النقد التاسع والثلاثون

٢٢ / ٤ / ١٩٥٣
روضة الشعر: أرى روضة الشعر ممسوخة وإن كان الفصل ربيعًا، فهذا الشعر الذي ينثره علينا المذياع متشابه متماثل، فقلما تهب علينا منه نفحة جديدة، فكأن الشعراء لا يفكرون بالخلق، وكأنما الشعر عندهم رصف ألفاظ واستقامة وزن، فأغراضهم لا تتبدل ولا تتنوع، وتكاد تكون هي إياها: شكوى وأنين وحنين.

ظل الشعر القديم على جدته حقبًا من الدهر، وما عتق إلا بعد عمر طويل، كان كل شاعر من أولئك يحاول أن يأتي بالبدع، وأما شعرنا اليوم فأمسى مكرورًا معارًا في حقبة قصيرة، ومرد هذا إلى أن شعراءنا لا يبالون إلا بالتفاعيل، وتعبئة الأوزان ألفاظًا، ولهذا مل المستمعون هذا الشعر الذي نسمعه، ولا ندري ما نجيب إذا سئلنا عما كنا نسمع، فليت من يدعون إلى روضة الشعر لا يكتفون بهذه الأزاهير التي لا شذا لها ولا عبير.

ومن روضة الشعر يصح الانتقال إلى نماذج السيدة زينب محمد حسين الزجلية النسوية، إن هذه السيدة تلج في شعرها العامي صميم قلب الواقع، وتصور لنا شخوصًا نصادفها في كل مكان وزمان، فالمصغي إلى ما تقول يخرج من غرفته، وفي ذهنه صورة فنية لإحدى الإناث بينا هو لا يحمل من ذلك الشعر الفصيح إلا الآهات والتنهدات التي عندنا منها — دائمًا — ما يكفينا.

وبعد عهد طويل سمعنا حديثًا أدبيًّا موضوعه «مع نفحات النسيم» للأستاذ محمد عبد الغني حسن، لقد أصاب الأستاذ عبد الغني، وهو شاعر معروف، حين قال: إن الشعراء العرب كانوا أبر الناس بالنسيم، إن بعضنا يظنون أن الشاعر القديم لم يكن يصور محيطه في حين أن هذا الشاعر ما صور إلا ما أدرك وعايش من مكان وزمان وحيوان، وهو لم يبر بالنسيم إلا لأن النسيم يبرد قلبه المتقد في الصحراء الملتهبة الرمال، إن الهواء في لبنان عبء ثقيل على مناكب الناس، ومع ذلك نسمع شاعره العامي يقول: ريح الشمالي يا نسيم بلادنا.

إن بين الشعراء والنسيم مودة وثيقة العرى، فهو الرسول الأمين وموزع البريد، ومبدع الصور الشعرية، وقد ألم بهذه كلها الأستاذ حسن، وهو يحسن جدًّا إلى الأدب إذا عدل في أحاديثه إلى مثل هذه الموضوعات الخاصة بدلًا مما نسمع من الكلام العام حول أدبنا التائه.

وكانت زيارة الميكروفون لقلعة حلب مفيدة ولذيذة، أحسن الأستاذ عبد المجيد أبو لبن اختيار هذه القلعة التي يسمع الناس بها كثيرًا، ولا يعرفون عنها شيئًا، زرتها مرة على عهد الانتداب فلم أعرف عنها إلا أنها قلعة؛ وذلك لفقدان الدليل، ولكنني صعدت إلى منارتها المشرفة على الشهباء، فرأيت مشهدًا بديعًا، ما دللت وقتئذ إلا على قاعة سيف الدولة، أما هذه التفاصيل التي كبرتها في عيني، فما وجدت في ذلك الحين من يقولها لي.

الأقاصيص: أولها قصة «الشيخ مبروك» للآنسة سميرة عزام، التصوير فيها تام، والتعابير طريفة، فلا تنتهي من سماعها إلا وقد عرفت معرفة تامة الشيخ مبروك الذي صار عريسًا في آخر الحياة، وتحس أن أسطورة الكرامات قد انتهت حين مشى المزين بين ثنايا لحيته، وتهاوت خصلها، فتهاوت معها ثقة الناس بفضائله.

كل هذا جميل، ولكني لا أزال مصرًّا على القول أن على الآنسة عزام أن تقوي عنصر الحكاية في أقصوصتها ما استطاعت.

أما أسلوب الآنسة فنقيٌّ طريف، وأتمنى أن تدع العبارات الكثيرة الاستعمال اليوم مثل: قد افتقدته أنا الآخر، إن هذا التعبير غير صحيح إذا اعتمدنا على ما وضعه القدماء من أصول؛ لأن الآخر هنا نعت لأنا والضمير عند النحاة، لا ينعت به ولا ينعت، والصواب أن يقال: افتقدته أنا أيضًا.

وقالت: وأعطاها لابن أخيه، وأعطى تتعدى بنفسها لا باللام.

وأما قصة «مفاجأة» للأستاذ كمال منصور، فكان سياقها وحكايتها خيرًا من عبارتها، ففي التعبير أغلاط، وفي القراءة لحن، ولكن التوجيه إلى ختامها كان حسنًا، وهو عندي يشفع بما فيها من هنات غير هينات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤