النقد الثالث والستون

٢٤ / ٣ / ١٩٥٤

ألمَّ فضيلة الشيخ منصور رجب بالسيد جمال الدين الأفغاني حتى جعله ممن يعرفون الغيب.

إن ربع ساعة من الوقت لا يكفي للتعريف برجل ملأ عصره، وكان وجوده قذى في عيون المسلطين والمتسكعين في ظلال خرافاتهم وتقاليدهم.

كانت محطة الشرق الأدنى تحتفل بذكرى وفاته كل عام، أما في هذه السنة وهي الذكرى الستون لوفاته، فتنادى الأدباء والمفكرون في الأقطار العربية وسائر الشرق الأوسط إلى عقد مؤتمر ثقافي بالقاهرة؛ احتفالًا بذكرى هذا الشهاب الثاقب الذي سطع في سماء المشرق، فأنار البصائر، ومزق الظلمات المدلهمة التي كانت تلف الشرق بمسحها الأسود.

حقًّا إن العلماء هم سراج الأزمنة، وقد كان جمال الدين سراجًا وهاجًا منيرًا — رحمه الله.

وكان حديث التشابه بين الأدبين الإنكليزي والعربي عميقًا واسعًا، فأزال عن عيون المستهزئين بأدب أمتهم تلك الغشاوة السميكة، فأفهمهم أننا فاعلون ومنفعلون، ولنا يد في تكوين الآداب العالمية، وهذا ما أشار إليه العلامة المستشرق جب الإنكليزي منذ سنوات.

إن شعراء الغرب وكتابه تأثروا بأدبنا، وأحبوا أن يتحدثوا عن الشرق بعلم وغير علم، فقال شكسبير في إحدى رواياته: إن السفن رست في حلب، كما قال شاعر فرنسي، ولعله ده هيريديا: إن جبال لبنان تدخن.

وقدمت الآنسة نور سلمان الأستاذ موسى سليمان، فتحدث عن اللغة العربية وطواعيتها، وأخذ على الطالب العربي أنه لم يعرف الحقيقة، أما ما هي تلك الحقيقة، فهذا ما لم يقله لنا الأستاذ سليمان، فليته يضع أصبعه على الدمل، ويقول: هنا العلة.

وقصارى القول أن الأستاذ سليمان فاهم إننا:

نعيب «لساننا» والعيب فينا
وما «للساننا» عيب سوانا

وتحدث الأستاذ روكس بن زائد العزيزي تحت عنوان: «كتب أعجبتني»، ولكنه غالى جدًّا في وصف ما أعجبه حتى قال: «وكأنه وحي من الوحي.» بالغ ابن زائد في الإطراء، فمشي في حديثه على سنن القدماء، وكال مثلهم الثناء بالمد، إنه لم يجد في الكتب التي أعجبته غير الجمال، وهو معذور لأن عنوان حديثه: «كتب أعجبتني».

وعين الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تبدي المساويا

وكان الكتاب الذي راجعته الدكتورة سهير القلماوي مفيدًا جدًا للآباء والأمهات والمربين. عنوان الكتاب «الطفل الحر» ويقول مؤلفه: إن مهمة المربي هي أن يزيل الشذوذ، وإن التربية الحديثة هي إنماء الشخصية.

إذا صحت عند بعضهم هذه القاعدة، قاعدة ترك الطفل يركب رأسه، حتى إذا ما شجه رحنا ننصحه أن لا يعود لمثلها، فهي — في نظري — لا تصح عند الكثيرين، فأنا أرى أن لا بد من المجز لتكوين شجرة بستانية.

وفي موضوع الكتاب الذي لخصته الدكتورة سهير قلماوي تناقش الأساتذة حسني فريز وراجي عبد الهادي وفايز الغول، إنهم ثلاثتهم يضربون في التربية بسهم، فتحدثوا عن البناء الذاتي، وكان للمستمع من حديثهم فائدة ومتعة.

أما النقيب حركة، وهو شخصية الأسبوع، فقد استحق شكر لبنان، قدمه الأستاذ نجاتي صدقي فأفضى هو إلينا بجميع المعلومات المسلكية التي تهم المستمع، فأضاف القول إلى العمل الذي أشاد بذكره.

وكان حديث «بيني وبينك» بين الأستاذ محيي الدين النصولي والسيدة أمينة السعيد، وكلاهما شهير في دنيا القلم والفكر، فزود المرأة بنصائح قيمة، حلاوتها في صراحتها.

وفي روضة الشعر أسمعنا خيامنا العربي الشاعر التائه أحمد الصافي النجفي شعرًا خياميًّا من ترجمته، فجاء كأنه مشتق من روحه النبيلة.

روى الصافي عن الخيام ما ترجمته:

إذا كنت تجزي الذنب مني بمثله
فما الفرق ما بيني وبينك يا ربي

يذكرني هذا وكثير من مثله في شعر الخيام بقول مار إفرام السرياني، وهو أول من شق طريق إسقاط الكلفة بين الشاعر وربه، ولست أحسب الخيام إلا مطلعًا على شعر إفرام الذي كان معروفًا في عصره.

وسمعنا من الشاعر سعيد عقل مقطوعات من شعره الرائع، ولا شك في أنها راقت لمن سمعوا وفهموا، وعلى كل فسعيد لا يعنى إلا بالنخبة، أكثر الله منها بيننا لنتمتع بمثل هذا الشعر الصافي.

إن قصة «بين القبور» للأستاذ عز الدين المناقلي تشكو من السرد الذي يحول دون اطراد السير، فتنقلت قصة المناقلي ببطء، ولم تبلغ الهدف إلا منهوكة، فليته ينعشها ثاني مرة بتصوير شخوصها تصويرًا ناتئًا، وباللون المحلي الخاص لا العام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤