النقد الثامن والخمسون

١٤ / ١ / ١٩٥٤

بمناسبة الميلاد ورأس السنة قيل شعر ونثر، فالأستاذ خالد الجرنوسي أنشد قصيدة ميلادية ملأت الوقت المرصود لروضة الشعر، كانت حلوة الجرس إنشادًا، ولكن المدقق في ألفاظها وتراكيبها لا يدرك فيها الشعر الصافي والصور الرائعة من نوع الموشح، وقد أعاد الشاعر اللازمة مرارًا، وكم كنت أتمنى لو كانت القصيدة أرشق عبارة وأدق صياغة، فأين الشعر في مثل قوله: يشكر الله ملحًّا في الدعاء.

وقال الشاعر الجرنوسي: يكره الحرب ويدعو للسِّلم أي للسلم، فهذا التحريك قبيح وإن جاز … ومن عيوب القافية في هذه القصيدة جمع الشاعر بين أمكم وظلكم وكلكم في قافية واحدة.

ومثل تحريك السلم ورد تحريك الطعم عند الآنسة مقبولة الحلي في قصيدتها «عند الشاطئ الأخضر»، فقالت: مر الطعم. أما قصيدتها، فلعلها من أروع ما سمعت لها ولغيرها من شعراء وشاعرات المحطة، فحديث زهرة الأقحوان، وحديث الطير المهيض الجناح، وأخيرًا تلك الصرخة الصادرة من الأعماق: عصفور كان هوانا وراح، كل هذا طريف ومؤثر.

ويندمج مع الشعر حديث «في ركب الزمان» للدكتور علي محمد شلق الذي يذكِّر بإنشاء المنفلوطي، وأسلوبه في مخاطبة الغد، أجاد الدكتور علي مناجاة الزمان، فليت للزمان أذنًا تسمع.

ومن طراز حديث الدكتور شلق في العبارة المنمقة تشابيه واستعارات حديث السيدة إدفيك شيبوب، وكلا الأسلوبين يذكراني بأناقة نثر القرن الرابع. ومع هذا المثال من الإنشاء تنسجم قصة الأستاذ خليل زخريا الميلادية الملأى بالشاعرية، ربما لا تعجب هذه القصة بعض الذين يخالون أن للقصة دروبًا معبدة، ولكن الأقصوصة أنواع شتى، وللكاتب أن يتصرف فيها على هواه شرط أن يخرج أقصوصته إخراجًا مرغوبًا فيه، كما أرانا الأستاذ إلياس بطله الذي يريد وجهًا جديدًا.

أما قصة «غانية» للأستاذ وليم باسيلي، فتكاد تكون عامة تصلح لها بطلة أية امرأة كانت، فمسرحها لا إطار له ولا زينة، ولم ينطبع في أذهاننا شيء منها، وأجمل ما فيها عنوانها «على أطلال الشباب»، إذن ما على الكاتب أن يعمل لتتحرك أبطاله حركة طبيعية؟

إن كلمة تجيء في مكانها الملائم تحرك الشخصية وتبرزها لنا، حتى كأننا نراها بأعيننا ثم لا ننساها، فلنفتش عن مثل هذه الكلمات فهي السمات التي تعرف بها الشخصيات الواقعية أو المخلوقة خلقًا.

وفي ركن حصاد الفكر العالمي حدثنا الدكتور جميل صليبا عن برغسون في كتابه «منبعا الأخلاق والدين». إن الدكتور صليبا أخصائي في مثل هذه الأبحاث، ولعل كتابه في علم النفس خير ما أخرج؛ لأنه مطبق تطبيقًا محكمًا لا تلمس أي أثر للترجمة فيه. قال الدكتور عن برغسون: إن تعاون الحيوانات غريزي، بينما تعاون البشر عن تصور وتصميم، وإننا مساقون بحكم الطبيعة إلى محبة بني جنسنا.

قلت: يا ليت هذه المحبة حاصلة، ولا فرق عندنا من أين أتت، أما الكلمة الخالدة في هذا الحديث فهي هذه: البطل لا يعظ، ولكن وجوده يقود البشر إلى المثل الأعلى، والمثل الأعلى عند برغسون هو الحب، والدين الحركي المنظور هو دين الفلاسفة.

جميل أن تطلع على كتاب فلسفي عويص في ربع ساعة زمان، وأجمل من ذلك أن يلخصه لك دكتور فاهم موضوعه كجميل صليبا.

مشكلة الأدب: تسيطر على أحاديث المحطة موضوعات أدبية صرف، فالناس اليوم فريقان: فريق يحاول إخضاع الأدب لمقاييس معلومة، وفريق يرى أن يترك الأديب حرًّا يتبع إلهامه، ويختار الموضوع الذي يجيده. فمن هنا وهناك تتعالى هذه الأصوات، وكل يغني على ليلاه، ففي العراق تحدثوا عن تخلف الشعر عن موكب الفنون الأدبية، فهبت آنسة الجلسة، عاتكة الخزرجي تدافع عن الشعر نظمًا تنشده إنشادًا بليغًا، فاحتج الأستاذ باشكير قائلًا إن إنشادها يجمل ما تنشد، كأنه يفوته أن الشعر وجد لينشد لا ليتلى.

أما قول أحدهم: إنه لا يهجر الشعر إلا من لا يبرز فيه، فالجواب عنه أن إجادة القصة ليست أسهل من تجويد الشعر، فالقصصي الكبير لا يكون إلا شاعرًا.

أحسنت الخزرجية الدفاع عن الشعر، ولكنها لم تصب حين زعمت أن الشعراء الغاوين ليسوا شعراء؛ لأن الشعر في نظرها هو السمو بالإنسانية، وهناك قضية ثانية أثارها الدكتور طه حسين، فكثرت المناقشة فيها، والتحدث بها كأنها نعمة ربك …

إني لا أخشى أن يصح بنا نحن اللبنانيين، هذا البيت المشهور:

ألهى بني تغلب عن كل مكرمة
قصيدة قالها عمرو بن كلثوم

إن رأى الدكتور محترم، ولكنه دائمًا مغالٍ، ينهج نهج برناردشو في إثارة الشئون والشجون، هاله أن تحتجب مجلات مصرية خطيرة كانت ساحة نضاله الأدبي، وسره أن يرى أخوات لها تظهر في لبنان، فتلفت يولينا سؤال الكريم عن جيرانه كما يقول «صديقه» أمير الشعراء أحمد شوقي. أما القول الفصل فهو للتاريخ بعد حين، يوم تتبدل الموازين والمكاييل والكيالون …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤