النقد الثالث والخمسون

٤ / ١١ / ١٩٥٣

تحدث الأستاذ العقاد عن العالم المضطرب، وفي فمه ضحكة أبي تمام من المنجمين في ملحمته «السيف أصدق أنباء من الكتب.» فبشرنا ببقاء عالمنا هذا رغم أنوف المتنبئين الذين يطلعون علينا بافتراضاتهم الجديدة، وهكذا انتهينا من سماع حديثه العميق، وفي قلوبنا اطمئنان وطيد لا تزعزعه عواصف المتخرصين ذوي الأحاديث الملفقة، وصرنا لا نخاف على فناء دنيانا كما ينعق هؤلاء بين آونة وأخرى.

وتحدث الأستاذ عبد الوهاب الأمين عن «الوجودية» التي كثر الكلام عنها في هذه الأيام، فأنار ألباب المستمعين إذ أطلعهم على ما يحسن الاطلاع عليه من مبادئها، إن أكثر هؤلاء يسمعون بالوجودية ولا يعرفون عنها أكثر من اسمها، حتى ظن بعض من حدثني عنها أنه موجود دائمًا وأبدًا، لم يكن هذا الحديث عميقًا كل العمق، ولكنه كان وافيًا بغرض الأدب الإذاعي المطلوب منه التيسير لا التعسير. أما القراءة بالنيابة، فكانت صافية بليغة فزادت في رونق هذا الحديث.

وتحدث الدكتور عزت النص عن شأن المرأة الخطير في المجتمع، ودلَّ على خطورته بأقوال شتى تدل على مساواتها للرجل، قال: إنه لا ينقصها إلا النبوة، مع أن التوراة التي نصدقها مسلمين ونصارى تقول: إن في النساء نبيات أيضًا مثل حنة وغيرها …

وتكلم الأستاذ يعقوب عبد العزيز الرشيد عن النهضة الأدبية في الكويت، فعلمنا من حديثه ما لم نكن نعلم، ذكر لنا أسماء أرباب قلم لا يسمع بهم في الأقطار الأخرى إلا نفر يعدون على الأصابع. جميلة جدًّا هذه الأحاديث التي تكشف الغطاء عن هؤلاء المفارد الذين زادوا ثروتنا الأدبية بما ألفوا وصنفوا، ولا عيب في حديث الأستاذ الرشيد إلا اللحن الذي كان منتشرًا في حديثه، فليته دقق فيه كثيرًا ليسلم من الهفوات، قال الأستاذ: توفي فلان — نسيت الاسم — وهي تُوُفِّيَ أو تَوَفَّاهُ الله، وسمعت أيضًا يلوموني الصحاب، ولعل قائلها ممن كانوا يعيشون في عصر البراغيث، أما اليوم فقد قضي عليها، ويجب أن يقضى أيضًا على لغتها …

ومع هذا الحديث تندمج جلسة ندوة الشرق الأدنى التي دار الحديث فيها حول النشاط الأدبي في طرابلس الغرب، كان وصف الحالة الأدبية فيها جميلًا، وما أجمل أن تعرف الأقطار العربية بعضها بعضًا أدبيًّا، كم كنا نسر لو سمعنا نماذج من ذلك الأدب الطرابلسي الغربي الذي حدثنا عنه الأساتذة طه البشتي وشركاه. وليت المحطة تسمعنا في قابل ما تعذر سماعه في هذه الجلسة الضيقة النطاق مثل: قصة طرابلسية، وقصيدة رمزية، ومسرحية أيضًا، فقد قالوا: إن للمسرح مكانة عندهم.

وفي روضة الشعر سمعت شعرًا من الطراز الجديد للأستاذ أحمد شحادة، كانت قصيدته «دروب» حارَّة العاطفة، حلوة الجرس، ولكنني لا أوافقه على جمع درب أدرب، فالشاعر لا يحق له أن يتمرد على الألفاظ المسموعة لئلا تصبح لغتنا فوضى حين نجمع كما نشاء، ونؤنث ما نشاء حين نضطر.

وللأستاذ علي السيار شعر عاطفي وجداني ناعم الديباجة، ألفاظه من تلك الكلمات التي يتهافت عليها شباب القريض اليوم، ولعل الأستاذ منهم. الشعر الجديد جميل رائق، ولكن ألفاظه وصوره وأغراضه شاخت قبل الأوان.

وهذه جلسة ثالثة تعالج مشاكلنا الأدبية الحاضرة — اللغة العربية — كان المتباحثون ثلاثة من أقطاب أسرة الجبل الملهم: الدكتور علي سعد، والأستاذ أحمد أبو سعد، والأستاذ محمد العيتاني، ولولب الندوة الأستاذ بيبي الذي له في كل عرس قرص. لا بدع أن غار هؤلاء الأدباء الثلاثة، وفيهم الكاتب والشاعر على أمنا الفصحى فهم من أمناء دعاتها الغُير على سلامتها ونموها، وتطورها تطورًا لا يعرضها للانتكاس.

الأقاصيص: القصصي كالمصور، فبقدر ما تكون الملامح ناتئة، والألوان منسجمة، تكون القصة ناضجة، فإذا لم نُعْنَ في إبراز ملامح شخوص قصتنا فلا تدب الحياة فيها. السرد البسيط لا يخلق الأقصوصة ولا ينعشها ما لم يكن متصلًا بتصوير شخوصها تصويرًا ينطبق على ما نريد أن نجعل في هذا البطل أو ذاك من أخلاق، ولا تنسَ المحيط، فوصفه واجب، ومتى أُجيد وصفه تلبس القصة ثوبًا مفصلًا على قدِّها، فلتنظر السيدة ربيحة إلى هذه الشروط، وتحكم هي بنفسها على قصتها «البائسة» …

وفي ندوة نسائية كان موضوعها: «هل أدت الفتاة الجامعية رسالتها في ميدان اختصاصها؟» تحدثت الأوانس إحسان دمشقية ورفيقاتها عن الأدب والمحاماة والشعر، ونحن لا تنقصنا هذه البضاعة التي أتخمت أسواقنا. إننا أحوج ما نكون إلى ما يكوِّن الأسرة تكوينًا وطيدًا صحيحًا، فقد كدنا نفقد لوننا ونضيع بين الشعوب. إني أرى الجامعات تصبغنا وتطلينا، والتربية القومية يجب أن تكون صقلًا وجليا لإظهار العرق الأصلي، لا لطمسه بالدهان والأصباغ.

أرجو ألا يغضب الجامعيين مما أقول، فكثيرون منهم ينصل صباغهم الجامعي حين يدخلون جامعة العالم الكبرى، وهؤلاء هم رأس مالنا، وعليهم المعوَّل في ادخار البقية الباقية من لوننا المحلي. والسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤