مقدمة

لو كان صحيحًا أن براعة الروائي الصيني مو يان في المزج بين الواقعية السحرية والحكايات الغرائبية المعهودة في التراث الصيني القديم هي المسوِّغ لحصوله على جائزة نوبل في الأدب؛ إذَن لاستحقَّها معه بالتساوي عددٌ من أهم كُتَّاب القصة في جيل ما يُعرف ﺑ «أدب البحث عن الجذور». وهؤلاء كثيرون جدًّا، منهم: ليو سولا، شو شين، تسان شيو، جاهيداوا، هونفن، يو هوا، سوتون، مايوان (قد يقترب هذا الأخير في نطقه مع مو يان، أديب نوبل!) والأساس الإبداعي عندهم جميعًا يقوم على فكرة الانتصار لطاقات الحياة البدائية وكشف الجوهر العبثي للإنسان؛ تنديدًا بضعفه وزَيْف ثقافته الحديثة. والكتابة الروائية عند الكثيرين منهم تُجسِّد إحساسًا بعبثِ الوجود، لكن منابع إلهامهم لم تأتِ مباشرةً من نماذج غربية الطابع، صحيح أنهم استفادوا من الترجمات والمدارس النقدية في الغرب، لكنها استفادة دون نقل! فلم تكُن القصة، حتى في التراث الفكري والأدبي الصيني القديم، محلَّ احتفاء أو استحقاق لجدارة، وكثيرًا ما اعتبرتها الكونفوشية مجرَّد هزل وثرثرة صبيانية (كذا، وبمنطوقها القديم والباقي حتى اليوم، في الصينية، «شياو شو»؛ أي: الكلام التَّافه، الحديث الفارغ) ولم يكُن للكتابة الروائية أن تحتلَّ مكانة مُعتبَرة إلا بما اشتقت من مصادر أسطورية قديمة، بوصفها أقدَم واقع سحري نهلَت منه أجيال الكتابة في أوائل الثمانينيات، حتى قبل أن تجري أقلام المترجمين بنَقل نصوص غارثيا ماركيز، ذلك أن الساحة الأدبية كانت منذ آخِر السبعينيات تبحث عن يقين ضاعَ منها إبَّان الثورة الثقافية … لم يكُن ثمَّة أساتذة (هذه المرة حقًّا وفعلًا … دع عنك ما كان يقوله أستاذنا محمد حافظ رجب، تحت ظروف مختلِفة، بشأن أجيالنا الأدبية في ستينيات الأدب العربي بمصر) فكانت العودة إلى الجذور الثقافية، حتى بمحتواها المتضمِّن لشرائح عريضة ممتدة من التراث الكونفوشي إلى الفولكلوريات الشعبية، فتشكَّلَت ملامح يقين بالأسطورة مُنسجِمة مع تقاليد باقية في المواريث، وكانت «الحداثة» هي الكلمة المفتاح في فَهْم اتجاهات الإبداع، منذ أوائل القرن العشرين، أو هكذا قد يُقال. ثم إن تاريخ الحداثة في الصين يبدأ أيضًا مع حدٍّ زمنيٍّ قاطِع بين زمن قديم انتهى وفات، وعصر جديد بدأ يشق طريقه إليها فيما سُمِّي بحركة الرابع من مايو ١٩١٩م.

لكي نحدِّد موقع مو يان كروائي صيني متميِّز، ونقف على قيمة إبداعه، فمن المفيد أن نستحضر أجواء المرحلة الأدبية التي ينتمي إليها، ونعيِّن صِلتها بمُجمَل حلقات التطوُّر في مسيرة الأدب الصيني المعاصر.

نستطيع أن نقول، بدرجة كبيرة من الثقة مدعومة بأسانيد متواترة في كثير من اتجاهات التأريخ الأدبي المعاصر، إن مسيرة الأدب الصيني المُعاصِر قد بدأت في الصين الأم مع تأسيس الجمهورية في عام ١٩٤٩م (والمعاصَرة في الأدب الصيني جزء من اتجاه التحديث الأدبي الذي بدأ، كما أسلفتُ، مع مسيرة الحركة الوطنية المتطلِّعة إلى تأسيس «صين جديدة» في مايو ١٩١٩م)؛ حيث تبدأ المرحلة الأولى من تاريخ الأدب المعاصر (أتكلَّم عن محتواه في الإبداع القصصي) مع أول الخمسينيات، وتُعرف في اصطلاح تاريخ النقد باسم «مرحلة السبعة عشر عامًا» وسيقترب فيها المبدعون من معالجة التناقضات الاجتماعية الكبرى، وتُثمر محاولاتهم أعمالًا ناجحة، كرَّسَت لهم وضعًا فريدًا في ساحة الكتابة الروائية، فعرف الناس كُتَّابًا مثل: رو جي جوان، لو ون فو، وانغ منغ (سيتولى وزارة الثقافة فيما بعد، ويؤسِّس لاتجاه تيار الوعي في الرواية الصينية، مطلع الثمانينيات) في هذه المرحلة ينجح الإبداع الروائي في أن يرصد التغيُّرات الحياتية السريعة، جنبًا إلى جنبِ مظاهرِ الحياة النضالية للثورة الاشتراكية، وفصول رائعة من تجارب بلد في خِضَم تحوُّلات بالعمل والبناء، دون أن يغيب عن باله تسجيل تناقضات البيئة الاجتماعية في حينها، وقد شهدت مرحلة السبعة عشر عامًا فترتَين تميَّزَتا بالحيوية الشديدة:
  • فترة ما قبل عام ١٩٥٦م؛ حيث سيكتب الروائي «جاو شو لي» عن أحوال الريف الصيني (قبل أن يولد «مو يان» بنحو أربعة أعوام) ويقدِّم روائع القصة الصينية المعاصرة: «تدوين الأسماء»، «قصة أفسدها المونتاج»، «زوايا الحب المنسية»، «العم شوماو وبناته»، «أهل المعجزات ينزلون القرية»، «على هامش سيرة الغرام»، «تغييرات جبلية»، وكلها كانت تأخذ بمنحًى واقعيٍّ، أسهمَت في تعميقه كتابات مُبدِعين آخَرين ساروا على نفس المنوال، مثل: «ما فنغ»، و«لي جون»، و«جوليبو» … فهؤلاء جميعًا اتَّخذوا موضوعاتهم من قلب الريف الصيني، وبرغم ما حقَّقوه من إنجازات رائعة، فقد كان يُؤخَذ على أعمالهم عجزها عن نحت صور بطولية في زمن شهدَ ملاحم أقدار ريفية لم يرَ التاريخ الصيني مثيلها منذ زمان، مع ضعفٍ في إبراز العالَم الداخلي المُعقَّد للشخصيات، وترهُّل في أساليب السرد.

  • أما ثاني الفترات فيقصد بها بداية الستينيات، حيث سادت أجواء استقرار عام، برغم الظروف الاقتصادية الصعبة، وتمكن السرد الروائي أن يلمح الواقع الموضوعي لمجتمع يحفل بتحوُّلات ويموج بأحوال. وهنا سيبرز دور «قاو شياو شنغ» (الروائي العظيم الذي سيغفل ذكره طويلًا، دون أن ينكر دوره!)؛ حيث سيشترك مع عدد من الكُتَّاب سنة ١٩٥٧م في تأسيس مطبوعة «الاستقصائيون»، لكن يتم استبعادهم من الساحة الأدبية، على خلفية اتهام بأخطاء سياسية، وبعد عشرين عامًا يعود قاو شياو شنغ بقصة «العم شون يبني غرفة»، فتبرز براعته في رسم العالَم النفسي لشخصياته، وتصوير تقلُّباتهم عَبْر أسلوب في الكتابة كان «يمزج حقًّا بين أساليب الكتابة الروائية الصينية التقليدية، ومفاهيم الكتابة الحديثة» (قبل أن تصدر لجنة التحكيم السويدية قرارَ منح الجائزة ﻟ «مو يان»، بتقدير نفس القيمة، وبنصوص قريبة من أحكامها، رغم صدورها عن أقلام النقاد الصينيين، للكاتب «قاو شينغ شنغ» منذ نحو خمسين عامًا تقريبًا!) حتى إنَّ كتابات نقدية كانت تقدر له دورًا مساويًا لأولئك الذين خرج الأدب الصيني الحديث من جَعبتهم، مثل «لو شون» و«جاو شولي».

على مدى مرحلة السبعة عشر عامًا، بلغ الإنتاج القصصي زهاء ثلاثمائة رواية، ثم تَلَتْها المرحلة الثانية التي تبدأ في عام ١٩٦٦م وتستمر نحو عشر سنوات، هي كل الفترة التي استغرقتها سنوات ما سُمي ﺑ «الثورة الثقافية الكبرى»، وهي الفترة التي انتُقصت قيمة إسهامها في مواصلة تقاليد الكتابة الجديدة وتطوير سمات إبداعية جرى اكتشافها في المرحلة السابقة، بل وُصِمَت بأنها أصابت التصوُّرات الأدبية بالجمود والانغلاق، واتخذت موقفًا مناقضًا من ضرورة تطوير الطابع الجمالي للتنوُّع الأدبي وفَهْم دواعيه، بل عملت على تسييس الأدب، بصورة متزايدة، عَبْر رؤًى انغلاقية أُحادية راحت تفرض على الإبداع (اقرأ: الروائي) مطالبها السطحية إيعازًا باصطناع أدوار ووظائف سياسية، ممَّا باعد بينها وبين مفاهيم المسعى الثقافي الذي اضطلعت بأعبائه وعملت تحت رايته، فأفرغت الأدب من مضمونه لصالح تعبئة أيديولجية، وسلبته وجوده المستقل وتفرُّده وخصوصية طابعه، حتى صار بعضًا من سياسة «أدبية» أو أدب «سياسي» … ذلك هو ما آلَت إليه أحوال الأدب أيام الثورة الثقافية … أو هكذا يقولون!
ولأنه لا يمكن تقييم آثار الثورة الثقافية بموضوعية كاملة، حتى اليوم، فلا يمكن الوقوف عند جانب واحد من تقدير أحوال الكتابة الروائية في زمانها، فهناك أيضًا (وعن نفس المصدر الذي أنقل للقارئ جانبًا من نتائج أبحاثه … نصًّا حرفيًّا) رأي آخَر يُناظر قائلًا: «إن اللون السياسي البارز كان إحدى السِّمات الفائقة التي اتضحت في ملامح الكتابة الأدبية، ذلك أن انتصار الثورة الشعبية هو الذي حشد المبدعين صوب تجمُّع أدبي الْتَأمَت به أهدافهم، واتضحت عنده رؤاهم، ونضجت في خِضَمِّه أحاسيسهم بالمسئولية الاجتماعية، وتلك نَقْلة تقدُّمية بالتأكيد، وأمام تجربة انتصار تاريخي وواقع اجتماعي جديد، انبعثت طاقات الحماس السياسي لدى الكُتَّاب، فمضوا مدفوعين بإرادة الواجب الطَّوعي لاستقصاء ملامح الحياة الاجتماعية من وجهة سياسية شابَّة ومنتصرة، حتى إن عددًا من المبدعين القدامى ألقى جانبًا بمساره الفكري لينخرط ضمن حياة مختلفة وجماهير جديدة، وتجربة حياة بطولية واعِدة بمداخل إبداع لا حدود لها، وكان زَخم الحركة السياسية الاجتماعية بواقعها الهائل يُلهم غير قليل من الأقلام المبدعة، حتى خاضت تجربة الكتابة في موضوعات ذات طابع سياسي التحامًا بوسائل وأغراض التعبير عن أحوال التغيير الكبرى السائرة قُدمًا.»١
المرحلة الثالثة والأخيرة في تاريخ الأدب الصيني، بدأت عام ١٩٧٩م ويُطلق عليها اصطلاحًا «الفترة الأدبية الجديدة» وهي التي ستشهد ظهور مو يان ضمن أجيال شابَّة. وكانت اضطرابات السنوات العشر السابقة إبَّان الثورة الثقافية قد شكَّلَت اتجاهًا داعيًا للخلاص الفِكري، وتبلورت عوامل تدفع نحو تبديل ملامح الإبداع القصصي، منها: انقلاب البناء الاجتماعي، اختلاف الحالة الذهنية والنفسية عند الناس، ظهور تيارات فكرية جديدة، بروز اتجاهات جديدة على مختلف الأصعدة، أهمها — في الكتابة الروائية — هو التحوُّل من القالب السياسي إلى الاجتماعي، من الوعظي الأُحادي إلى الجمالي المتنوِّع، من النمط الأساسي القاعدي إلى الخَلْق الإبداعي المستقل، ممَّا أتاح ﻟ «الفترة الجديدة»، بتياراتها في التحرُّر الفِكري والتغيير الاجتماعي، أن تحدث انطلاقة أدبية تحرُّرية، هيَّأت الظروف لخَلْق بيئة مُواتية لإبداع متجدِّد، فتشكَّلَت عدة تيارات في الإبداع الروائي، توالى ظهورها من نهاية السبعينيات حتى منتصف الثمانينيات تقريبًا، منها: «أدب الجراح»، «أدب المراجعة»، «أدب الإصلاح»، «أدب البحث عن الجذور». كان «أدب الجراح» مع «المراجعة» قد «اقتحما كلاهما المنطقة المحرَّمة في الموضوعات الأدبية، وعَمِلا على تكسير القالب الفِكري القديم» (هنا، لاحِظ جيدًا أنها بداية العودة، قُل الدعوة مجددًا، إلى تقاليد الكتابة الأدبية التي دعَت إليها حركة الرابع من مايو ١٩١٩م، فقد كانت تلك هي أهدافها بعينها، وإن اختلف الزمن والظروف!) وظهرت أجيال من المبدعين — الشبَّان على الأكثر — انتقلت بوجهة الإبداع من الاهتمام بالأُطُر الخارجية للحياة الاجتماعية (يعني كتابة التدفُّق الحياتي ذاته، وملامح سيرورته ومدى ارتباط وجود الشخصيات بالحركة والمسار وضرورات الأحداث) إلى كتابة مظاهر الحياة عَبْر تشكُّلها بشروط أحوالها الداخلية، في أجوائها وبدلالاتها المتفرِّدة (أيْ تعيين مسار أقدارها، ومدى ارتباط مصير الفرد بمجتمعه؛ حيث انتقلت بؤرة الاهتمام من المجتمع إلى الإنسان الفرد).
وقد اختلف جيل الفترة الجديدة تمامًا عن جيل الخمسينيات؛ إذ لم تكُن بداية الطريق أمامه نحو الأدب تفرض الامتثال لقالب أدبي، ذلك أن ما قدَّمَتْه حركة التاريخ من محتويات غنية في واقعها وتطوُّرها، مع أوائل الثمانينيات في الصين، مَنحَت أدب الفترة الجديدة جوانب متعدِّدة من الوعي بواقع مختلِف يفرض المراجعة والتصحيح، ويلمح اتجاهات تطوُّر الحياة الاجتماعية ويدفع — من ثَم — لإحداث نَقْلة في الوعي الجمالي، فاتسعت رؤية المبدعين تجاه عالم بأَسْره. قل إنه انقلاب تجديدي إذَن، لكن في ساحة الإبداع الأدبي بخاصة، وتحديدًا في منطقة الكتابة الروائية، صحيح أن بعضًا من موضوعات القصة بقي متشبِّثًا بالقالب والشخصيات والمنحى القديم، لكن الاتجاه الرئيسي والسمات الأساسية كانت لصالح حساسية جديدة، وخصوصًا في الكتابة القصصية القصيرة التي اكتسبت بأساليبها الفنية وجودًا أكثر وضوحًا وثراءً من الرواية، في الفترة من ١٩٧٩ إلى ١٩٨٥م. وكان «وانغ منغ»، و«رو جي جوان» يشقَّان النهر الأدبي بموجة جمالية جديدة، مغايرة لتيَّار أدب الجراح والمراجعة، فأدخلا التجريب في الخيال والرمزية والكوميديا السوداء، بإضافة «تيار الوعي» إلى أساليب الكتابة الصينية، ثم تدفَّقَت وراءهما موجة أكثر عنفوانًا، منحت سُلطة التقييم الأدبي كاملةً للقارئ، وكان المحكُّ في جدية هذا المنحى يأتي مباشرةً — وعَبْر أشياء كثيرة — من تلك الكتابات التي استَلْهمَت مشاهد الريف الصيني الحديث، والمدن العمرانية والجامعات والمصانع، أيْ باختصار، كل المواقع التي تُبرز ملامح الحداثة (مرَّة أخرى … استلهامًا لمبادئ حركة التحديث «الرابع من مايو»).
لكن لنا هنا ملحوظة مهمة للغاية — وعلى مسئولية كاتب هذه الكلمات ليس غير — وهي أن التجريب في تيار الوعي على يد وانغ منغ وآخَرين غيره، شأنه شأن غيره من اتجاهات نقدية وتيارات فكرية مأخوذة من مصادر غير صينية، كانت (وفقط) في سطحها القشري محلَّ استفادة، كمُعطًى شكليٍّ، باعتبارها رافعةً لعناصر تجديد صينية في روحها وجذورها، فقد ساد تيار الوعي بطابعه الشكلي وسماته المظهرية دون فحواه الفلسفية؛ إذ تمَّت معالجته وَفْق مزاج صيني تقليدي، لذا فقد أطلقت عليه مدارس النقد الأدبي «تيار الوعي الشرقي» (هذه، ليست من عنديات كاتب المقدِّمة) وكانت تُسمِّي قصص وانغ منغ، وروايات (الكاتبة) تسونغ بو ﺑ «تيار الوعي الصيني»، باعتبار أن الكتابة هنا كانت تستلهم مذاقًا محليًّا يستبعد العبث من طيَّاته. كانت موجة الرواية تضم أسماء: ليو سولا، شو شين، تسان شيو، مو يان، هونفن، يو هوا، سو تون، كا يفي، وكلهم يمثِّلون الحداثة ذات الطابع الصيني (كذا يُقال) ولو أن كتاباتهم — سواء في اتجاه موضوعاتها أو أدواتها السردية أو أساليبها الفنية — بعيدة المدى عن الطابع الجوهري لأدب الحداثة، وربما مع بدء دخول مفاهيم جديدة إلى ساحة النقد، مع حركة الترجمة النشِطة والمتزايدة، ظهر تأثير عاجل لآثار ما بعد الحداثة، عَبْر نصوص مترجمة، فتشكَّل، بالتوازي، اتجاه أدبي (وفلسفي) يبحث عن قيمة ومعنى حياة الإنسان من وجوده الذاتي، ولمَّا كانت أجواء الكتابة فيما بعد الثورة الثقافية يسيطر عليها مسعى البحث عن الحقائق وسط غابات اللامعقول؛ حيث الأجيال بلا أب أو أساتذة أو حبل أمومي سُرِّي يربطها بالتاريخ والتقاليد الثقافية، ولم يكُن ثمَّة بيت عائلة صيني يرجعون إليه، فقد اضطرت جحافل المبدعين الشبَّان إلى الهرب بعيدًا في أغوار الماضي السحيق (على المستوى النفسي) أو زوايا اقتراب مباشر من غرائبيات الفولكلور، أو حتى لدى مساقط الأنهار، والقرى البعيدة والتلال، بحثًا عن علائق تربطهم بجذور حياة.
وبالتالي، فقد اتضحت ملامح موجة أدبية جديدة في عام ١٩٨٥م، بدَت غريبة على أجواء الكتابة الروائية، أطلق عليها «الموجة الجديدة» غمرت الساحة وشكَّلَت اتجاهًا جماليًّا مختلفًا عن الواقعية التقليدية، ذلك هو «أدب البحث عن الجذور» كان من روادها: هان شاوكون، آ تشنغ، جنغ وانلون، ليو سولان، مو يان؛ حيث شقوا لأنفسهم مرحلة مختلفة في الوعي الجمالي الروائي، تنأى عن الوضوح والخط السردي الواحد، وأهملت القالب الروائي المكثَّف المكتمل الأركان، فأخذت بنصيب وافر من الدلالة الفلسفية الحديثة، وبنصيب أعظم من التلوين الأسطوري، استقصاءً للاوعي الضمير الجمعي وأعماقه غير العقلانية (تأثير الاتجاهات السيكولوجية ملحوظ بقوة) في منحًى يكاد يتناقض مع منظومة الإبداع القصصي عمومًا.
وراحَ أحد مجالات «البحث عن الجذور» يتخذ موضوعاته من الحياة البدائية، بينما انصبَّ اتجاه آخَر على الاهتمام بتيمات الكتابة عن القوميات الصينية وقبائل الأحراش والمراعي وقوافل الخيول، وأبرز الأعمال في هذا المجال، رواية «رومانسية ملء الأرض والسماء» للكاتب آتشنغ، أمَّا السمة الأخرى لهذا الاتجاه فتتمثَّل في اتخاذ موضوعاته من التراث الصيني القديم، بما فيه المأثور الشعبي بما تضافر معه من مواريث التقاليد الكونفوشية والطاوية. وكانت قصص هذا الجيل تجسِّد في معظمها إحساسًا بعبثية الوجود، لكنها كانت تختلف عمَّا يقابلها في الغرب؛ إذ كان الكتَّاب الصينيون يحاولون التمرُّد على ما يعترض طرقهم الخاصة في التعبير عن ذواتهم، فمن ثَم كانت محاولتهم الدائبة في استكشاف أشكال جديدة للسرد، تقوم على تنوُّع أساليب الحكي، وهكذا نجد عند مو يان وهونفن ويو هوا، وسو تون، وكايفي — وكلهم يشكِّلون اتجاه ما بعد الحداثة — سمات تتجاوز المنحى الحداثي، خصوصًا وقد تحوَّل مرتكز الكتابة عندهم من «ماذا نكتب؟» إلى «كيف نكتب؟» حيث وضعوا القصَّ فوق القصة، في انقلاب جذري على أساليب ورُؤى الإبداع الروائي الصيني، وحسب تعبير إحدى القراءات النقدية المعتبرة لإنتاجهم … «فإن ذلك قد يمثِّل نَقْلة نوعية في الوعي بنمط جديد في الكتابة، ولو أن خلخلة الحدث الحياتي قد أضعفت دلالة الواقع الاجتماعي في الرواية، وهو ما أتاح لإنجاز الحداثة وما بعدها أن يسهم في تحطيم جمود القالب الأدبي؛ ليُفسح الطريق أمام طاقات الكتابة ويضيف مددًا لمجموع السمات اللغوية والحس الروائي.»

وقد تأثَّرَت عبثية هذا الجيل من الكتَّاب بفلسفة الحياة عند برغسون، وتحليلات فرويد، وأبرز مَن يمثِّلون هذا التأثُّر اثنان: هونفن، ومو يان، علمًا بأن الأساس في إبداعهم يقوم، في بعضه، على فكرة الانتصار لطاقة الحياة البدائية (الليبيدية) وكشف الجوهر العبثي للإنسان.

بهذه الخلفية دخل مو يان إلى الساحة الأدبية، لأول مرة، عام ١٩٨١م عندما نشرت له مجلة lian Chi قصة بعنوان «قطرات مطر في ليلة ربيعية»، وكان وقتها يقضي مدة الخدمة العسكرية بمدينة باوآن بمقاطعة «هيبي». قبل ذلك بعدة سنوات كان قد كتب عدة مسودات لقصص قصيرة، وأرسلها إلى مطبوعات أدبية مختلفة، لكنها لم تُنشر. ولطالما كان يؤرِّقه الحنين إلى قريته «كاومي» بإقليم شاندونغ شمال شرق الصين (حيث ولد في ١٩٥٥م)، وذلك على الرغم من سنوات طفولته البائسة في أجواء فقيرة لم تُتِح له سوى القليل من فُرص التعلُّم والقراءة، حتى إذا فرغ من قراءة أعداد الكتب الضئيلة، لم يَجِد إلا قاموس «شينهوا»، فأخذ يُطالعه مرارًا ويحفظ بعض مواده! ضاقت سبل العيش به حتى عمل أجيرًا في مصنع للزيوت وهو شابٌّ في الثامنة عشرة من عمره (ضائقته لن تنتهي حتى بعد حصوله على المكافأة النقدية لجائزة نوبل؛ إذ لن تسمح له إلا بشراء ما لا يزيد على مائة وعشرين مترًا فقط من أرض بناء لا تكاد تكفي مساحة فيلَّا كان يحلم بها!) عمل لفترة في رئاسة أركان جيش التحرير الشعبي (قسم التوجيه السياسي) والتحق في ١٩٨٤م بالقسم الأدبي بكلية الفنون الجميلة التابعة للجيش الصيني، وفي ١٩٨٥م نشر روايته «الفجل الأحمر»، ثم انتهى من رواية «الذرة الرفيعة الحمراء» في ١٩٨٦م، لكن كتابة الرواية كانت تتطلَّب وعيًا واطِّلاعًا مدروسًا، فبادر إلى مواصلة دراساته التكميلية مُلتحِقًا بمعهد لوشون للدراسات الأدبية في ١٩٨٩م، وفي تلك السنة نفسها كانت مجلة «رنمين ونشيو» (أدب الشعب) قد أجرَت استطلاعًا بين القرَّاء حول معدَّل القراءة التي يحظى بها الأدباء الشبَّان، ففاز بالمركز الأول باعتباره «الكاتب الحاصل على أكبر نسبة قراءة». لم يتخلَّ عن أمله في فرصة تعليم راقٍ، وواصل دراساته العُليا في جامعة «شيفان» ببكين (إحدى المؤسسات التعليمية المرموقة حينئذٍ).
كان لوشون، عميد الأدب الصيني الحديث، يقول في دراسة مهمة له عن تاريخ القصة الصينية: إن أهم مَلمَحَين يلفتان نظر الدارس المدقِّق في أحوال الرواية الصينية، على مرِّ التاريخ، هما: (١) «النكوص»؛ أي تشبث مسار الإبداع بنمط أو مثال أو أسلوب قصصي انتهى زمنه. (٢) «الدمج»؛ فأنت تجد لونًا من الكتابة القصصية قد عفا عليه الزمن، لكنه يعاود الظهور تحت قناع مُختلِف، بل يُوجِد لنفسه طرائق خاصة يتخلَّل بها نسيج الكتابة القائمة ويندمج في طياتها مُنسجِمًا مع ذائقة العصر الجمالية … شيء من هذا تقريبًا نلحظه في رؤية مو يان للاتجاه التاريخي في الرواية (خصوصًا في كتابات جيل «البحث عن الجذور»، وهو يعيد كتابة فصول منسية من تاريخ قديم بحسبانه جذرًا ملهمًا لاستقصاء الحقائق)؛ حيث يعتبر أن القصة التاريخية الجديدة ليست نفيًا لتراث القصة الثورية — كما عهدناها في المراحل السابقة — بل هي استمرار طبيعي لها، مؤكدًا أن إبداعاته الأولى قد تأثَّرت بالقصة الثورية، ذلك أن قصة «القنبيط المر» للكاتب «فنغ ديين» Feng De ying تركت آثارًا عميقة في كتابته لرواية «الذرة الرفيعة الحمراء»، فبعد قراءته لها في شبابه أحسَّ أن وصفها للحب واقعي جدًّا، ووحشي أيضًا للغاية، فلمَّا قرأها ثانيةً تأكَّد من أن هذه الكتابة لا يُبدعها إلا عبقري رواية، وأضاف أن جوانب من وصف مشاهد الحرب في روايته المُشار إليها تكاد تتماثل مع أسلوب قصة «القنبيط المر» في كثير من فصولها، وهي رواية ثورية بمعنى الكلمة، ومع ذلك فقد وجد في الكثير من وقائعها عناصر تقبل الاندماج في أسلوبه الإبداعي.

«مو يان» جزء — بإبداعه وعبقريته — من مرحلة أدبية تُعرف ﺑ «المعاصرة» (ولو أني أجد من بين الدراسات، تحت يدي، رسالة دكتوراه (بالصينية) غير منشورة، يؤكِّد فيها الباحث الصيني المجتهد خطل الرأي القائل ﺑ «المعاصرة» على نحو مطلق في اصطلاحات النقد الأدبي، «فالمعاصرة فكرة أدبية نقدية تلاحق خطوات الحياة، وليست مجرَّد توصيف جاهز لمرحلة ضمن تاريخ أدبي، فلكلِّ زمنٍ تعريفه المحدَّد والخاص لأدبه المعاصر»، تلك ليست صفة مُطلَقة بل مرهونة، يعني: بخصائص موقعية في زمن معلوم، ولمنطقة ثقافية مُحدَّدة)، ما علينا لو قلنا إن مو يان — بأي معنًى — أحد أبناء جيل له سِماته المشتركة وموقعه وتاريخه، فالفكرة أن الكثير من الدوائر النقدية «غير الناضجة»، بحق، وللغرابة قد رأت في استفادة كاتب صيني من عنصر جمالي عالَمي مجرَّد نقل تام لبضاعة جاهزة ومُعتبَرة، فالذهنية الإبداعية عند مو يان أروع كثيرًا من إيحاءات الفهم حسب هذا التقييم، فإبداعه يملك ملامح وسمات متفرِّدة بشكل واضح، وهو إذ يحاول مثلًا أن يجرِّب تقليد كاتب من أمريكا اللاتينية متأثِّرًا بكتابة «سحرية»، فهو يلجأ — على غير وعي أحيانًا — إلى النهل من مَعِين الحكايات الشعبية، وتبقى «السمة السحرية» بالنسبة له، رغم أي شيء، مفهومًا غريبًا يستوجب الاطلاع الدراسي بهدف التعرُّف والتعريف، لا أكثر. ولمَّا كان عدد من الكتَّاب البارزين ينضوون تحت هذا اللون من الكتابة المتأثرة بمصادر شعبية، فقد حرص مو يان على تأكيد انتمائه لكتلة إبداعية يعرف، تمامًا وبوعي شديد، موقعه ضمن حدودها.

في عالم مو يان الروائي، فإن الخلفية والحدث وفصول الكتابة وطبائع الشخصيات والتعيين الوصفي للبيئة، كل ذلك يتحوَّل إلى سيرورة استجابة عفوية لأحاسيس ذاتية. والفرق بينه وبين باقي الكتاب يتمثَّل في عدم وقوفه طويلًا أمام جذوره الثقافية القديمة يتأملها بلا نهاية، حرصًا على اكتشاف ونشر وتعميم طاقة الحياة المستمدة من الجدود الأقدمين، لذلك فهو يجعل من تاريخ حياة الذين مضوا — منذ زمان بعيد — لحظة بينية تنقضي سريعًا في حاضر مَن يتناولهم السرد، ممَّا يخلق توتُّرًا حادًّا بين الشخصية في القصة والراوي في الحكاية، ومن ثَم فالوعي يمثِّل جسر انتقال، عَبْر الرؤية السحرية، بين الموتى والأحياء، بين الأولاد المعاقين والأبطال الراحلين، فيتخلَّق عالم رابط بين نقيضَين … ومثلًا، ففي رواية «الذرة الرفيعة الحمراء» لا يسعى الكاتب إلى حكاية وقائع الحرب التاريخية، بل يحكي آماله وسط الفراغات البينية التي تخلفها حوارات الفلاحين.

قيل إن لقب «مو يان» يعني الزجر بالصمت، امتثالًا لفضيلة استحسان السكوت في «زمن المتاعب الجاهزة لمَن يتكلَّمون»، وأظن أن الزجر يرجع إلى تلك الفكرة القديمة عن صنَّاع القصة القصيرة بأنهم ثرثارون بما لا يفيد، فالكتابة أوقَع، والرواية أبقى، ولئن كان لقبه — بهذا المعنى — يفيد احتفاءه بكتابة الرواية، فإن أحدًا لم يقُل لنا ماذا يعني اسمه الأصلي … «كوان مو يا»!

ذاك عن الكاتب والأجيال والزمان، ولَمْحة إلى الأدب الصيني الحديث، فماذا عن الترجمة؟
بأمانةٍ أقول إننا — دارسي الثقافة واللغة الصينية من الباحثين العرب — مُقصِّرون في ترجمة الأدب الصيني الحديث، ولن ألتمس غفرانًا من ثنايا التعلَّات. لكني بجدٍّ أُلمح إلى أن الثقافة الصينية وآدابها، بقديمها الباقي وجديدها الطامح، أضخَم وأصعَب من أن يضطلع بترجمة آثارها (قُل الأدبية فقط) عدد لا يتجاوز بضعة الدارسين القريبين من فَهْم اللغة والخصائص الثقافية، حتى لقد أشرتُ، وأعود للتأكيد على أهمية الاعتداد بالترجمات التي تتم عَبْر لغات وسيطة، بل تشجيعها ودعمها كلما أمكن، وإليك مثلًا، وبصدد ما نحن فيه، تلك الإحصائية التي تشير إلى أن مجموع ما صدر في الإنتاج الروائي الصيني المعاصر، منذ نهاية الثورة الثقافية حتى أوائل الفترة الجديدة؛ أي في المدة من ١٩٧٦ إلى ١٩٨٥م بلغ نحو ألف رواية، مقابل ما نُشر طوال زمن الثورة الثقافية ومجموعه نحو ثلاثمائة رواية، في حين كان العدد — منذ تأسيس الجمهورية حتى عام ١٩٥٩م — لا يزيد كثيرًا على اثنتَين وثلاثين رواية. أتظن أن ستة أو سبعة مترجمين، على الأكثر، ممَّن يعرفون لغة الأصل بطول العالَم العربي وعرضه، يقدرون على الوفاء بترجمة أهم خلاصة من هذا الرصيد، مما قد لا يقلُّ عن ثمانين رواية بالتقريب؟ هذا في حين أن عملًا إبداعيًّا واحدًا قد يستغرق سنوات من المترجم الواحد.
أعي ما أقول جيدًا، بالرغم ممَّا هو معهود (ومفهوم) فيما يَعْتوِر النقل عن لغات وسيطة، وهذا واحد من أشهر مُترجمي مو يان في الإنكليزية Howard Goldblat وهو أيضًا، أحد خبراء الدراسات الصينية المرموقين، يجيد الصينية كأهلها بحُكم أنه قضى سنوات من الخدمة العسكرية في تايوان، بالإضافة إلى دراسته الجامعية المتخصِّصة، بل معرفته الشخصية بالكاتب مو يان وصداقته الطويلة له، ومع ذلك فهو عندما يُترجِم رائعته «الذرة الرفيعة الحمراء» إلى الإنكليزية يسمح لنفسه — متذرِّعًا بمفاهيم متداولة حديثًا في نظريات الترجمة المعاصرة — بأن يلحق بالنص المصدر تغييرات تُلائم سياسات نَشْر ومزاج قارئ وشروط مقروئية قائمة في ثقافة المتلقي الأمريكي، دون الاعتداد كثيرًا بما قد يلحق الأصل من تشوُّهات (كذا) حتى إنه حذف كثيرًا ممَّا كان يَرِد من ذكر لألفاظ وتسميات تتعلَّق بالحزب الشيوعي الصيني، متعلِّلًا بضِيق صدر القارئ الأمريكي من ذكر «تلك الأشياء» … ويلجأ في مثال آخَر إلى تعديل سِن إحدى الفتيات، من الشخصيات الرئيسية في الرواية، إلى خمسة عشر عامًا بدلًا من ثلاثة عشر، بزعم أنه قد حسب عمرها بالنسبة إلى عمر ابنتها، طبقًا لما ورد في النص الأصلي، فوجد أنه من الأوفق تعديل السن تصحيحًا لسقطة حسابية وقع فيها الكاتب الصيني، تجعل الأم حاملًا في سن أصغر كثيرًا من المعقول (!)

لست بالأساس أو بالتخصُّص دارسًا للأدب الصيني (أو أي أدب آخَر … معذرة!)، فلست إلا باحثًا لغويًّا، أحاول التخصُّص في مجال التراث الصيني القديم، ولم يكُن لي أن أخوض بقلمي في مجالٍ لا أملك فَهْم قواعده ومنهاجه وخصائص موضوعاته، فأعتذر لقارئي في ترجمات التراث الصيني، وأرجو أن يتفضَّل متسامحًا كريمًا بتقدير ظَرف لم يكُن فيه ثمَّة مفر من ضرورة التعريف بكاتب، كان حتى وقت قريب غير معروف حتى لمعظم قرَّائه الصينيين، على أن أعود لاحقًا إلى مواصلة ترجمة المصادر التراثية الأساسية في الحضارة الصينية.

وعلى كلِّ حال، فقد اخترتُ أن أقدِّم للقارئ، في اللغة العربية، ومن بين الأعمال الروائية لمو يان، رواية «الثور». ولأسباب كثيرة كانت هذه الرواية تفرض نفسها في ظروف كانت تتطلَّب تقديم مو يان إلى القارئ العربي، من لغة المصدر مباشرة، وفي توقيت معاصر أو تالٍ مباشرة لحصول الكاتب على نوبل في الأدب لعام ٢٠١٢م، ومن ثَم كان هذا النص الروائي أقرب الأعمال الإبداعية تلبية لهذا التصوُّر، هذا فضلًا عن أنه نموذج سردي ينسجم تمامًا مع خصائص الكتابة كما عرفناها في معظم إبداعات جيل «الفترة الجديدة»، ولو أن جانبًا من سِمات «أدب الجراح» يتجلَّى بوضوح في ذلك التنديد الصارخ بأجواء المحنة العاصفة التي هزَّت المجتمع الصيني في ظِل الثورة الثقافية. (وهنا، فربما كان من الضروري الإشارة إلى أنَّ تقييمًا عادلًا لآثار «الثورة الثقافية الكبرى» التي شهدتها الصين، منذ منتصف الستينيات حتى منتصف السبعينيات، سيبقى رهن المستقبل لفترة طويلة، فلم يكُن هناك — حتى الآن — إلا وجهات نظر، وأحكام مبتسرة، ومواقف مُطلَقة تمتثل لضرورات عملية تراها الصين مُحقِّقة لآمالها في التطوُّر، لكن، وبرغم التقييم السلبي المعهود لآثار الثورة الثقافية، فقد كانت تلك الثورة، في زمانها، أملًا يصبو إلى التحوُّل من المرحلة الاشتراكية إلى الشيوعية، في محاولة لتقليل فَجْوة التفاوتات، بين حجم الإمكانات السياسية والاقتصادية والثقافية، باعتبارها تناقضات تستوجب الحلَّ الحاسم عَبْر الحملات السياسية والنضال الشاق؛ لتمكين الجماهير من السيطرة على مقدرات حياتها، وربما كانت تلك الفترة، برغم كلِّ ما يُشاع، هي التي أتاحت ظروف تحوُّل ثوري أشبه بالمعجزات، فقد تحقَّقَت للمرأة الصينية مكانتها باعتبارها «نصف الأرض والسماء»، بعد عهود من العبودية، وأُتيح لملايين الفلاحين الفقراء الالتحاق بمراحل التعليم فوق المتوسط والجامعي … إلخ.) لكن الروائي يكتب هنا تاريخًا نفسيًّا لمحنة قرويين يضطرون إلى التجوُّل طَوال النهار والليل بثور أُجريت له عملية إخصاء، تحت ضغط موارد شحيحة لا تكفي لتلبية احتياجات مزارع المواشي، وتتفاقم الأوضاع سوءًا مع إصابة الثور بمرض مُعدٍ، حتى تطال المحنة عددًا هائلًا من القرويين في ذروة المشهد القصصي، فالنص يصوِّر أجواء محنة، في وقت شهد ندرة موارد العيش، لكن مورد الكتابة لم ينقطع، وبقيت الكلمة أهم عنصر في تسجيل أسطورة البقاء. وكان مو يان قد أشار، عرَضًا، إلى هذا النص في ثنايا حديثه أمام الأكاديمية السويدية خلال حفل استلام الجائزة؛ حيث قال: «كنت أفهم ما اعترى والدتي من قلق وهواجس، لأن صبيًّا تعوَّد الثرثرة مثلي سيُصبح سببًا لجلب المتاعب والمضايقات، ليس على نفسه فقط وإنما على أفراد عائلته في القرية أيضًا، ومن ثَم كانت خلفية السرد في رواية «الثور» تشتق تصوُّراتها من فكرة ما سيقع على رأس الولد من مصائب جمَّة، بسبب ميله إلى الفضول وانفراط اللسان. وكم نصحتني أمي بالتعقُّل والتزام الصمت، لكنَّ أقداري كانت تسير بي عكس أمانيها، وذلك لِما جُبلتُ عليه من شغف بهذر القول وتضلع في المماراة واللجاج، وبلا شك فقد كان ذلك مكمن خطر، ولو أن شيئًا من المقدرة على الحكي كان يُدخل السعادة إلى قلب أمه، فمن هنا تشكَّل إحساسه بالتناقض والحيرة.»

من واقع تجربة عاشها مو يان، كتب فصول «الثور»، ومن خيال مُشبَع بتقاليد الحكي العجائبي في تراث القصِّ الصيني، كان الولد «روهان» في الرواية، يحاور الثيران ويتعاطف مع مأساتها، مندِّدًا بهمجية المسئولين، وعبث الظروف التي فرضت على جيل بأكمله أن يبقى ساهرًا طَوال مسيرة شاقة، مواصلًا الليل بالنهار، وهو يحرس ثمارًا معطوبة … لكنه (مو يان يعني) يقتحم إسار الصمت ويُثرثر طويلًا، ويقتحم حدودًا كانت مفروضة عليه قسرًا (هكذا يتصوَّر!) في مواجهة جمع حاشد يضيق ذرعًا بكلماته وعفوية تعليقاته الصبيانية التي تنكأ مواطن جرح عميق، وتُلمح إلى بواطن مأساة وملابسات جرائم كاملة، ولو أنها لا تشير جهارًا إلى رءوس منسر، ولا تمنح الطيبين شهادة عرفان، وإنما تتوسَّل بالسرد في تلمُّس مفاصل وقائع عبثية، لتكتب تاريخ بقاء لمَن وقفوا دون عتبات التدوين الرسمي، ولو أنهم كانوا من صنَّاع التاريخ، في حقبة ما.

أما عن الكاتب، مو يان، فلم يكُن من حظي أن أتعرَّف إليه عن قرب، إلا بشكل عابر جدًّا ولدقائق قليلة. كان ذلك أثناء المؤتمر الدولي الثاني للمترجمين الأجانب وخبراء الثقافة الصينية، وقد سعدتُ بحضوره، بناءً على دعوة من اتحاد كتَّاب الصين، في الثلث الأخير من أغسطس ٢٠١٢م ببكين، أي قبل حصوله على الجائزة بنحو الشهرين، ولا أذكر من تفاصيل اللقاء إلا أنه كان يؤكِّد على أهمية تكثيف جهود الترجمة الأدبية عن الصينية إلى منطقتَين تُعانيان نقصًا حادًّا في التعريف بالأدب الصيني: المنطقة العربية، وأمريكا اللاتينية، وذلك في كلمة ألقاها بوصفه نائب رئيس اتحاد الكتَّاب. ولا شك أن مو يان يُعتبر أحد أهم كتاب الرواية الصينية في ساحة الإبداع الصيني، منذ منتصف التسعينيات، وحصوله على الجائزة جاء متأخرًا جدًّا، ولأسباب تبعد كثيرًا عمَّا يُشاع من مواءمات تتلوَّن بانحيازات سياسية أو فكرية ما، ومن بين هذه الأسباب افتقاد خبرة التقييم المؤهلة بمعرفة وثيقة باللغة الصينية وآدابها، ولولا انضمام واحد مثل «مايوران» — بخبرته وثقله ومعرفته وتاريخه في شئون الثقافة الصينية — إلى لجنة التحكيم في الأكاديمية السويدية، لبقيت الجائزة في وادٍ بعيد عن تقدير قيمة الكتابة الروائية في الأدب الصيني.

صحيح أني لم أتعرَّف إلى مو يان عن قرب، لكني عرفت وقابلت آخَرين أظنهم يقفون على أرض إبداع روائي بقدم راسخة وعود أصلَب، كان هناك آخَرون يمثِّلون علامات مرموقة في الرواية: ليو جنوين، شيو كون، تيه نينيغ (الكاتبة، رئيسة اتحاد الكتَّاب) و«يو هوا» صديقنا الروائي المبدع، الذي صادف أول أيام زيارته للقاهرة وقوع أحداث ثورة يناير ٢٠١١م، فعاد إلى بكين وقد نسي حقائبه في فنادق القاهرة المشتعلة تحت الغضب! وفي أجيال الكتابة الروائية المعاصرة، ثمَّة كثيرون أسهموا في إبداع علامات فارقة في الرواية الصينية، كلهم من أجيال الفترة الجديدة التي تحرَّرت من أثقال الأمس (… لتعود إلى ما قبل أمس!) فلنقُل إذَن، تواصل الكتابة من نقطة تربطها بلحظة انعتاق الكتابة من أغلال التقاليد … ساعة أن استشرفت الرواية الصينية آفاق عصر جديد، في مطلع القرن العشرين.

هذا عن الرواية والكاتب والجيل الأدبي، فماذا عن الترجمة؟ ليس ثمَّة ما يُقال هنالك سوى أن هذه الترجمة مجرَّد قراءة، أو قُل إنها شهادة تجربة معايشة ثقافية ونقدية مع نص روائي، لا تغلق الباب دون أية رؤية أخرى، من مصادر ترجمية متعدِّدة، بما فيها النصوص المنقولة عَبْر لغات وسيطة، غير لغة الأصل. وقد درجت المؤسسات والهيئات الترجمية عندنا في العالم العربي على التوصية بعدم تكرار الترجمات، كأن النص المترجم خاتمة مطاف أو لوح أسرار، أو واقعة إلهام صوفي على قلب قطب نوراني، وإنما الترجمة، أي ترجمة، ليست إلا قراءة من زاوية معجمية وثقافية ونقدية، يحدُّها أفق التلقِّي، وتحصرها أهداف وآليات التواصل في فضاء مُحدَّد، وبمفاهيم وتصوُّرات تخضع سلفًا لمقتضيات نشر وحركة سوق، وقابلية قراءة، وتفاعل جمهور، وشروط ساحة نقد، وذهنية مجتمع ثقافي، وخصوصية لحظة تتقاطع مع مناخات اجتماعية-سياسية متباينة في طريقة صياغتها لذائقة عصرها ومجتمعاتها … فلا معدًى من أن تتعدَّد الترجمات ورؤى أصحابها ومعالجاتهم للنصوص في مصادرها المختلفة. فليست هذه الترجمة، التي بين يدي القارئ، إلا مجرَّد معالجة للنص الأدبي المعروف في أصله الصيني بعنوان «الثور»، لم يكُن لمترجمها سوى محاولة النَّقْل عَبْر القراءة الثقافية لأحوال النص وظروف إنتاجه وأفكار كاتبه، لكن النص المترجم، وحسب المفاهيم النظرية الحديثة، لم يكُن ينبغي له أن يقف عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى تقدير مقروئيته وأفق التواصل معه في مناخ ثقافي مغاير وهو المنحى الذي ما كان له أن يثمر شيئًا إلا بفضل كثيرين جدًّا شاركوا في عملية إنتاج هذا النص المُترجم، على النحو الذي يجده القارئ بين يدَيه الآن.

فقد كان للصديق الأستاذ محمد إبراهيم مبروك (القاص والمترجم عن الإسبانية) الفضل في مراجعة النص المترجم، في مسودته الأولى، وإبداء ملاحظات وإضاءات ذات قيمة، ولئن كان المترجم قد استطاع أن يبدِّد بعض الرطانة الصينية عن النص المترجم، فقد كان للأستاذ محمد مبروك الفضل في تخليصه من شوائب رطانة صينية بقيت في ثناياه، تتحدَّى الفصاحة وتتهدَّد سبل البيان الرائق، بل لم يكُن ممكنًا الدفع بالنص المترجم إلى النشر، إلا بفضل الحماس الذي أبدَتْه الأستاذة مريم البنا، الصحفية بالأهرام (ملحق الجمعة) لترجمة هذه الرواية، وذلك في ثنايا تقديرها لقيمة النص الأصلي وتلمُّسها لتشكيلة الخصائص الإنسانية التي تميِّز هذا النمط من الكتابة الأدبية الصينية، وكان الملفت هو ترادف هذا التقدير مع ما ركزت عليه بعض التعليقات الأدبية الصينية، على هذه الرواية بالذات، في سياق التناول النقدي للرواية القصيرة عند مو يان. كما لا يمكن، في هذا السياق، إغفال ما قامت به الأستاذة الدكتورة تشن دونغ يون، المستشار الثقافي بسفارة الصين بالقاهرة، من جهد في سبيل توفير مادة النص في لغته الأصلية، ومرفقاته من المصادر البحثية والكتابات النقدية التي استقيت منها موضوع الكتابة في هذه المقدمة، خصوصًا في وقتٍ لم تكُن مكتبات القسم العلمي في كليتنا تتوافر على نصوص أدبية ﻟ «مو يان»، في مصادرها الأصلية. ولا بد أن أذكر هنا، بكل العرفان، ما قام به السيد ليو شي بينغ، المدير التنفيذي بالمركز الثقافي الصيني بالقاهرة، من جهد مشكور في توضيح ما لم أستطِع إدراكه من سياقات لغوية ثقافية في النص الأصلي، وذلك لاستغراقها في التعبيرات ذات الخصوصية المحلية الصينية، فكان سيادته خير مُعين لي في استقصاء مدلولاتها.

وفي الختام، الذي هو بدء مصائر الكلمات، يبقى لك أنت، سيدي القارئ، الفضل في استنهاض المعنى، فبيدك أعنَّةُ النصوص، وإليك تذهب غاياتها، فابقَ بمجدٍ ما بقيت الكلمة.

محسن فرجاني
القاهرة في نوفمبر ٢٠١٢م
١  Dang dai zhong guo wen xue gai gaun ، «الأدب الصيني المعاصر» (بالصينية)، جانغ تشون وآخَرون، عن Beijing chu ban she، بكين: ١٩٨٦م، ص٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤