا للإله أمون، ولم يكن الإسكندر حين تجشَّم السفر إلى هذه الواحة وقطع الصحراء يمزح أو يخدع المصريين أو الإغريق، بل الحقيقة أنه كان يؤمن بأنه ابن الإله وأنه أصبح بما أقيم له من الشعائر في المعبد في عداد الآلهة. ونحن نستبعد هذه الفكرة عن أذهاننا لأننا نشأنا في القرن العشرين، وفكرة الألوهية مجردة عندنا عن المادة ولكنها لم تكن كذلك قبل ٢٥٠٠ سنة سواء في مصر أم اليونان، وكان الملوك آلهة كما كانوا أبناء الآلهة، والسمات والأخلاق البشرية واضحة كل الوضوح في آلهة الإغريق.

فإذا كانت هذه حال الناس قبل ٢٥٠٠ سنة وفي أيام الإسكندر وحضارة الإغريق فكيف كانت حالهم قبل ٧٠٠٠ سنة حين كانت الأفكار والعقائد في طور التكون واللغة ناقصة عن التعبير ولفظة الملك ترادف لفظة الإله؟

إننا حين نقول إن المصريين أصل الحضارة يجب أن نتخيل هذا الشعب المصري وهو يجاهد الطبيعة ويحتال على فهم الدنيا بأفكار بدائية لا تسعف على التفكير الناضج، وأنه جاهد آلاف السنين قبل أن يصل إلى عهد الفراعنة؛ فالملك مينا ليس أول الملوك بل لعلَّه قد سبقه نحو مئة ملك أو أمير مهمته الأصلية أن يكثر من المحصولات ويمنع المرض والموت عن الأمة، فإذا كثر الوباء في أفراد الأمة وتفشى المرض والموت، أو إذا أمحل المحصول عُزِي ذلك إليه لأنه هو الإله المتصرف بالبلاد.

فما هو منطق هذه الحال عند المصري البدائي قبل عهد الفراعنة وما هي نتيجة هذا المنطق؟

هو أن الملك أي الإله ما دام في صحة تامة وله من شبابه قوة وعافية فإنه سيحتفظ بهذه الصفات للأمة التي يحكمها كما يحتفظ بها للمحصولات، أما إذا نشب به المرض أو اعتراه الضعف أو حلَّت به الشيخوخة فإنه لن يقدر على أن يُكسب أمته صحة أو المحصولات وفرة؛ وإذن يجب أن يُقْتَلَ لكي يتولى العرش غيره من الشبان الأقوياء الأصحاء.

ولم نجد في مصر ملكًا مقتولًا لأننا لم نجد ملوكًا قبل الفراعنة، ولكنا نستنتج هذا القتل من جملة أشياء:
  • أولًا: أن الرواية المصرية القديمة تقول إن الرب أوزوريس قد قُتِلَ، وكان عيده السنوي ينحصر في موته ثم قيامه من بين الأموات … وهذا الرب كان لا بد ملكًا من ملوك مصر قبل الفراعنة.
  • الثاني: أن عادة قتل الملوك تفشَّت من مصر إلى الأمم الأخرى في الطور الأولى من الحضارة المصرية، وقد كان ملوك إثيوبيا يُقتلون إلى عصر الرومان.
  • الثالث: أن قتل الملوك كان جاريًا إلى عهد قريب في السودان، وكان الملك إذا أحس بالضعف رضي بالقتل حتى لا يصيب الضعف شعبه؛ إذ هو المسئول عن الزارعة وعن صحة الشعب.
  • الرابع: أن التضحية البشرية مُورِسَتْ في عهد قديم في مصر، ثم ترقَّى الشعب، ولكن أحد الحكام المصريين في السودان عاد إليها فوُجِدَتِ الضحايا البشرية في قبره لأن الوسط السوداني الذي كان يعيش فيه لم يكن متدرجًا في الرقي مع الحضارة المصرية بل وقف عند طورها الأول.
  • الخامس: أن مانيتو المؤرخ المصري ذكر أن المصريين كانوا يحرقون رجلًا أصهب الشعر ثم يذرون رماده، وأن هذه التضحية البشرية كان يُضَحَّى بها على قبر أوزوريس.

وتفسير هذه التضحية أن أوزوريس هو رب القمح، والقمح أصفر أصهب فالرجل الأصهب يمثل أوزوريس الذي كان ملكًا وربًّا وقُتِلَ من أجل الزراعة.

فالمصريون عرفوا التضحية البشرية — قبل عهد الفراعنة — في الملوك، وعرفوها بعد الفراعنة في أفراد آخرين، ولن نكسب مجدًا بأن ندَّعي أن أسلافنا لم يعرفوا التضحية البشرية وأنهم كانوا أعمق ذهنًا وأسمى عواطف من ارتكاب هذه الجناية؛ فإنهم كانوا مبتدئين يتحسسون العقائد والآراء لزيادة صحتهم ووفرة محصولاتهم، وقد هداهم ذهنهم إلى أن الملك هو المسئول عن الصحة والبركة، فإذا أهمل وجب قتله، ثم أذاعوا هذه العقيدة في أنحاء العالم حتى لقد نرى لها أثرًا في أوروبا نفسها الآن حيث تُقام حفلات تومئ إلى قتل الإله أي الملك، وملوك السودان وهم أقرب الملوك المتوحشين إلينا مارسوا هذه العادة وربما لا يزال بعضهم يمارسها إن لم تكن الحكومات الأوروبية قد منعتها، وكتاب الغصن الذهبي الذي ألَّفه فريزر يقوم على هذا الأساس وهو قتل الملوك.

•••

أما كيف تخلص المصريون من هذه العقيدة السيئة وكفوا عن قتل ملوكهم فلسنا نعرف على التحقيق الدرجات التي ارتقوا عليها، ولكنا نجد أيام الفراعنة أنهم اهتدوا إلى طريقة لرد الشباب إلى الملك في الشعيرة الخاصة برمي السهام عن القوس إلى الجهات الأربع، وفي التتويج حين يتخذ الملك لباسًا وتاجًا وتقام له صلوات وتؤدى شعائر، وحفلة التتويج هذه هي نفسها التي تُرى إلى الآن في زواج الأقباط؛ فإن العروسين يُمنحان حياة جديدة أساسها الصلوات والأدعية والشعائر التي تؤدَّى لهما وهما في ملابس وتيجان ملوكية، والمعقول أن تنتقل هذه الحفلة من الملوك إلى الخاصة ثم إلى العامة.

والملك القديم حين كان يُعبد من أفراد الشعب لم تكن العبادة لشخصه كأن له فضلًا على الأمة، بل كان خدمة من هؤلاء الأفراد له حتى تعود إليه الصحة لكي تنتقل منه إلى الأمة والمزروعات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤