حِكَم أمينوموب

معظم الأمثال والحكم الشائعة عند الأمم القديمة ومعظم الأساطير تعود إلى أصل مصري صريح أو منقح؛ فإن الكلمة العربية التي اختلف فيها بعض الكتاب وهي «القتل أنفى للقتل» قد أثبت الأستاذ عبد القادر حمزة أنها مصرية قديمة، وقصة الطوفان التي روتها التوراة حافلة بالألفاظ المصرية التي تنم عن أصلها حتى لفظة الطوفان نفسها مصرية وليست عبرية، وكثير من قصص هوميروس اليوناني يعود إلى أصل مصري، وفي حكم أمينوموب التي تعود إلى القرن العاشر قبل الميلاد نرى أن إدراك المصريين للضمير والشخصية قد بلغ القمة، ونعني هذه الحكم التي تُرْجِمَتْ إلى العبرانية وكانت ينبوعًا عظيم الخطر لكتاب الأمثال، ومقابلة بسيطة لحكم أمينوموب وللأمثال التي تُعْزَى إلى سليمان الحكيم تتبين لنا هذه الحقيقة في وضوح وجلاء:
حكم أمينو موب الأمثال
أمِلْ أذنك لتسمع تعليمي وهَيِّئ قلبك لفهمها ومن المنفعة أن تضعها في قلبك والويل للذي يخالفها. أمل أذنك واسمع كلام الحكماء، ووجِّه قلبك إلى معرفتي؛ لأنه حسن أن حفظتها في قلبك.
لا تُزِلْ معالم الحدود في حقل، ولا تكن جشعًا في سبيل ذراع من الأرض، ولا تتعدَّ حدود أرملة. لا تنقل التخوم القديم، لا تدخل حدود الأيتام.
لا تتعب نفسك في طلب المزيد، إذ تكون حاجتك مقضية. لا تتعب نفسك لكي تصير غنيًّا، هل تُطير عينيك نحوه وليس هو.
إذا كانت الثروات تأتيك بالسرقة فلن تمكث معك أثناء الليل، حينما يأتي الصباح لن ترى لها أثرًا؛ إذ إنها صنعت لنفسها أجنحة كالأوز وطارت إلى السماء. لأنه إنما يصنع لنفسه أجنحة كالنسر يطير إلى السماء.

ومن هذا العرض السريع للنصوص المتقدمة نتبين نشوء الأخلاق والشخصية عند قدماء المصريين، وأن هذا النشوء كان مبعثه الاختبار والتجربة الاجتماعية، هو وضع الهيئة الاجتماعية الذي صنع كل هذا وهذا النظر إلى الأمور يفيدنا في أمرين: الثقة بالإنسان وبالقوة الكامنة فيه، والأمل في مستقبل الإنسانية وبعث النشاط الفكري للبحث الحر والنظر المطلق إلى الحياة فدراستنا إذن لتاريخ مصر القديمة هي في الواقع دراسة إنسانية قبل أن تكون دراسة قومية، وفي هذه الدراسات قد رأينا إلى أي حد بلغت العبقرية الإنسانية في الشعب المصري القديم، وإلى أي حد اندس هذا العقل المصري في الإنسانية كلها فملأها وطغى عليها وطبعها بطابع ظاهر أو خفي نحن الآن خليقون أن نتلمس معالمه في كل مكان.

وإذا كان هذا هو شأن العقل المصري فلنا نحن الآن أن نستعيد الثقة بعبقريتنا الكامنة، وأن نضع نصب أعيننا أن العقل المصري الحديث جدير بأن يأتي بما أتى به العقل المصري القديم من المعجزات، فهذا الوجدان الإنساني الذي أشرق نوره في مصر إنما فتنته العناصر المصرية الصميمة، فهو نتاج النيل المصري، وهو نتاج هذه الأرض السوداء الممتدة على جانبيه، وهو نتاج هذه الشمس السافرة، هذه السماء الصاحية الضحوك.

كل هذه العناصر التي نضج بين أحضانها الوجدان الإنساني لم تتغير عما كانت عليه، إذا عرفنا هذا كله وعرفنا أن الدم الذي يجري في عروقنا نحن المصريين المحدثين إنما هو دم أجدادنا العظام؛ أمكننا حينئذٍ أن نقول إن العبقرية كامنة فينا ستتفجر من جديد يومًا ما، وغاية ما نحتاج إليه هو أن نفلح الحديقة كما يقول فولتير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤