النقد الرابع والخمسون

١٩ / ١١ / ١٩٥٣

كثر الكلام عن الفن في هذين الأسبوعين، فالأستاذ عباس محمود العقاد يتحدث عن حاجتنا الملحة إلى الفنون الجميلة، زاعمًا أن سوقها لا تبور، وفي ركن حصاد الفكر العالمي كان الكلام عن توماس مان، وعما قاله في تأثير الفن في المجتمع، وموقف الفنان من نفسه. إني أخال الفنان كالنحلة حين تُعد العسل، فهي ليست تدري إلا أنها تعد لها طعامًا، وتتذوق عسلها كما نتذوقه نحن، ونرى فيه ما نرى. أظن — بل أؤكد — أن الفنان لا يضع هو المقاييس ولا يقوِّم ما يصنع، ولكن عبقريته تخلق عفوًا تلك الروائع؛ فتعجب الناس، ويجعلونها نماذج يقاس عليها.

وبعد، فإن كلمة فن في زماننا قد أصبحت تطلق على كل شيء، حتى الزواج، فهذه السيدة صفية فراج تتحدث عنه تحت عنوان: «فن الزواج». لقد توسعنا كثيرًا في هذه اللفظة حتى كادت تشمل كل شيء.

وفي كلمة الأحد تكلم الأب كسرواني عن «هذا الإنسان»؛ ففزعنا من قذيفة تقضي على الناس أجمعين، لا أدري لماذا لا أقيم وزنًا لهذه القنبلة التي يهددون بها الناس، فإذا كان داود قال في زبوره عن هذا الإنسان: «وعلى أعمال يديك سلطته.» فلا يعني هذا أن مثل هذه القنابل تقلب وجه الكون، أعتقد أنه لا بد من أن يكون في الكون خط دفاع تجاه كل ما يهدده بالفناء.

وقدم المقدم محمد حسن المحاويلي صورًا من حياة المرأة في اليمن لذَّ لي سماعها، وإني لأتمنى على إخواننا حملة الأقلام في اليمن أن يكتبوا أقاصيص تصور هذه العادات والتقاليد، فإنها مرعى خصيب للقصصين، وقد يخرج منها قصص رائعة لو قيضت لها أقلام تحسن التصوير والإخراج القصصي.

وأهم ما يلفت النظر في برنامج هذين الأسبوعين هو المشكل الذي عالجته ندوة الشرق الأدنى في بيروت، كان الباحثون فيها السيدة صبيحة فارس، والدكتوران إسحاق موسى الحسيني وكمال اليازجي، وكان موضوع بحثهم مشكلة معقدة يحق لنا أن نسميها مشكلة الساعة، بل مشكلة كل ساعة، أمس واليوم وغدًا. إن قضية تخصص الطالب في الموضوع الذي يلائمه مشكلة مستعصية الحل، يريد الأساتذة الجامعيون أن يبدأ التخصص أو التوجيه إليه في المدارس الثانوية، في حين أن المدارس الثانوية لا يعنيها إلا الثقافة العامة، ولا يبدأ التخصص إلا في الجامعات، ولكن أصحابنا الجامعيين يريدون أن يلقوا هذا الحمل عن أكتافهم، ثم يتوغلون في البحث، فيرون أن على الحكومة أن توجه المدارس الثانوية، ويقترحون أن تتفرع البرامج فيها، مع أن المدرسة الثانوية لا تتسع لأكثر من برامجها.

أنا أرى أن المدرسة الثانوية تكتشف الموهبة وتصقلها ما أمكنها، وعلى الجامعة أن تنميها، أما حاجات البلاد فأحرى بالجامعات أن تنظر إليها، فإذا رأت مثلًا كثرة الأطباء والمهندسين وغيرهم، فعليها أن توجه القادمين إليها في الطريق التي ترى البلاد إليها أحوج.

وفي روضة الشعر: سمعت الأستاذ عبد الرزاق الهلالي ينشدنا شعرًا يذكر فيه الثمانين عامًا مثل زهير. إن شعره فكر أكثر منه صورًا، وهو في كل حال رصين متين، قال قصيدة عنوانها: «الفراشة والنار»، تخيل فيها بعض الشيء، ولا أدري ماذا يقول الأستاذ في هذه الشطرة: تمهل تنج من الآمال؟ إني أرى جزم تنج واجبًا، وإذا جزمنا أسأنا إلى علم الخليل، فليت الشاعر يعيد النظر في بيته وهو لا شك واجد لفظة تسد هذا المضيق. وأما الأستاذ علي صدقي عبد القادر فكان شعره نظمًا فلسفيًّا، قريحة سمحاء، وما كل سماح كرم، وقد سمعت له قوافي غير متلائمة مثل: بحيرة، ومرة، ومجرة، فهذه الحبات لا تنتظم في سلك واحد. أما الأقاصيص، فخيرها قصة رشاد المغربي دارغوث، وإن كانت تاريخية لا يعرف محيطها ليستطيع تحريك شخوصها، وتلوين إطارها. إن الأستاذ دارغوث يجيد الأقصوصة حين تكون واقعية وقد رأى بطلها، أما حين يكتب قصة بعيدة عنه فلا تنبض أقصوصته، فمهما اشتد في إلقائها تظل رخوة كأن عظامها من خيزران.
شخصية الأسبوع: وأصغيت إلى سماع ما يقوله فؤاد إفرام البستاني كشخصية الأسبوع، وكم كنت أتمنى عليه، وهو من المعجبين بالبحث العلمي أن يذكر ولو بكلمة عابرة ذلك الشيخ الجليل الأب لويس شيخو عندما تحدث إلى الأستاذ أحمد أبو سعد عن كتابه الروائع، فالأب شيخو — رحمات الله عليه — هو الذي وضع النموذج الأول من الروائع، وأظنه كان عن أبي العتاهية، وعلى غرار هذا الكراس طبع الأستاذ فؤاد كراريس روائعه. الإقرار بفضل من سبقونا واجب على الأساتذة، وخصوصًا ممن كان كالأستاذ فؤاد يشرف على ترجمة دار معارف، إنه مسئول عن هذا من جهتين؛ الأولى: لأنه ربيب اليسوعيين المحترمين، والأب شيخو أحدهم، والثانية: لأنه اليوم مدير الجامعة اللبنانية، وعليه أن يكون قدوة لمن يتخرجون في الأدب منها ليؤدوا الأمانة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤