١٢

بعد ثلاثة أيام من نفوق الثور، أي في الأول من مايو سنة ألف وتسعمائة وسبعين، وقعَت في الكومونة حادثةٌ مذهلة؛ تسمَّمَ ثلاثمائة فرد إثر تناولهم الطعام، وكانت أعراض التسمم واحدة في كل الحالات: سخونة وقيء مصحوب بإسهال. كان المصابون بالتسمُّم في معظمهم من كوادر الكومونة، وموظفي الحكومة وذويهم، ممَّن تُصرَف لهم حصص أغذية من مخازن الحبوب العامة، وقد أثار الحادث في أول الأمر لجنة المحافظة، ثم امتد أثره ليشمل اللجان الحزبية على مستوى القطاعات، بل قيل إن الخبر بلغت أصداؤه اللجنة المركزية نفسها، وأسرعت مستشفيات المحافظة بإرسال سيارات إسعاف، فيما جاءنا أطباء القطاعات بالقطار، أما اللجنة المركزية فلم ترسل أطباء، بل أرسلت طائرة هليكوبتر مليئة بالأدوية وإسعافات حالات الطوارئ، ولمَّا كان من الصعب على عيادات الكومونات الصغيرة أن تتسع لعدد المصابين المتزايد، فقد صدر قرار بتعطيل الدراسة في المدارس الإعدادية، لكي تُضَم المناضد إلى بعضها البعض، فيتخذ منها المرضى أسِرَّة مؤقتة، خاصة، وقد تحوَّلَت الفصول نفسها إلى عنابر تمريض، وتصادف في تلك الأيام أن كانت الوحدة رقم ٦٠٣٧ التابعة لجيش التحرير تقوم بتدريب ميداني بالقرب من منطقتنا، فاشترك أطباؤها، بكامل أطقمهم، في عمليات الإنقاذ، وقد شهد كثيرٌ من المرضى بأن مستوى المهارة الطبية لدى أطباء جيش التحرير كان الأرفَع بامتياز، وأن طاقم التمريض بقوامه من الممرضات الشابات كان يجيد تمامًا كيفية وَخْز الإبر من المحاولة الأولى، دون حاجة إلى عمليات تنقيب في سواعد المرضى بحثًا عن أوردة مخبوءة، ذلك أنك كنت تسلم ذراعك لأطبائنا في عيادات الكومونة، فيوخزون إبرة الحقن في ساعدك كمحاولة أولى لا ينتج عنها انبثاق الدم، فيوخزونها ثانية، ثم لا ينبثق الدم ثانية، فوخزة أخرى، وأخرى … وأخريات حتى تصبح ذراعك شلَّال دماء، ويسيل العرق مدرارًا من الجباه، وتظلُّ عملية الوخز جارية حتى تُصادف القطة العمياء فأرها الميت!

لم يكُن يخطر بمخيلتنا، في ذلك الوقت أن يكون التسمُّم ناتجًا عن تناول الطعام، فمنذ أن قام أسلافنا، في بدء الزمان، بتمهيد الأرض وتأمُّل السماء، مرورًا بعصور الأباطرة الثلاثة والملوك الخمسة … أي منذ أزمان سحيقة وعصور غابرة، لم نسمع قطُّ بأن الطعام يُمكن أن يُصيب المرء بالتسمُّم، وهكذا، فقد قامت لجنة الكومونة برفع تقريرها إلى اللجنة الثورية بالمحافظة، تتهم فيه الطبقات المعادية بتسميم آبار المياه أو تسميم الدقيق نفسه. وغالبًا، فقد كان هذا هو التقرير نفسه الذي خاطبت به لجنة المحافظة المسئولين في لجنة القطاع، والموضوع من أوله، أي: منذ بدايته الأولى، كان محاطًا بالغموض مثيرًا للتساؤلات، ومن ثَم فقد انصبَّت جهود القادة على نقطتين بالترتيب: أولاهما قضية خاسرة، وثانيتهما تتعلق بجهود الإنقاذ. وحسب التحليلات التي توصَّلنا إليها وقتئذٍ، فقد جرى الافتراض بأن القائم بتسريب السم إلى الأطعمة لا يخرج عن أحد احتمالين، إما عميل مُوفَد من قِبَل الكومينتانغ في تايوان، وإما عنصر مُعادٍ للطبقات مُندَس وسط الجماهير. وأُبلِغ مقر قيادة الطوارئ المشكَّل عقب تفاقُم الحالات بأنه تم العثور ليلًا على ثلاث طلقات إشارة، كما جاء بلاغ من أحد الأشخاص باكتشاف محطة لاسلكية معادية، وكان أعضاء قيادة الطوارئ كلهم من مسئولي المحافظة، بالإضافة إلى عدد من قيادات الكومونات الأخرى، ولم تتمكن قيادة الكومونة عندنا من متابعة الموقف، لأن أعضاءها جميعًا كانوا من بين المصابين بالتسمُّم الحاد. وظلَّت مكبرات الصوت تذيع البيانات بغير انقطاع، في محاولة لرفع درجة الانتباه القصوى لدى الطبقات الفلاحية الفقيرة وتحت المتوسطة، درءًا لأية أنشطة تخريبية معادية، حتى إن كل الكومونات قامت بالتحفُّظ على ما سُمِّي ﺑ «العناصر الأربعة» (ملَّاك الأراضي، الفلاحون الميسورون، الثورة المضادة، المتهمون بالفساد) وراحت تراقبهم حتى في تردُّدهم على دورات المياه، وشاعت طوابير التفتيش والتحقُّق من الهُوية، والتحقيق مع العناصر الأربعة لاستخلاص الاعترافات، وكان التعدِّي بالضرب يسحق أجساد ضحاياه أشلاءً في بقاع، وصرخات في ضمير. وسرعان ما تم التنسيق مع وحدات جيش التحرير لإحكام السيطرة حول منافذ الوصول إلى الكومونات، فتقرَّر تعيين حراسات مُشدَّدة على مداخل الطرق الرئيسية، حيث تولَّى الحراسةَ في بعضها أبطالُ حرب مشهود لهم بالشجاعة، بينما تناوبتها دوريات للدراجات البخارية الليلية. وحدث أن توغلت إحدى هذه الدوريات الليلية الراكبة إلى منطقة بعيدة في قريتنا، فكان الفلاحون البسطاء يقفون قبالتها فاغِري الأفواه، إذ لم يسبق في حياتهم أن شاهدوا بأعينهم أشياء تمرق سريعًا على عجلات، يرونها في البعد أضواءً قادمة، وقبل أن يتحققوا من شكلها تكون الأضواء البعيدة قد تحوَّلَت إلى دمدمات هائلة في آذانهم، ثم تصبح قدَّامهم قبل أن يعرفوا وجهتها، وساعة أن تمرق والعيون شاخصة، تكون قد تخطَّتْهم بمسافات، فيتبعونها وقد ولَّت الأدبار، تتواثب فوق أطراف الدخان، أشباحًا تُزمجر تحت هدأة ليل.

دام العذاب أيامًا، فلا عملاء سقطوا، ولا أعداء ظهروا للعيان، وكان معظم المرضى قد تعافوا وعادوا إلى ذويهم، وأخيرًا جدًّا، وبفضل جهود قسم مكافحة الأوبئة التابع للإدارة الصحية بالقطاع أمكن التوصُّل إلى نوع الغذاء الذي تسبَّب في إصابة ثلاثمائة فرد بالتسمم: وجبة كاملة من لحم شوانجين! قالوا إن لحم ثورنا المخصي شوانجين ومعدته، كانا يحتويان على بكتيريا «السلمونيلا» وهي: نوع من البكتيريا المُسبِّبة للتسمُّم، وتبقى محتفظة بحيويتها تتقافز وتتنطط، حتى وهي تحت الثلاثة آلاف درجة مئوية، وإذا ما تعرَّضَت للغليان في قِدر الطهي، فيُمكنها التمتع بصحة وعافية تامة مدة ثلاث سنوات، لا يفنيها الموت، فيطول بقاؤها، والقِدر يغلي والنار متقدة.

بعد العثور على السبب، «بكتيريا السلمونيلا»، أصبحت قضية الصراع الطبقي تنحصر في ملابسات حادث إهمال جسيم للمسئولية، حيث وفدَ إلى قريتنا اثنان من أعضاء فريق التحقيق في حادث التسمُّم، الذي تم تشكيله من جانب اللجنة الثورية بالكومونة الشعبية، وتم استدعاؤنا: أنا، والعم دو، والعم ماليان، للمثول في مكتب التحقيقات التابع لفرق الإنتاج. وجرَت وقائع التحقيق: واحد يوجِّه الأسئلة، والثاني يقوم بالتدوين. لم يكُن لي أن أفتح فمي بكلمة حتى لو ذبحوني ذبحًا، فلما حُوصرِتُ بالأسئلة انفجرتُ باكيًا، وإذ جاء الدور على العم دو فقد تشوَّشَت كلماته، وتقطَّعَت عباراته، وادَّعى البلاهة. وبقي على العم ماليان أن يُفصح عن كل شيء، فقرَّر في مبتدأ كلامه أن الرفيق لاو تونغ تعمَّدَ وهو يُجري العملية للثور شوانجين أن يقطع أحد الشرايين الرئيسية، وأضاف إلى ذلك قوله: إن المذكور تباطأ في حقن الثور، إذ قد بيَّتَ النية سلفًا مع المدعو «سون»، ويعمل مديرًا عامًّا بالكومونة، على التواطؤ على إتلاف صحة الثور بما يؤدِّي إلى نفوقه، وذلك لما قد عقدا عليه العزم من الاستيلاء على لحمه والْتِهامه خلال احتفالات الأول من مايو، لكن عين السماء الساهرة كانت لهما بالمرصاد. هكذا قال العم ماليان في أقواله.

لم نعرف بالضبط ما الذي أبلغه المحقِّقان للجهات المسئولة، إلا أن النتائج التي أسفرت عنها التحقيقات لمسناها ورأيناها رأي العين.

وقعت المسئولية كاملة على رابع أصهار العم دو … «سونغو لوين»، كبير الجزَّارين بمسلخ الكومونة لمخالفته الأوامر الصريحة الصادرة إليه من السيد المدير «سون»؛ إذ قام ببيع اللحم الموبوء إلى قيادات الكومونة وموظفيها مما تسبَّب في وقوع الحادث المؤسف، وبالرغم من أن المتهم نفسه قد أُصيب كغيره بالتسمُّم إثر تناوله لحم الثور، بل كان نصيبه من الإصابة فادحًا، فقد تقرَّر توقيع العقوبة عليه بالفصل من وظيفته كرئيس للقصابين، وإخضاعه للمراقبة الحزبية مدة سنة من تاريخه.

وبفضل الأنوار المجيدة الباهرة لأفكار الرئيس «ماو تسي تونغ» الظافرة، واعترافًا بالمساندة الإيثارية التي قدَّمَها جيش التحرير الشعبي، وتحت القيادة السديدة لكل لجان الكومونة الثورية على مستوى القطاع والإقليم والمحافظة، وفي ظِل الجهود المشتركة من جانب كل العاملين بالهيئات الطبية، لم ينجم حادث التسمُّم الذي طال ثلاثمائة وثمانية مصابين إلا عن وفاة فرد واحد فقط (مات مريضًا بالقلب)، ومن ثَم فقد تحقَّق الانتصار العظيم ﻟ «الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى»؛ إذ لو وقع مثل هذا الحادث في المجتمع البائد البغيض لَمَا بقيَ حيٌّ يُرزَق من بين المصابين جميعًا، ثم إن موت فرد واحد من بيننا في الحقيقة لا يعني أن أحدًا مات بالمرة، وهو على كل حال قد مات مريضًا بالقلب، وهذه ميتة قضاء القدر.

والمُتوفى مريض بالقلب، أي الميت بحكم قضاء القدر، هو الصهر الرابع من أصهار العم دو، الجزار بمطعم ومسلخ الكومونة، المدعو: «سونغو لوين».

اجتمعت كلمة الفلاحين في القرية على أن المذكور، في الواقع، وبشهادة حق، تُوفِّي مُتخمًا بوجبة عامرة من لحم ثور.

انتهت الترجمة في يناير ٢٠١٣م
محسن فرجاني

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤