النقد السابع والأربعون

١٠ / ٨ / ١٩٥٣
النشاط الأدبي: كانوا يتناولون في هذا الركن عدة كتب صدرت حديثًا، ولكن الأستاذ عبد الحليم عباس وقف عند كتاب عنوانه «أم الرسول» للدكتورة بنت الشاطئ، قال: إنه تناوله مشفقًا على الدكتورة من هذا البحث … وبعد أن رآها تتكلم عن المرأة في الجاهلية وأمهات الأنبياء، وتاريخ البيت العتيق وعن وعن، ظن أنها تحب أن تملأ فراغًا لا تستطيع أن تملأه بالحديث عن آمنة أم الرسول. نعم، هذا هو ظني بالأستاذ الذي ناقش «تاريخيًّا» كتابًا قالت صاحبته: إنه قصة، وقد اشتد الخلاف بينه وبينها على الأولية بين بيتي هاشم وأمية، فخيل إليَّ أننا ما زلنا كما قال ابن المعتز: نفاضل في تقديم عثمان أو علي.

أما كان الأحرى به أن يعرفنا بعناصر قصتها الرائعة بدلًا من هذا اللف والدوران وإملاء الفراغ بحديث مزعج لفريق من المستمعين؟ فالإذاعة ملك الجميع، أما الجملة فنصيحتي للسيد عبد الحليم أن يقصرها، فلا يكون — مثلًا — بين الفعل والمفعول مسافة لا بد لقطعها من «تاكسي»، كقوله مثلًا: وفي حرب الفجار انتزع العنابس — ومعناها الأسود — وهم أولاد أمية الستة، بعد أن شدوا أفخاذهم بالوثائق كما تشد الجمال، النصر لقريش وحلفائهم.

إنها عبارة تحتاج إلى منجم واسع الصدر طويل البال، وقال الأستاذ: تحت لواء ابنه أبو سفيان، وأظنه لا يخفى عليه أنها أبي. وقال أخيرًا: حتى لا نكاد نلتفت إلى الماضي الجميل، والنفي هنا لخبر كاد لا لكاد، ولهذا يقتضي القول: نكاد لا نلتفت.

هذا بعض من كل يا أستاذ عباس، المحطة لا ترخص لنا الصيد بالشبكة الضيقة، ولا بالسلاح ذي العيار الثقيل، فإذا أردت أكثر فأتحفني بأحد تآليفك لتحظى مني بنقد من العيار الثقيل.

وسألت المحطة الأستاذ ميخائيل نعيمة ممَّ يشكو الأدب المعاصر، فاستهل حديثه بقوله: إنه بألف خير والحمد لله، ثم بحث هذا الموضوع، وهو موضوع الساعة، بحث خبير رافق هذا الأدب نصف قرن، وكانت له مشاركة عظمى في إنهاضه والسمو به، لقد شبه الأستاذ نعيمة فترتنا هذه باستراحة أرض تزرع عامًا بعد عام، حتى سماها أخيرًا فترة استراحة بعد إجهاد، قد يصدق هذا على الأدباء الكبار، ولكن الشباب لم يتعبوا بعد حتى يستريحوا، لقد دل ميخائيل في هذا الحديث على خبرة زراعية فشبه بالتربة والغلال، فقرب كلامه من عقول قلما استطاعت مرافقته إلى مداه الأبعد.

وفي ندوة الشرق الأدنى العراقية قدم الأستاذ بيبي طبيبين وطبيبة بصيغة جمع المذكر السالم واعتذر، فذكرني اعتذاره هذا بكاتب فرنسي تكلم عن حفلة نسائية بضمير جمع الذكور، ولما انتقدوه أجاب: كان مع إحداهن طفل ولعله ذكر …

وفي ندوة عراقية ثانية أدارت نفسها بنفسها — على خلاف العادة — كان الحديث عن العاطلين عن العمل، فلاح لي أن أقطارنا كما قال حافظ إبراهيم:

جميع الناس في البلوى سواء
بأدنى الثغر أو أعلى الصعيد

فالمحامون الناشئون يقطع عليهم الطريق الموظفون النافذون، والمدارس الثانوية لا تعد الطالب للكفاح في ميادين الحياة، فليتها توجه أبناءنا توجيهًا عمليًّا كما قال الأستاذ أديب العامري في حديثه: «اتجاهات التربية الحديثة»، وعَزَت الدكتورة زهية حميد باشا مشكلةَ المرأة الجامعية في سوريا إلى عوامل التربية البيتية، وإليها عزا الأستاذ جمال الدين الرمادي الانصراف عن القراءة.

أجل، إن عللًا كثيرة سببها البيت أولًا والمدرسة ثانيًا، ومتى اصطلحا حسنت حالنا، وفي هذا الموضوع التربوي تكلم أيضًا الدكتور فاخر عاقل، وعالج مشكلة تقصير الطلاب في كل باب التي يدهش لها الأهلون في كل قطر، فالأشبه أن هذا المرض عام في جميع أقطار المسكونة. وأخيرًا عد الدكتور عاقل كل بلد لا يُعنى بالنظم التربوية بلدًا غير تقدمي، فما أحرى المربين — والدكتور فاخر منهم — أن يتنادوا إلى إحداث انقلاب تربوي خطير؛ فقد عتقت مناهجنا، وبان هزالها.

وتكلم الشيخ القلقيلي عن الأمانة واستشهد بالآية، ولو رأى بشار العقيلي حملة الأمانة الكثر، في هذه الأيام، لما استطاع أن يقول في ذلك الذي هجاه:

كيف لا تحمل الأمانة أرض
حملت فوقها أبا سفيان

أجاد الشيخ البليغ إذ عد الإخلال بالوقت، واستغلال النفوذ من سوء الائتمان، فليت السامعين يتعظون، فيقل بيننا سوء الائتمان.

وسمعت عنوان: «الحياة تبدأ بعد الثمانين»، فاستبشرت حتى خلت أني صبي مراهق. الحديث للأستاذ روكس بن زايد العزيزي، وقد خطأ المتنبي بقوله: ضيف ألم برأسي غير محتشم، ولكنه نسي أو تناسى قوله الآخر: والشيب من قبل الأوان تلثم.

وفي ركن شخصية الأسبوع رسم لنا الأستاذ بيبي صورة ناتئة الخطوط للحاج عبد الله الدرويش كما عرفنا بقطر مسقط رأس الذهب الأسود، والحاج عبد الله الدرويش التاجر العصامي الذي تفوق ولم يعلُ رأسَه سقفُ مدرسة.

وتحدثت الكتابة السيدة وداد سكاكيني عن مستقبل المرأة العربية بعد نيلها حقها السياسي، وما تتمتع به من سفور من أهم حوادث تاريخ المرأة. نعم، لقد تساوت المرأة والرجل عندنا، ولكن ويا للأسف لم يتعاون رجل مع أنثى في الانتخابات، فعسى أن يكون لشأنها في الغد القريب غير ما كان عندنا.

إن قصة الأستاذ يوسف يعقوب حداد مطبوعة على غرار أقصوصة «الصبي الأعرج»، وقد أحسن الكاتب تصوير بطله، وأما خير أقاصيص هذين الأسبوعين فهي التي للدكتور علي سليمان، وعنوانها: «غرام الشيوخ»، ولا أقول «أعجبتني»؛ لئلا يغضب السيد عبد الحليم عباس غضبته السخرية!

إلى الأستاذ العوضي الوكيل

زعمت أني أخطأتك في قولك: «وأنا كمثلكم صغير.» لأنك أدخلت الكاف على مثل، ولو رجعت يا أستاذ إلى ما كتبت لرأيت أني لم أخطئك بل قلت هذا: «ألم يكن الأفضل القول: وأنا نظيركم صغير، فنخلص من إدخال الشيء على مثله؟»

أنا أعرف جيدًا قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وأعرف قول التوراة: وكمثل كثرة رأفتك، وأعرف أيضًا شرح النسفي والبيضاوي وتأويلهما لذلك،١ وأظن أننا في غنى عن التأويل لقولك، كما أوَّلوا قوله تعالى.

إن الفرق كبير بين اللفظتين في «الرنة»، فأنت حوطت «مثل» بكافين حين قلت: وأنا «كمثلكم» صغير، فجاءت بنت عم تكأكأتم كلالة إن لم يكن لحا. الشعر موسيقى أولًا يا حضرة الأستاذ الفاضل، فحكِّم أذنك في شعرك، ثم قابل بين قولك وقول القرآن الكريم لترى نعومة «كمثله»، وخشونة كمثلكم … فليكن الذوق الفني قائدنا في الشعر والإنشاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل …

١  راجع شرحهما للآية ١١ من سورة الشورى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤