النقد الثاني والخمسون

٢٠ / ١٠ / ١٩٥١

الدكتور أحمد زكي كاتب متأنق يخرج أحاديثه إخراجًا بديعًا، وإن فاق الأصبهاني في مطلع حديثه «الجار قبل الدار» في تكرار قالت وقلت. أما كلمة «من الناس» في أخريات حديثه، فذكرتني بمقالات أحمد فارس الشدياق التي جعل عنوانها: «جملة أدبية». إن حديثًا كهذا يلذ للسامع الإصغاء إليه؛ لأن إخراجه — إن صح هذا التعبير — يضفي على هذا الموضوع المبتذل ثوبًا منمنمًا.

ومن طراز حديث الدكتور زكي في الإخراج حديث «مرضى» للسيدة أسمى الطوبي، فقد كان قطعة أدبية جميلة، ومثله في المعنى حديث الصباح للأستاذ سليم الزركلي، وعنوانه: «همسة في أذن الجار»، ولكن جارًا كذاك الجار لا يفهم لغة الهمس. إن من يدع المذياع يحدثنا بملء شدقيه، ويخرج أنكر الأصوات لهو في حاجة إلى النخس.

وفي الأدب الموجة كان عندنا — على ما نذكر — حديث الأستاذ محمد عبد الغني حسن، جال الشاعر جولة سامية آرية، فمر بأساطين شعراء الشرق والغرب مبينًا أن لا بد لكل فن من رمز وغاية، وأن الأدب الرفيع هو الذي يوجه الناس، وهذا حق، فكبار المصلحين هم سادة القلم، والبيان عدتهم، ولهذا جاء: إن من البيان لسحرًا.

لقد كثر التحدث في هذه الأيام عن الأدب الموجِّه — بكسر الجيم — وما أحوجنا إليه شرط أن لا يكون أدبًا موجَّهًا «بفتح الجيم»، كما يبدو لنا مما يكتبه الداعون إليه، أنا أومن بتوجيه الأدب، ولكني أريد أن لا يُسَخَّرَ الأديب فيكون بوقًا لفئة أو جماعة من الناس، وسمعت دراسة أدبية للأستاذة روز غريب، فتمنيت لو تتجه دراساتها نحونا، فكتاب الغرب وكاتباته قد شبعوا درسًا، في حين أن عندنا كثيرين وكثيرات هم أحوج إلى دراسات روز العميقة.

وفي ندوة الشرق الأدنى عرض الدكتور مصطفى خشاب ورفاقه لتحديد النسل، فبحثاه على ضوء العلم والاقتصاد، ورفع مستوى المعيشة، وقبل أن يعترض عليهم أحد عادوا هم في آخر المناقشة إلى كتاب الله محتكمين إليه، وكفى الله المؤمنين القتال.

وكان للسيدة صفية فراج سلسلة أحاديث عنوانها: «مقومات الجمال»، ولا أحسب أن للجمال مقومات، ما دام الباحثون لم يقرروا بعد إذا كان الجمال في نفس الناظر أم في نفس المنظور.

وفي روضة الشعر أسمعنا السيد الزبير الشريف السنوسي شعرًا من الطراز القديم الرصين: القديم في موضوعه، والقديم في أسلوبه ورصانته، وللقديم مهابته إذا فاتته الأناقة … أما الشاعر بلند الحيدري، فقد وجدته هذه المرة متفلسفًا أكثر منه شاعرًا، ولكن فلسفته هذه لم يعجز الشعر عن حملها؛ لأن العاطفة الحيدرية قوية.

قصة الأسبوع: قصة «حرمان» للدكتور حسين مؤنس، ففيها الكثير من مقومات الفن القصصي، ولكن الحوار العامي شانها وما زانها كما يرجو مؤلفها، لقد استعمل موبسان الحوار العامي في قصصه الإقليمية؛ فأزعج الذين احتاجوا إلى ترجمتها إلى الفرنسية الصحيحة، وإذا لم يكن الدكتور قد أزعج المستمعين كما أزعج موبسان الباريسيين، فالأمر لا يخلو من إزعاج. إن اللغة الفصحى السهلة هي آلة التفاهم والتعارف بين جميع الأقاليم العربية، فلنعتصم بها.
ذكريات: «والذكريات صدى السنين الحاكي.» هكذا قال شوقي، فجع الأدب العربي بالأديب صلاح ذهني الذي كان يرجو الأدب على يده خيرًا جزيلًا، وفاه حقه الدكتور حسين مؤنس، والأستاذ محمد عبد الغني حسن، وما أعظم وقع صوت من يفارقنا حين نسمعه من هذه المحطة اليقظة التي لا تغفل عن تمجيد الأدباء بطرق شتى، وفي ذكرى مي تحدث الأستاذ طاهر الطناحي حديثًا عميق الغور؛ لأنه عرف نابغتنا عن كثب.

قال الأستاذ الطناحي: إن مي لم تنظم بيتًا واحدًا من الشعر، فإذا اعتبرنا الشعر كلامًا منظومًا مقفى، كما قال القدماء، فلا اعتراض لنا على قوله، أما إذا لم نعتبر تلك القيود، فأكثر نثر مي هو الشعر بعينه.

مآخذ: قيل: يا لِقومي بكسر اللام، وهي لام الاستغاثة المفتوحة.

وقيل: لم يعقِّب بتشديد القاف، وهي لم يعقب.

وقيل: بعُنف، وهي بفتح العين لا بضمها.

وقيل: أن سيدركنَي بنصب الكاف، وهي مرفوعة فأن هنا مخففة من أن وليست حرف نصب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤