٨

سحبنا شوانجين، ومشينا في طريق الكومونة.

على ظهري حملت صرَّة فيها أرغفة خبز الأذرة، وحزمة بصل أخضر، وقليل من الصلصة، على سبيل التزود بالمؤن لطريق السفر، فكانت هذه المئونة نوعًا من المكافأة لي، لأني أخذت على عاتقي مشقة الطريق، وإلا ما كنت أكلت في بيتنا لو أني تقاعست عن المهمَّة، سوى البطاطس التي ضرب فيها العفن أطنابه. وكان العم دو يحمل على ظهره شنطة كتب من الخيش الأصفر، وقد طُرِّزت على واجهتها حروف باللون الأحمر، على نحو ما كان شائعًا في أشكال الحقائب المستوردة، وحسب الظروف التي كانت سائدة وقتئذٍ، فلم يكن يحمل مثل هذه الحقائب إلا المتعلمون والمثقفون، وكم تمنيت أن تكون عندي واحدة مثلها، لكني عرفت أنِّي لن أحقق بغيتي إلا في الأحلام، لكن العم دو عنده واحدة يختال بها وهو ماشٍ في المقدِّمة، عند رأس الثور … إحدى تلك الحقائب التي لا يحمل مثلها إلا النابهون، وقد بدا لي وقتها أنه صار أكثر حيوية وأوفر نشاطًا، منذ أن حمل تلك الحقيبة. كنت كما أسلفت أمشي خلف الثور، وعلى ظهري صرَّة قديمة متهالكة، وبيدي مروحة مهترئة أذبُّ بها الهوام والذباب المحتشد بين فخذي شوانجين، وكلما روَّحت على الجرح طار الذُّباب وتفرَّق في الهواء، ووقتها كنت أستطيع ملاحظة الموضع المصاب، فكان منظره يبدو لي أقرب ما يكون إلى كتلة هلامية بلا ملامح مميَّزة، فإذا ما توقفت عن التَّهوية ولو لثانية واحدة، عادت جحافل الحشرات الطائرة لتهاجم القيح المتدلِّي من بطن العجل؛ حيث كنت أدقِّق النظر، تلك اللحظة، فلا أرى سوى كتلة من الذباب ملتفَّة حوله.

المهم أننا خرجنا من القرية، فعبرنا الجسر وأقبلنا على الطريق الرئيسي المرصوف بالحجارة، ومشينا … وإن كان من قبيل المبالغة القول بأننا «مشينا»، هكذا، كما يتصور المرء في حركة المشي الطبيعية، لأننا في الواقع كنا نحبو أو نتمدَّد كما تتمدَّد الديدان واليرقات، ليس لأنَّنا آثرنا البطء بل لأن شوانجين كان هو الذي يتثاقل في مشيه، وكأنه يحبو، كنا نحثُّه على المشي فينوء بخطواته، ذلك أنه لم يكن يقدر حتى على مجرَّد الوقوف مكانه، وقد مرَّت عليه ثلاثة أيام وهو قائم على أربع، لم ينَم أثناءها على جنب، مما أفقدَه الوعي بما حوله، فكانت تنتابه نوبات إغفاءٍ من وقتٍ لآخر، ولو أنه بقي محتفظًا بشيء من الصبر والاحتمال، حتى ظننت أن لو كان أحدُنا مكانه، لَقضى نَحبَه منذ وقت بعيد، إن لم يكُن من الإرهاق المتواصل، فمن مكابدة سعار جرح لا يلتئم، وقلت إن الواحد منا يعجز بجد عن أن يقوم مقام ثور، فأنا مثلًا لو كنت مكان شوانجين لرقدتُ على الأرض منذ وقت مبكِّر، وليكُن ما يكون، سيَّان عندي أن أعيش أو أموت، لكن شوانجين كان أمره مختلفًا.

بقينا نمشي أنا والعم دو، أحدنا قدَّامَ الثور يسحبه إلى الأمام، والآخر يمشي وراءه يستحثُّه على المُضِي قدمًا … يمشي خلفه يدفعه فيندفع، يسوقه فينساق، خطوة وراء خطوة وراء خطوة، وكل خطوة أثقل من سابقتها.

وقت الضُّحى، بلغنا عين ماء صافية، اشتهرت بمياهها الحلوة في هذا الموضع من الطريق؛ حيث كنا نبعد عن القرية بنحو ستة أميال، وهنالك قال لي العم دو: «نحن مشينا بسرعة معقولة، ولم نبطئ، فلو واصلنا بهذه الخطوة فسوف نصل إلى المحطة البيطرية في منتصف هذه الليلة.»

قلت: «ويمكننا أن نمضي بخطًى أسرع لو أحببتَ، أنا أحيانًا أصل إلى الكومونة في خلال نصف الساعة، جريًا بأقصى سرعة، لمشاهدة عروض السينما.»

قال العم دو: «لا، سرعتنا معقولة حتى الآن، ولا داعي لأن نرهق أنفسنا … اجلس معي نرتاح قليلًا، ونأكل.»

ربطنا شوانجين في فرع شجرة قريبة من البئر، وجلست أفكُّ الصُّرَّة، كما راح العمُّ دو يفرغ حقيبته أمامه، فأخرجَ منها رغيفًا من خبز الأذرة، وكنت قد أخرجت من لفافتي خبز الأذرة أيضًا، ثم مددتُ يدي ثانيةً، وأخرجت حزمةَ بصل أخضر، فوضعتُها أمامي، فلم يلبثْ هو أن أخرج حزمة أخرى مثلها، من عنده، ومثلما أخرجت من صرَّتي زجاجة صلصة، التقطَ هو الآخر من حقيبته زجاجة مليئة بالصلصة، فكان غذاؤنا من صنف واحد، وإذ انتهينا من الطعام، أخرج العمُّ من حقيبته زجاجة مربوطة من عنقها بحبل رفيع، فأدلاها في البئر بطيئًا، أول الأمر، وراح يؤرجح الحبل يمنة ويسرة، وهو يُدلي بها مترفِّقًا، ثم أسقط لفافة الحبل مرة واحدة، لتستقرَّ الزجاجة في العمق البعيد، فصار الماء يتدفَّق داخلها ويبقبق حتى امتلأت عن آخرها، فسحبها إلى أعلى، وهنالك قلت له: «أنت حقًّا رجل ذكي وعقلك نابِه جدًّا، يا عم دو، ولك في كل مسألة أفكار، وطرائق شتى.»

ردَّ عليَّ: «لو كانوا اختاروني رئيسًا للوحدة الإنتاجية، لكنتُ أفضل من الذي اسمُه ماليان هذا.»

قلت: «إذا كانوا لم يعرفوا قدرك في الوحدة الإنتاجية الريفية، فعلى الأقل يرشِّحونك للعمل في مكتب الأمين المساعد.»

قال: «لا … أين أنا من هذا؟! يا بني، يجب أن تعرف أن الأمين المساعد في الوحدة الإنتاجية ينطح النجومَ برأسه، هذا المنصب لا يمكن أن يشغلَه بسطاء الناس من أمثالي.»

قلت له: «ما ظنك، يا عمِّ دو، لو كان أبي هو الأمين المساعد في الكومونة، أما كنت أصبح في حال غير الحال؟»

«يعني أنت، بوضعك ومنظرك هذا، كنت تريد لأبيك أن يكون أمينًا مساعدًا؟» أخرجَ الزجاجةَ وناولها لي، مواصلًا كلامه: «لا بأس … هذا هو ما كان ينقصك … ليتك تُفيق من الأحلام، إليك الماء البارد، من قاع البئر … اشرب، واستعد للمشوار.»

شربت الزجاجة، وبقي بطني يقرقر.

أسقط العم دو بالزجاجة في القاع ثانيةً، ثمَّ رفعها وسقى الثور منها، فلفظ الماءَ حتى سال من جانب شدقه.

«لا بد أن نسقيه بأية وسيلة» قال دو «وإلا مات عطشًا، إن لم يمُت بسبب ما هو فيه أصلًا.»

ملأ الزجاجة وسحبها مرة أخرى، وأمرني أن أرفع رأس الثور حتى يصبح شدقاه مفتوحين لأعلى، ثمَّ أفرغ الزجاجة في جوفه، فسمعتُ صوت الماء ينساب منسربًا إلى باطنه، فتهلَّل العم دو، وقال: «نعم هكذا عظيم جدًّا، أخيرًا سقيناه ليرطِّب جوفه، فيبقى حيًّا، ولا ينفق من ظمأ.»

قمنا من تحت الظِّلال، فعدنا سيرتنا الأولى فوق طريق مفروش بالحصى. مشينا وشمس الظهيرة في أوائل الصيف لظًى في فرن محميٍّ، وصفحة الطريق كحريق ينعكس في العين قذًى، وفي الوجه لفحُ هجيرٍ، فتأذيت من القيظ، وقلت نرتاح قليلًا، وفي الوقت متَّسع، ولا بأس أن نبقى حتى تميل الشمس ثمَّ نواصل المشوار، فاحتج العم دو بأن المزيد من الراحة مدعاة للكسل، وسقوط الهمة، بل أضاف إن حَر القيظ، بوقدة سخونة وقت الظهيرة، ترياق للسموم، وتطهير للجروح، والأهم من هذا كله قال لي: إن الثور شملته البرودة الشديدة … انظر كيف صار يرتعش وقد ضربت الرجفة مفاصله! ولم أملك مناقشة العم دو في كلامه هذا، بحكم خبرته الطويلة في الحياة، وتمنيت لو استطعنا الوصول إلى الوحدة البيطرية في أسرع وقت ممكن؛ رغبةً مني في أن نسعف شوانجين في الوقت المناسب، وليس ورائي في هذا سوى الدافع الذي يصدر عن القلب الطيب … قلبي أنا، قلب الولد الملآن طيبة.

انتزعت شيئًا من الحشائش والحلفاء النابتة على جانبَي الطريق، فصنعت منها غطاءً يحمي رأسي من وَقدة الشمس، لكن رأس الرجل الأصلع الماشي قدَّامي كان مسفوحًا بالعَرَق، فنزعتُ عن رأسي الغطاء وناولته له، فأخذه وهو يقول لي: «ها أنت ذا، يذكو عقلُك مع الوقت، ليت الشَّباب من أمثالكم يعقلون الكثير من أمور الحياة بقلب كبير، وضمير صاحٍ.» كانت كلمة طيبة قالها العم دو، أهاجت مشاعر الودِّ في أعماقي، فقلت: «أتعرف يا عمي أنَّك تشبهُ كثيرًا أبطال الجيش الثامن؟!» تنهَّد عميقًا وقال: «ليت للمرء معرفة بما سيصير إليه الحال في مستقبل الأيام، لو كنت أعرف ما تأتي به الأيام، لسارعت بالانضمام إلى قوات الجيش الثامن، مهما حدث.» سألته: «ترى، إذَن، ما الذي منعك من الانضمام إليه؟» أجاب قائلًا: «سأقول لك بكلام صريح بكل صراحة، مهما كان الكلام جارحًا، نحن وقتها لم نكُن نرى في الجيش الثامن؛ جيش الثورة، أي أمل، وحسبناه عاجزًا عن أن يفلح في أي شيء. كان الجيش يبدو فقيرًا في مظهره وملابسه وطعامه، وحتى أسلحته، لم يكن عنده سوى بنادق قديمة صدِئة … عدة بنادق خائبة، وربما لم يكن فيها رصاص، لأن التَّسليح كان ضعيفًا … ضعيفًا جدًّا، كل واحد يعطونه رصاصتين اثنتين، لا أكثر، ولهذا كانوا يعتمدون في المعارك على القنابل أكثر من البنادق، وكانت هي أيضًا قنابل خائبة … رديئة الصنع، كنت تجد من بين كل عشر قنابل، خمسًا فقط تصلح للاستخدام، في حين كانت قوَّات جيش النظام الحاكم تختلف كثيرًا، في كل شيء، فمثلًا كان أفرادها يلبسون زيًّا موحدًا من الصوف الفاخر، ويستعملون رشاشات «تومي» الأمريكية ورصاص بنادقهم على نظام واحد، فكنت تجد الرصاصة لون رأسها أحمر والكعب أخضر والمدافع آلية … تطلق دفعات من الرصاص المتتابع … وصوت الطلقات مُدوٍّ، يتردَّد ملء الجو، حتى تضطر أن تسد أذنيك من شدَّته، والقنابل اليدوية شكلها كالبطيخ الصغير، وإذا ما انفجرت سمعتَ لها فرقعة ترجُّ الأرض والسماء، وكان عند الجيش النظامي أيضًا مدافع على عجلات، تجرُّه عربات جيش كبيرة، ومدى قذف طلقاتها يبلغ الخمسين ميلًا، وعندما تسقط على المكان تصيبه إصابة كبيرة، بل إنَّها أحيانًا ما تنفجر على الأرض، فتحفرها حفرة واسعة تكاد تبلغ مساحة البحيرة الكبيرة … بل تتحوَّل فعلًا إلى بحيرة ماء لونها أزرق سماوي مثل كل البحيرات العريضة التي تقف على شاطئها من هنا، فلا تصل عينك إلى البر الآخر هناك … الدنيا في ذاك الوقت، يا بني، كانت غير الدنيا الآن، فأنت عندك في وقتنا هذا، الشباب يقف صفوفًا متراصَّة من أجل الالتحاق بالجيش، ويعملون المستحيل، لكي يقيدوا أسماءهم في التجنيد، لكن في الوقت الذي حكيت لك عنه، لم يكن أحد يرغب في الانضمام إلى القوات العسكرية حتى ذاعت بين الناس كلمة ظلُّوا يردِّدونها زمنًا … «الشاب الذكي النابِه لا ينصاعُ للجندية، والمسمار الصلب لا ينحني تحت المطارق الحديدية!» وحتى لو كنت فكرت في الالتحاق بالعسكرية، لما اخترت قوَّات الجيش الثامن، وهي طبعًا كانت قوَّات جيش الثورة في ذلك الوقت، وإنما كنت الْتحقتُ على الفور بقوَّات النظام الحاكم، لأنَّه كان يكفيك فخرًا أن تكونَ ضمن أفراد تلك القوات، خصوصًا أنَّك ستضمنُ الملبس النَّظيف، والغذاء الجيد، وتضمن لنفسك مستقبلًا طيبًا، على عكس الجيش الثامن، الذي لم نكن نتوقع له مستقبلًا بأية حال … وسأقول لك شيئًا، ربما لاتصدِّقه مهما حكيت لك، وتظن أني أكذب عليك، وأنفخ الأبواقَ … نحن كنا حتى سنة ألف وتسعمائة وسبع وأربعين لا نعرف من هو قائد الجيش الثامن هذا، ثم قِيل لنا فيما بعد إن القائد اسمه «تشو ماو»، وأخذوا يقولون لنا في الأخبار التي سمعناها أن «تشو ماو» هذا ليس اسم شخص واحد، بل هو اسمان لشخصين مختلفين … «تشو» اسم رجل، و«ماو» لقب امرأة … هذا هو ما قالوه لنا، دون أن نفهم شيئًا … لكنك إذا سألتني عن أسماء قادة النظام التي كان يردِّدها الناس في ذلك الحين، لقلت لك إن الجميع، يومئذٍ، كانوا يعرفون جيدًا اسم «شيانغ كاي تشيك» … الرئيس شيانغ كاي تشيك …»

قلت: «إذَن كان الأمر هكذا، فلماذا إذَن انهزمت القوات النظامية أمام الجيش الثامن؟»

أجابني العم دو قائلًا: «حسب رأيي، الهزيمة جاءت لأنَّ قوات الجيش الثامن كانت أكثر احتمالًا للمشاق، والظروف القاسية من القوات الأخرى، ثمَّ إن جنوده كانوا متواضعين للغاية، كبيرُهم في الرُّتبة مثل صغيرهم، كلهم متواضعون، لكن أفراد الجيش الآخَر كانوا يتكبرون علينا، والغريب أن الضباط الصِّغار كانوا أكثر تكبُّرًا من الضباط الأعلى رتبة، حتى ظننت أنه كلَّما تدنَّت الرُّتبة تشامخَ الضباط بأنوفهم. أتعرفُ أن أحدهم كان يتخذ من الغرفة الشرقية بمنزلنا القديم مكتبًا له؟ فكان إذا أراد أن يغسل قدمَيه طلبَ من الجُندي المُلحَق بخدمته أن يأتي بالماء إليه، وهو قاعد على الكانغ، في حين كان قائد إحدى الكتائب بالجيش الثامن يقوم بنفسه وينظِّف لنا الحوش بالمكنسة، وفوق هذا، وأهم من كل شيء هو أنهم لم يحاولوا التحرُّش بنسائنا، ليس عن عجز … ليس يعني من قبيل الترفُّع والأَنفَة، لكن من باب الاحترام ومراعاة الأصول. فماذا كان يفعل الجيش النظامي بنا في هذا البند؟ كانوا إذا لمحوا فتاة حلوة ضايَقُوها، وعلى رأسهم كبير ضباطهم … وتقولُ لي لماذا انهزموا؟ طبعًا لكل هذه الأسباب كان لا بد من هزيمتهم.»

قلت له: «فلماذا كنت ترغب في الانضمام إليهم، وأنت تعرف تمامًا أنهم سيجلبون على أنفسهم الهزيمة؟»

«ومَن كان يدري بكل هذه الأشياء وقتها؟ لو كنا اكتشفنا حقيقتهم في ذلك الحين لاخترنا الالتحاق بالجيش الثامن.» وأضاف: «تُرى كيف كان يصير حالي الآن لو انضممت إلى الجيش الثامن، وبقيت فيه، وتحملت قسوة ظروفه؟ أظن أنَّ أقل ما كان يمكن أن أصل إليه هو أن أعمل أمينًا عامًّا للكومونة … أتمتَّع بعيش مُحترَم، بلقمة هانئة، ببيت وأثاث وجلسة أقعد فيها، وأتكئ مرتاح البال، ومَن يدري؟ فربما أيضًا كنت دخلت المعارك، وأصابتني قذيفة من هنا أو هناك، وأُزهِقَت روحي … فالمصائر بيد السماء، وعمر الإنسان له قدره المحدَّد، لا يزيد ولا ينقص عمَّا هو مقدَّر له، بل إن اللقمة التي يأكلها المرء في طبقه، قد سبقَ بها القضاء بيد الأقدار، ولا فائدة من كل تلك الأفكار ووجع الرأس، فمستحيل أن يعاند الإنسان أقدار السماء، ولذلك فأنا راضٍ بما هو مقسوم لي. راضٍ جدًّا، وعلى الأقل فالأحوال سائرة، بخيرها وشرها، معقولة للغاية.»

مرَّ الوقت بنا، بكلمة منه وكلمة مني، نثرثر طويلًا ونتهادى خطوة وراء أخرى، نعرِّج في سيرنا فنجتاز مراحل الطريق ونحن نتكلم حتى تعبنا من كثرة الكلام فسكتنا، وتحت وطأة السكوت ثقلت أجفاني، وطاف النُّعاس برأسي، وإذ تعود بي الذِّكرى إلى تلك اللَّحظات، أرى في المشهد صورة مفعمَة بالشجن، دائرة شمس في عُنفوانها مشرعة فوق رءوسنا، وطريقًا مليئًا بالحصى إلى آخِر المدى، ذاب تحت شعاع الشمس الفائرة، كأنه مسيل ذهبي طافر فوق الأفق، والأطياف مشبعة بصهبة في لون الذهَب، وثمَّة رجل يغطي رأسَه بغطاء من حشائش جافة وحلفاء برية، فوق ظهره انحدرت مخلاته، وهو يضيِّق في وهج الظهيرة حدقتَيه، إحداهما اتَّسعت رغمًا عنه بيد القدر، وقد تدلَّى من فوق كتفه مقود دابته وهو يمطُّ عنقه تحت لفح القيظ، في كل خطوة يشرئبُّ برأسه مثل عمال رأيتهم، ذات مرة يسحبون المراكب بالحبال لدى شاطئ نهر، فكان يمضي والثور من خلفه مربوط إلى المقوَد، وجهُه تجاه رائده ومآقيه مثقلة بدموع، وفي كل حين يحط عليه ذباب طائر، وإلى الوراء قليلًا يبيِّن كتف الثور بعظامه الناتئة، وفي آخر الكتلة المهزولة يتدلَّى الذيل منسحقًا، حيث منظر الجرح تعافه العيون. فلنضرب صفحًا، إذَن، عن رسم المشهد. دع عنك هذه الزَّاوية، وتعالَ أعيِّن لك صورة أخرى لا يجوز إغفالها … صورتي أنا، الولد الدَّميم، زريُّ الهيئة والمُحيَّا، والمشكلة أني لم أكُن أدرك بشاعة منظري، بل كنت أعمد كثيرًا إلى المحاكاة الساخرة، فأقلب سحنتي وأتخذ تعابير هزلية حتى ذهبت أختي الكبرى، يومًا، إلى والدتي وسألتها قائلة: كيف يا أمي، يكون لكِ ولد دميم الخلقة هكذا؟ قُبح منظره يستعصي على الوصف، ويحنق عليه أبرع رسَّام، وكان أن غضبت أمي من كلامها هذا، وقالت لها إن الفأرة في عين أمها حلوة، والقطة عند مَن أنجبتها آية في الجمال، وأنَّ الوصف كان يمكن أن يختلف كثيرًا … «لو كان هذا ولدَكُنَّ ابن بطونِكُنَّ.» ومع هذا، فقد كانت أمي تشتمني وهي غاضبة فترميني بانحطاط خِلقتي، حتى جئتُ حافة بئر فتأملتُ وجهي في صفحة مائها وأنا منبطح فوق حافتها الحجرية، فهالتني ملامحي المتعكِّرة، وعرفت أن للنَّعت مُوجباته. فعندك، مثلًا، تلك النَّاب البارزة، كمثل ناب السبع التي أشارت إليها أختي كثيرًا وهي تقترح عليَّ تسويتها بأية طريقة، فكان أن أمسكت فعلًا بالمبرد، في إحدى نوبات غضبي، واستجمعت شجاعتي وشطفتُه حتى سوَّيتُه بالقواطع المجاورة، وظلَّت اللثة تؤلمني زمنًا، بل كنت أشعر أن رأسي كله يترجرج من الألم، غير أن كل الأوجاع كانت مُحتمَلة إلا تباريح وجه قاحل اللمسات، أجفلت من بشاعته حتى حككت النَّاب البارزة في لحظة طيش بالمبرد الحامي. ولمَّا حكيت هذه الواقعة لبعض أهل قريتنا لم يصدقوني وظنُّوا أني — كعادتي — أهذر بسخافات. كان لي وأنا صغير رأس حليق إلا من بقعة ضئيلة في مقدمته، وقد امتلأ الوجه ببقع القوباء المدوَّرة على هيئة العملة المعدنية. والقوباء في ذلك الزَّمان كانت منتشرة في وجوه الأطفال، وقيل إن علاجها ممكن بالوصفات الشعبية، وذلك بدهان البشرة المصابة بثمار المشمش المنقوعة في الخل، فذهبنا وأحضرنا بعضًا منه وجرَّبناه فلم يأتِ بنتيجة، سواء عندي أو عند الآخرين، الكل حاول وما من فائدة.

مشيت وعلى ظهري صرَّة زرقاء، أرتدي سروالًا فضفاضًا، وبقدمي نعلان كبيران طَويتُ كعبَهما إلى الداخل، وفي يدي مروحة من الخُوص أهوِّي بها بين حين وآخَر على الجرح المتقيح بين فخذَي الثور. الصورة يومئذٍ، كانت مثقلة بوجوه كالحة مغبرَّة، الناس فيها ليسوا أحسَن الناس، والثيران أيضًا لم تكُن أفضل الثيران، وإن كانت لنا ظروفنا الخاصة. وقد أستطيع، إذا سمحتَ لي، أن أرسم صورة للأشجار المتراصة على جانبَي الطريق، وأظن أنها كانت في معظمها من أشجار الحَوْر وقد تخلَّلتها في بعض المواضع أشجار الخوايهوا، وعلى الأفرع القريبة من شجر الحور، تدلَّت خيوط كثيفة للعناكب التي كنا نسمِّيها «دياو سيكوي» (عفاريت المشانق) المشدودة بنسيجها الواهي، معلَّقة في وجه تيَّارات الريح، تتأرجح في دفقاته. على جانبَي الطريق كان القمح في بدء أوانه، يبثُّ عبق المزارع في الأجواء، ويشيع في الصورة عنفوان حياة، وقد تكون الصورة في بعض جوانبها محتشدة بتفاصيل للأمل، لكن جسدي كان كتلة من الإرهاق، اعتصر الصداع رأسي، فغام الطريق أمام عيني، والفم جوف متشقِّق ومرارة علقم، والخُطى — حين أمشي — عثرات قدم منهكة، ومع كل ذلك، فلم يكُن كل ما كابدته من معاناة يساوي شيئًا بجانب محنة الثور، فقد كانت أثقاله أفدح من أن تُذكَر، وإذا كنت أشكُو الصداع لنوم فارقني بضع ساعات، فكيف به وقد حُرم النَّوم أيامًا! عندما أتذكَّر الآن تلك الأحداث، أجد أنَّ فكرة حظر النَّوم على الثيران بعد إخصائها غير معقولة، ذلك أنَّ حرمان الثور من أن يهنأ بقدر من الرَّاحة، خصوصًا بعد عملية استئصال خصيته، يُعد أحدَ أبشع ألوان التعذيب، فالثور قد لاقى من العذاب ما فيه الكفاية أثناء الإخصاء وفقَدَ كمية هائلة من الدَّم، ثمَّ إنَّ الجرح تلوَّث والتهب، بالإضافة إلى تورُّم قوائمه نتيجة الوقوف لفترات طويلة، وقد فسد الدَّم في عروقه وترسَّب في كتلة الجرح المتدلِّية كإناء دائري مقلوب من بين رجليه، فكلُّ شقائي لا يُقارَن بما قاساه الثور، كل متاعبي مجرد ريشة إوزَّة مقابل أثقال معاناته. وهل كان العم دو أحسن حالًا؟ أبدًا، على العكس، فقد كان الرَّجل فوق الثامنة والسِّتين من العمر، وهي سنوات كهولته، لم ترحمه من أن تتراكم عليه، في مشواره هذا، كميَّات من التُّراب وغبار الطريق. كان الرجل إذَن قد طعن في السِّن، حتى أوشك فمه على الخواء إلا من قاطعتيه الأماميتين، وبفضلهما اكتست ملامحه بظلال فتوَّة قديمة، ذلك أن القاطعتين أكسبتا وجهه منظر الأرانب البرية التي تبقى مهما تقدَّم بها العمر، متجدِّدة النشاط والحيوية، فلا تهرم بسهولة. وفي سياق الحوادث، فقد وقع أمر بالِغ الأهمية، بالنسبة لي، وهو أنِّي عثرت على سكين مُلقاة بعرض الطريق وأنا ماشٍ.

هي بالضبط عبارة عن مُدية مثلَّثة الشَّكل ذات مقبض طويل، أشبَه ما تكون بذلك النوع من السكاكين المُستخدَمة في تطعيم الشجر، وكنت قد رأيت مثلها كثيرًا أثناء فترة عملي بمشتل الوحدة الإنتاجية، وتتميز هذه السكاكين برهافة شفرتها، وربما كانت قريبة الشَّبَه، من حيث الشكل، بما كان يستخدمه الرفيق لاو تونغ في إخصاء الثيران، فلمَّا التقطتُها نسيت أوجاع رأسي وقدمي، وأحسست كأن قوة خفية تدفعني إلى أن أدفع شفرة السِّكين الحادَّة، فأقطع بها الجرح المعطوب بين ساقي شوانجين، وكنت قد تأكدت تمامًا بأن الشِّق المتخلف عن عملية الإخصاء قد تقيَّح، بل إني سمعت شوانجين يهتف بي ويرجوني قائلًا: أتوسَّل إليك يا صاحبي أن تتكرَّم عليَّ وتريحني مما أنا فيه من عذاب، بيدك مسرَّتي فلا تضنَّ عليَّ بها! كذا قال لي العجل في توسلاته، فقدَّرتُ أنَّ الأمر ينبغي كتمانه عن العم دو، وإلا فشلت خطتي، وانتهزتُ فرصة عبورنا أحد الكثبان الرملية فقبضت بعزم على السِّكين، دون رعشة يد ولا خفقان قلب رحيم، صوَّبتُ جيدًا، فأغلقت عيني ووخزت في صميم الجرح، وكانت المُدية ماضية إلا أن يدي عادت غارقة بدماء.

بدهشة وفرح، قال لي العم دو: «هكذا يا روهان … أنت عبقري فعلًا، هي مجرد طعنة واحدة قد أراحت الثور، وأراحتنا أيضًا، ترى لو كنت جئت بالسِّكين في مبتدأ الأمر، أما كان الثور قد تعافى وأعفانا من مشوار الكومونة. جميل، جميل جدًّا … وعندما أقابل الرفيق لاو تونغ فسأنصحه بأن يستبقيك عنده مساعدًا، فإنَّ لي معرفةً بهذه الأمور، وعسى أن أنظر إلى الرجل فأعرف أين نفعه، ونظرتي لا تخيب أبدًا.»

اقتطع العم دو فرع شجرة وقصد إلى ما بين ساقَي الثور، وأخذ يدلِّك الشق النازف، فكأن فعلته هذه آلمت الثور، لأنه أراد أن يرفع رِجله الخلفية ويرفسه، لكنها بقيت مجرد إرادة خفية ظهرت مجتزأة ومتقلِّصة جدًّا لهزاله الحاد، وكانت ساقه قد ارتفعت عن الأرض قليلًا ثم تراخت سريعًا، ثمَّ لم يسَعه التَّعبير عن آلامه إلا برعشة اجتاحت جسده كله. وراح العم دو يكلمه بلهجة يبيِّن فيها الإخلاص: «اصبر قليلًا … تحمَّل يا بني … هذا لمصلحتك، صدِّقني.» وبقي الدم الفاسد يسيل من كيس الخصية المشقوق، نقاطًا متتالية، لونها فاتح في أوَّل الأمر ثم اصفرَّ شيئًا فشيئًا وفي النهاية أصبح داكن الحُمرة. فألقى العم بالفرع من يده، وقال: «عظيم، الآن نستطيع القول بأنَّه سيتحسَّن، بالتأكيد!»

سحبناه وواصلنا المشوار، فكانت خطواته أسرع، وراح العم دو يقتطع فرعًا مثمرًا من شجر الخوايهوا ويقرِّبه بأوراقه الغضَّة من فم الثور، فكان يميل إليه ويتشمَّمه، ويُقبل عليه بفمه، لكن دون أن يتناول منه شيئًا، فتأثرت لهذا المشهد وقلت عساه يتحسن، ويبدو أن العمَّ دو تأثَّر مثلي إذ قال: «هذا أفضل على كل حال، فهو قد بدأ يميِّز رائحة الطعام، حالَمَا نصل إلى الكومونة فلن يحتاج إلا لحقنة واحدة، وبعد ثلاثة أيام … ثلاثة أيام على الأكثر، يستعيد شقاوته ويتنطَّط مثل عفريت.»

لما صارت الشمس إلى حمرة الشَّفق، لمحت على البعد شجرة الحور الكبيرة الطَّالعة في حوش الكومونة، ففرحت وقلت: «خلاص، دقيقتان ونكون قد وصلنا.»

قال العم دو: «المثل السائر يقول لك: ما فائدة مشاهدة الساحة وحصانك أعرج، وما قيمة معاينة الجسر وثورك مكدود … أنت أمامك على الأقل خمسة كيلومترات حتى تصل، ومع ذلك، فهذا أحسن مما كنت أتوقعه … الواحد لا بد أن يقول الحقيقة ويذكر الفضل لأصحابه، فالفضل لك ولسكِّينك في تحركنا بهذه السرعة، لكن أيضًا لولا ما فعلتُه أنا بفرع الشجرة من تنظيفٍ للجرح، لَمَا كنَّا وصلنا إلى هذه النتيجة.»

مع كلِّ خطوة على الطريق، كانت الشمس تزداد احمرارًا، وكان عمال محالج القطن على جانبَي الطريق قد خرجوا من وردية العمل وراحوا يمشون على جانبي الطريق، شبانًا وفتيات في ملابسهم المميزة بألوانها الزاهية، يعبق الجو بعطورهم الفوَّاحة، وخصوصًا الفتيات، فقد كان شذا عبيرهنَّ أرقَّ وأحلى من كل عبوَّات العطور الزجاجية الفوَّاحة.

كان العم دو يغمز لي بعينه قائلًا بصوت خفيض: «ولد يا روهان … هل بلغ أنفك عطر الفتيات هؤلاء، وانتشيت برائحتهن؟»

قلت: «نعم انتشيتُ حقًّا.»

قال: «شاب في أوج شبابه مثلك، يجب أن يتخذ لنفسه واحدة من هؤلاء البنات زوجة له.»

قلت: «لن أتزوج، سأعيش حياتي بغير زواج.»

قال العم دو: «هل ستعيش هكذا؟ تنظر إلى المتزوجين وتتحسَّر على نفسك؟ كيف تعيش بدون زواج يا بني؟! إلا إذا كنت ستعمل لنفسك عملية إخصاء … هذا موضوع آخَر.»

فبينما نحن نتكلم في هذا، اقترب منَّا اثنان من الشباب، ولد وبنت، كانا يمشيان على جانب الطريق، اتجه الشَّاب بوجهه المليء بالبثور وشعره المجعَّد، ناحية العم دو وقال له: «إلى أين طريقك، يا عم؟»

أجابه: «إلى الوحدة البيطرية.»

سأله: «وما مشكلة هذا الثور الذي معكما؟»

أجابه: «عملنا له عملية إخصاء.»

قال الشَّاب: «إخصاء؟ ولماذا أخصيتموه؟»

قال العم دو: «لأنَّه يعمل أشياء غير مهذَّبة.»

سأله الشَّاب: «كيف يعني يعمل أشياء غير مهذبة؟»

قال له: «مثلما تفعل أنت أشياء غير مهذبة، هو أيضًا يفعلها مثلك.»

قال الشَّاب بغضب: «كيف يا رجل تضعني في مقارنة مع الثور؟»

أجابه قائلًا: «وما المانع أن أقارنك بالثور، هه؟ هل هناك ما يمنع من المقارنة؟ كل الحاجات التي ما بين الأرض والسماء مثل بعضها البعض، إنسان وحيوان، الكل ابن دنيا، ابن أرض وسماء!»

البنت صاحبة الشَّاب احمرَّت وجنتاها وقالت: «تعالَ يا ماو … خلاص، تعالَ نمشي.»

كانت البنت رفيعة الحاجب جميلة العينين، رأسها كبير وأسنانها بيضاء، واستدارة وجهها الأبيض واضحة، لم تفارقها عيني، وأخذتُ أتطلَّع إليها مشدوهًا.

صاحبها الشَّاب أقبلَ يتأمل موضع خصية الثور، وهو يحني رأسه.

«يا لَلسماء!» صاح الشَّاب فزعًا، «أنتم بلا رحمة، قلوبكم متحجِّرة … تعالي يا «شياوكو»، تعالي انظري بنفسك إلى الهمجية التي لم يتورَّع عنها هؤلاء!»

كان الشَّاب يُنادي صاحبته التي دفعت خصلة شعرها إلى الوراء بغضب، ثمَّ واصلت السير في طريقها، فأسرع الولد في إثرها، وأنا أدور بعنقي أتأمَّل منظر الفتاة التي سارت مع صاحبها عكس اتجاهنا، واستغربت لما رأيته يمشي بجوارها ويضع ذراعه على كتفها، وكان الأغرب حقًّا هو أن البنت استسلمت لوضع ذراعه هكذا، على كتفها.

قال العم دو: «على ماذا تنظر وراءك؟ التفِت إلى الطريق ولا تضيع وقتك.»

التفتُّ إلى الأمام وأنا في غاية الشُّعور بالحرج.

قال: «أنت منذ ثوانٍ قلت إنك لن تتزوج أبدًا، وأوَّل ما رأيت فتاة بجانبك تعلَّقت عينك بها، كأنها ملصقة بغراء، يا للعجب!»

قلت: «كنت أتطلع إلى الولد الذي معها.»

«دعك من هذا الكلام … أنا قبلك تعذَّبتُ في شبابي بكل هذه الأشياء.» واصل العم قائلًا: «ثم إن البنت التي رأيتها الساعة، كانت تبدو ساخنة متوهِّجة، تتقلَّى على نار، مثل رغيف مانتو خارج توًّا من الفرن الحامي، تهتز رقصًا وهي ماشية … منتهى الدلال!»

لحظة أن كان مكبِّر الصَّوت في الكومونة يذيع النَّشيد الوطني، كنا قد اقتربنا من مقر المحطة البيطرية، فلما انتهى المكبِّر من إذاعة النَّشيد، راح يواصل فقرات برامج الإذاعة الداخلية، التي تبدأ في السَّابعة مساءً بأغنية «دونفان هونغ» (الشرق الأحمر)، وبعدها موجز الفقرات، ثمَّ نشرة الأخبار العامَّة، فالداخلية، تتلوها مختارات من أوبرا بكين، وأخيرًا جدًّا النَّشرة الجوية، والختام بالنَّشيد الوطني، ثمَّ يأتي صوت المذيع ليقول: «أيها الرفاق من الطبقات الفلاحية تحت المتوسطة والفقيرة، إلى هنا تنتهي برامج الإذاعة الداخلية لهذا اليوم، فإلى اللقاء.» وحينئذٍ تكون الساعة قد بلغت التاسعة والنصف مساءً، بالضبط … بالضبط تمامًا، دون زيادة أو نقصان، ولا حتى بمقدار نصف الدقيقة. لمَّا وصلنا إلى المحطة البيطرية، وصارت وجوهنا قبالة بابها بالضَّبط، دون زيادة أو نقصان، كان صوت المذيع يحسم الموقف، وهو يقول لنا بجدية مفرطة: «فإلى اللقاء!» قال العم دو: «الساعة الآن التاسعة والنصف.»

تثاءبتُ وقلت له: «كنت دائمًا وأنا في البيت كلما جاء النَّشيد الوطني في ختام الإذاعة، يغلبني النعاس وأنام على الفور.»

قال العم دو: «لكن اليوم، اليوم بالذات لا يمكنك النعاس ولا النوم، فلا بدَّ أن نبحث عن الرفيق لاو تونغ ليسعف الثور ويحقنه بالدَّواء، وساعة أن يحقنه يهدأ قلبي وأستريح.»

كان الباب الحديدي مغلقًا بإحكام، فنظرت من خلال ثقوبه ولمحت خزانة خشبية في أحد أركان السَّاحة الكبيرة الخالية إلا من شيء يشبه البئر، تقريبًا، في وسطها وحواليه خلاء نبتت فيه أعشاب متناثرة، وكلب يتواثب وينبح علينا، بينما الغرف الداخلية معتمة ولا شيء يبين بجوارها، لا حسًّا ولا حركة.

سألته: «أين نمضي يا عم بحثًا عن الرفيق لاو تونغ؟»

أجاب قائلًا: «تلقاه في إحدى تلك الغرف … بالتَّأكيد.»

قلت: «الغرف مُظلِمة … لا مصباح هناك ولا نور.»

قال: «ما دام ليس فيها نور، فلا بد أنَّهم ناموا.»

قلت: «فماذا نصنع نحن، إذا كانوا قد ناموا؟»

قال: «الثور هذا يعتبر من حالات الطَّوارئ، اطرُق الباب يجيئون سريعًا.»

قلت: «فماذا لو فزعوا وجاءوا يشتمونني؟»

قال: «ما لك تشغل نفسك بكلِّ هذه الأشياء؟ ثمَّ لا تنسَ أنَّ الرفيق لاو تونغ جلس وأكل خصى الثور حتى شبع، فالواجب عليه أن يراعي حق الشِّدة، ويقوم ليحقنه حالًا.»

دققنا على الباب الحديدي، بخفَّة في أوَّل الأمر على أمل أن يفتحَ لنا، لكن كل دقَّة كانت تصدر صوتًا مُدويًّا، كأنَّه ضجيج مدافع، ووثب الكلب من وراء الباب يريد أن يفتك بنا، فكان يقفز عاليًا وينبح بشراسة، دون أن تصدر عن الغرف الداخلية نأمة صوت، فاشتد طرقنا وجلجل الصَّوت، والكلب بالدَّاخل يكاد يجنُّ نباحًا ويثب وينشب مخالبَه بالباب يوشك أن ينفذ منه، ولا شيء ينم على أنَّ أحدًا يسمعنا بالدَّاخل، فقال العم دو: «كفى إلى هذا الحد، فلو كنَّا نطلب الأصمَّ لانتبَه من رُقادِه، حتى وهو ميت.»

قلت: «معنى هذا أنَّ الرفيق لاو تونغ غير موجود.»

قال العم دو: «هم الموظفون الآكلون بالأجر، حالهم غير حالنا نحن الفلَّاحين، الواحد منهم يعمل بالساعات الثَّماني، وبعد ساعات العمل لا تجد منه فائدة، يقول لك انتهت ساعات الدَّوام، ولا يعيرُك انتباهًا.»

قلت: «فلماذا نظلُّ نتعب طوال النَّهار ولا يتعبون مثلنا، وعندما نجيء إليهم لا يسعفوننا؟ ألا يُقال بأنَّ الجميع «في خدمة الشَّعب»؟»

«وهل أنت شعب؟ هل أنا شعب؟ أنا وأنت مجرد ناس من خشب، خيالات مآتة … خيالات حقول لا تحسب من ضمن الشَّعب، ولا حتى من ضمن الناس العاديين. فبأيِّ حق تُصنَّف في عداد الناس … قل لي أنت بأيِّ حق؟» تنهَّد العم دو عميقًا، «لا عليك من هذا كله، نحن على كل حال أفضل كثيرًا من هذا المسكين. آه، يا شوانجين، كنت مرتاح البال في السنة الماضية، فإذا بك تلقى الهوان في عامنا هذا، على عكس ما حدث للأخوين روشي، كانا في السنة الفائتة يقاسيان العذاب، فكانت نكبتهما أقل منك هذا العام. السماء حكمها عدل، فلا يظن أحد بأن ينعم بالرَّاحة دون شقاء.»

تطلَّعتُ إلى شوانجين وسط عتمة الليل فلم أتبيَّن ملامحَه، لكنِّي سمعت لهاثه الكدر الأجش.

أوقد العم دو ولَّاعته ودار حول الثور، ثمَّ انحنى يتفحَّص ما بين وركَيه، ولسعته وقدة الولاعة فتأوَّه صارخًا وأطفأها، فاستحال المنظر في عيني ظلمة حالكة، وسطعت في صفحة السماء نجومها، وقال العم: «ها هو الورم يخفُّ كثيرًا، ولا مانع عندي من أن يبرك على الأرض إذا واتته الرَّغبة.»

قلت: «هذا كلام مضبوط، وصدِّقني يا عم أنَّ حكاية رقاده على الأرض لم تكُن لتؤذيه أبدًا، عندك مثلًا الأخوان «روشي»، ألم يرقدا على بطنيهما ليلةً بطولها؟ ثمَّ ها هُما قد شُفيا! فلماذا لا ينطبق عليه الحال نفسه؟»

قال العم دو: «معك حق، فاتركه يستريح كيف شاء، ولنأخذ نحن حقَّنا من النَّوم أيضًا.»

سكت العم، لكن شوانجين كان يترنَّح، كمثل جدار متشرِّخ … ويتهالك متكوِّمًا فوق الأرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤