الفصل السابع والسبعون

تركيا

ليس في التعلات أعجب مما يتعلل به الإنجليز، ولا في المحاوَرات أغرب مما يستدلون به، لا مقدمات بينة ولا حجج قيمة، وأقوى ما يكون من أدلتهم أولى به أن يكون في معرض الهزل من أن يكون في جانب الجد، ولكن أغرب من جرأتهم على الجهر بمداعبة الأمم بما هو أشبه بالترهات: إصغاء الآذان لما يقولون وانصراف الأذهان عن بيان الهجو فيما يوردون، وإظهار الوهن فيما به يتعللون؛ ليتهتك الستار عن أغراضهم، وتظهر خفيات مقاصدهم، وترتفع الريبة عمن يخدعون بملاعباتهم.

إن الإنجليز ساقوا جيشًا إلى مصر وبوَّءُوه أرضها مدة لا تزيد على سنتين، فكان حُلُول جيشهم سببًا في انحلال النظام، واختلال الأحكام، وعموم الفساد في أرجاء البلاد، حتى صار الناهبون وقُطَّاع الطرق على نحو الجيوش المنظمة سرايا وكتائب تزحف للغارة على القُرَى والبُلْدان ضاحية بلا استتار، وسرى الاختلال في عموم الأعمال الإدارية والقضائية، ففقدت الأمنية على الحقوق كافة، وسقطت البلاد بسبب ذلك إلى درك من الضيق والعسر لم يكن يخطر على بال، وما كان شيء من تلك الفظائع ولا واحد من هذه المفاسد ولا قليل من هاته الشدائد موجودًا أيام الحركة التي سموها فتنة عسكرية، واخترعوا منها دليلًا على الفوضى، وزعموا فيها وسيلة للتداخُل بعساكرهم.

حالة مصر شاهدةٌ على أنه لم يكن للاختلال فيها اسمٌ ولا للفوضوية أثرٌ إلا بعد ما وطئ الإنجليز أرضها، ومع ذلك يزعمون أنهم ما أتوها إلا لتقرير الراحة وإصلاح النظام وإزالة الفوضى، ويريدون أن تمتد إقامتهم فيها إلى أجل بعيد؛ ليتمموا القصد الذي أتوا إليه، وشرطوا جلاءهم عنها برسوخ الأمن وانقطاع شأفة الاعتداء، واجتماع خواطر الأهالي على الرضا بما يُرسم عليهم من السائدين في ديارهم والتسليم لما يُقضي به فيهم!

ألا يعجب من هذه التعلة؟! هل يوجد أبله في أي أمة يظن في المصريين الركونَ إلى السكينة ما دام الجيش الأجنبي متبوئًا ديارهم؟! أليس وجود عسكر أجنبي تحت أنظارهم كافيًا في نفرة قلوبهم وازدياد شغبهم؟! الطبيعة تحكم باستحالة ما يطلب الإنجليز منهم، والتجربة من مدة سنين طبقت بين الحكم العقلي وبين الواقع الحقيقي، هل يمكن سلامة خواطر المصريين من القلق بعدما علموا أن الإنجليز لم يفتتحوا بلدًا من بلاد الشرق إلا تحت راية هذه الحجج وعلى هذه الطَّرِيقة التي يسلكونها في مصر؟! وهل كان لهم سلطان في جهة من جهات الشرق إلا بدعوى أنهم يُريدون فيها الإصلاح ثم ينجلون عنها أتقياء الراحات أعضاء الذيول؟!

ماذا يريدُ الإنجليز من تقرير الراحة بعساكرهم في مصر؟ هل يُريدون مكافحةَ اللصوص حتى يقهروهم على طرح السلاح ويقوا الأهالي شرهم؟! إن كان هذا قصدهم فيا خيبة الأمل! فإن شيئًا من هذه الفظائع لم يكن إلا وجيوشهم نازلة بالبلاد، فكَأَنَّما كانت تلك الجيوش مثارًا لهذا الفساد، مضى عليها سنتان وهي في معاقل مصر وهَبَّتْ أعصار السوء بقدومها، وكلما طال الزمان زاد الخطر وقويت عصابات الشر، فماذا قد يكون منها في ثلاث سنين ونصف إلا مثل ما كان من أثرها في سنتين أو أشد فتنة؟

فكيف يُعقل أن يكون بقاؤها في مصر مُفيدًا لرد الأمن إليها، وهل تكون علل المفاسد مجلبة للمصالح؟! نعم يكون هذا إذا قيل: إن حصو الرمضاء يطفئها أو إن وقود النار يخمدها! هل يقصدون من تقرير الراحة إخمادَ فتنة السودان؟! إن صح هذا القصد منهم فمتى سعوا إليه، وأَيَّ جيش ساقوه، وأي قوة وجهوا بها لتكسر سورة الثورة وتمحو أثرها؟

تهافتوا بجيش عظيم على منازلة رجل من رجال محمد أحمد «عثمان دجمة» في سواحل البحر الأحمر، فما كانت إلا مهارشة هرت فيها العساكر وبلغ صوت وقوف القواد إلى أقاصي المسكونة، وارتد بهم الذعر إلى البحر، وقفلوا إلى ديارهم يتلفتون إلى ما وراءهم خوفًا ورهبةً.

كان الواجب أن يتبعوا عثمان دجمة إلى بربر والخرطوم حتى يُبَدِّدوا جُنْدَه ويلحقوا به صاحب الدعوة، فإن عجزوا عن الكل فلا أقل من أن يأتوا على بعض، فما الذي صدهم عن سبيل القصد، لو كانوا فيه من الصادقين؟ رجعوا وتركوا جوردون باشا في فم التنين ثم التجئوا إلى ملك الحبشة؛ ليثيروا به حربًا صليبيةً تسود بها وجوه الكاذبين الذي يزعمون أنهم دعاة الإنسانية ورعاة التمدُّن.

فماذ يكون من عساكرهم لو أقامت في مصر أضعاف ما أقامت؟ أظن لا يختلف المستقبل عن الماضي إلا بعِظَم خُطُوبه واشتداد نوبه.

هل يبتغون المحافظة على حدود مصر الأولى وحمايتها من هجمات السودانيين، ويقفون عند حد المُدافعة ولا يذهبون إلى ما وراء ذلك؟! إن كانتْ بغيتهم، فهي بغية البقاء في مصر ما دامت مصر أو السودان سودانًا؛ لأن صيال الثَّائرين يُتوقع في جميع الأطراف من حدود مصر.

وأداموا قائمين بنشر هذه الدعوة، بل كلما طال الزمنُ اشتد خطرهم وقويتْ أعضادُهم، وكل كرة لهم أو فرة تقوم بها للإنجليز حجةٌ في ملازمة الحدود المصرية للدفاع عنها فلا يكون لحُلُول الجيش الإنجليزي بأرض مصر أمدٌ ينتهي ولا أجل ينقضي، فما لهم ينسبون على الدول والدولة العثمانية والمصريين بتحديد مدة الحلول إلى ثلاث سنوات ونصف مع سرد الألفاظ المبهمة كتقرير الراحة وحفظ النظام وإعادة الطمأنينة … إلخ، مما يُسمع ولا يُفهم؟!

وليس من المُبالغة أن نقول: إن حُلُول الجيش الإنجليزي كان — وسيكون — من أعظم الأسباب لقوة محمد أحمد، ولولا وجود العساكر الإِنجليزية في مصر ما تمكن الرجل من الجهر بهذه الدعوة العظيمة، ولقد كان يتبرأ من نِسبتها إليه أيام كانت الحكومة المصرية خالصة للمصريين، بل ما كان يجد أحدًا يلبي دعوته أو يدخل تحت رايته.

هذه تواريخ الأمم وهذا سير طبيعة الكائنات، ترشد المستبصرين إلى أن مثل هذه الدعوة لا يقوم قائمها في أمة إلا عند اشتداد الخُطُوب عليها وزحف الأغراب إليها، أي حجة لمحمد أحمد في دعوة النَّاس إليه وأي نفثة تجمع القلوب عليه أقوى من أن يقول: إن الإنجليز من نيتهم الاستيلاء على أرض مصر، وهي في عِداد الأراضي المقدسة وباب الحرمين الشريفين ومهد العلوم الدينية ودعامة القوة الإِسلامية، فمن كان يؤمن بالله ورسوله فَلْيُجِبْ داعي الله في مدافعتهم، وإنقاذ البلاد من رجسهم، وهذا الكلام مما يزعج قلب كل مسلم ويبعثه على الاتفاق مع صاحب النداء.

هل يُتوهم بعد سقوط الخرطوم وجيش الإنجليز حالٌّ بأرض مصر أن تقف دعوة محمد أحمد عند تخوم محدودة وهو الزاعم أنه منقذ المسلمين؟ هل يبعد عند العقل أن يمتد لياق شعلته إلى أقطار إسلامية يَخشى الإنجليز منها غائلة الفتنة كما يخشونها في الهند؟ قد نرى الحالةَ أقرب إلى المخافة منها إلى الأمن، وسيعلم الإنجليز أنهم كانوا أَحْوَجَ النَّاس إلى السلم وأَفْقَرَهم إلى القناعة.

أي قوة تقف هذه الدعوة وتحجبها عن الانتشار، بل تردها على قائلها وتذهب بها كأنْ لم ينطق بها لسانٌ أو يُذعن لها جَنَان؟ ليس لقوة أن تأتي بهذا الأثر على أحسن وُجُوهه إلا قوة العثمانيين وأولي العزم من المصريين.

هل تظن دولة بريطانيا أن عقد مؤتمر لتصفية الدين المصري يبطئ سير محمد أحمد، أو يخفف من وطأته، أو يرده على عقبه، فتنال مقصودها وتصبح آمنة مطمئنة في ديار مصر؟ إنها إلى الآن في عجز عن إرضاء الدول بقبول الأُصُول الابتدائية التي تحب أن تكون موضوعًا لبحث المؤتمر.

إن تصفية الدين المصري يهم إنجلترا وحدها ولا نظنه يهم الدول ولا يهم محمد أحمد، وإنا نرى الدول — خصوصًا دولة روسيا والنمسا والأمة الفرنسية — مهتمة كل الاهتمام بكشف مقاصد الإنجليز والنبش عن غاياتهم فيما كانوا شرطوه من تخصيص البحث بالمسائل المالية، حتى إن شدة المعارضات، وكثرة المفاوضات، والاشتداد من الدول في طلب تعميم البحث في المؤتمر لِيحيطَ بجميع فروع المسألة المصرية؛ أحدث شكًّا عند صاحب جريدة التايمس في انعقاد المؤتمر، ودفع بالمسيو جلادستون إلى ربكة شديدة، فهو مِن أمره في حيرة لا يهتدي إلى ما يسكن به خواطر الدول، بل ولا ما يقنع به أوداءه المخلصين، بل ولا ما يوفق به بين زملائه في الوزارة؛ لتفرق كلمتهم وتبايُن آرائهم.

أما قائم السودان فهو في إعراضٍ عن كل هذه المجادَلات وإغضاء عما يكون في عرضها من المحاولات، سواء عنده انعقد المؤتمر على رغبة الإنجليز أو على وفق الآراء العمومية، وهو مغذ في سيره، ذاهب وراء فكره، ولا يمر يوم من أيامه إلا ونسمع فيه بخبر فتح أو حديث زحف، حتى جاءت الأخبار الأخيرة بدخوله عاصمة السودان «الخرطوم».
  • وورد في برقية من القاهرة إلى «الديلي تلغراف» بتاريخ ٣ يوليه أنه وصلت رسائلُ مِن بعض عساكر السودانيين وهم في مدينة الخرطوم إلى أُناس يوثَق بهم في القاهرة، ذكر فيها أن حامية المدينة ضعفت عن دوام المدافعة، وأعلن محمد أحمد بتأمين جميع السكان على أرواحهم وأموالهم وأخذ على نفسه وقايتَهم من كل ضرر يتوقعونه، فبضعف الحامية وثقة الأهالي بوعد الفاتح فتحت المدينة بغاية السهولة في نهاية شهر مايو بدون سفك دم، وأن كثيرًا من الإفرنج أسلموا، وأن جوردون مع كونه مستمسكًا بدينه ولم يبدل دخل في أمان الفاتحين وسيق إلى محمد أحمد محفوظًا لم يمسه سوء.

  • وفي خبرٍ آخر بالتاريخ عينه أن القسيس «سوقارو» وكهنة الرسالة الكاثوليكية في السودان وردت منهم أخبارٌ من أهالي الخرطوم تُفيد أن المدينة فُتحت ووقع جوردون أسيرًا، وما زال إلى الآن على قيد الحياة، ونقلت جريدة «الديلي تلغراف» أن تاجرًا في القاهرة أتاه كتابٌ من جنوب بربر يخبره أن الخرطوم مفتوحة الأبواب لمن يقصدها بالتجارة وإن كانت في قبضة جيوش السودان. وفي رسالة من مكاتب التان بسواكن أن جماعة من الوُجهاء في مدينة الخرطوم دفعتهم الحمية للانتقام من جوردون أخذًا بثأر الضابطين اللذَين قتلهما بتهمة الخيانة (حسين باشا وسعيد باشا)، فهجموا عليه وقتلوه، ثم اتفقوا مع المحاصرين على تسليم المدينة فدخلوها آمنين، ويزعم المراسل أن للحكومة البريطانية علمًا بهذه الحادثة من زمان طويل إلا أنها كتمته خيفة هيجان الأفكار عليها. ونحن لا يهمنا موت جوردون ولا حياته ولا راحته ولا عناؤه، وإنما يظهر من كل هذه الأخبار أن الخرطوم أصبحتْ سودانية لا إنجليزية ولا مصرية، فإن تمكنت وزارة مسيو جلادستون من تفنيد المستفيض من هذه الروايات فربما يصعب عليها المكابرة فيما يعقبها. إن شوكة الداعي تقوى بعد فتح الخرطوم، وتمهد له سبلًا عديدةً للوصول إلى مصر العليا أو السفلى، وإن تأثير دعائه يقطع مسافات بعيدة في هنيهات قصيرة.

ماجتْ خواطرُ المصريين واهتزت قلوبهم؛ لسماع هذه الأخبار، وربما نسمع بعد اليوم أن ريح الجنوب حملتْ قسطلًا تثيره سنابك خيل الفتنة وجاوزتْ به حدود مصر، فإن كان هذا شأن الحركات في بلاد السودان فتعليق الإنجليز جلاءهم على انقطاعها يشهد برغبتهم في الاحتلال الدائم ما بقي محمد أحمد وما بقيت له خلفاء.

على أننا نرتاب في قدرة عساكرهم على صيانة التخوم المصرية، فقدْ ظهرت نهايةُ قوتها على سواحل البحر الأحمر. نعم ربما يختلج بخواطر الوزراء البريطانيين أنْ يخدعوا الدولة العثمانية ويَحْملوها على الحكم بعصيان محمد أحمد وتضليله ليحولوا القلوب عنه ثم يجنوا الثمرة كما جنوها من الحكم بعصيان أحمد عرابي، ولكن قد تبين الرشد من الغي، وظهر للدولة العثمانية سوءُ طوية الإنجليز وعدوانهم على حقوقها، فليس من المحتمل أن تنخدع لهم مرة ثانية ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.

كما أنه يشبه المحال أن عثمانيًّا يُجوِّز سوق الجيوش العثمانية إلى السودان لتذليله وعساكر الإنجليز في القاهرة، ينتظر العثمانيون بعد انقضاء الفتنة نهايةَ المُراوغات الإِنجليزية حتى تئول مسألةُ مصر إلى مِثل ما آلتْ مسألة بوسنة وهرسك مع دولة النمسا، فعلى العثمانيين وأصحاب العزيمة من المصريين أن يُجمعوا أمرهم على كشف هذه النازلة؛ صونًا لأوطانهم، ولاتقاء شر ربما يحدث في جهات أخرى، فإن قضى حرص دولة الإنجليز بصد أرباب الحقوق الشرعية عن أداء المفروض عليهم جهلًا منها بمصلحة نفسها وبمصالح تلك البلاد؛ فعلى العثمانيين أن يُقيموا الحُجَّة بسيوفهم وجيوشهم لا بالرقائم والأوراق؛ فإن هذا فساد لو أهمل لعَمَّ وعمت زواياه، ولا نظن أن دولة بريطانيا تثبت على نفختها هذه، فإنها ستشتغل بداخل البيت عن خارجه بعد قليل.

لسنا نقولُ ما نقول جزافًا، ولكن دعوة القائم السوداني أُشربتْ قلوب الأكثرين في الهند وبلوجستان وأفغانستان، وقد علق شرر الثورة بأهداب الخواطر فلا تلبث أن تلتهب، فللدولة العثمانية أن تمد نظرها إلى أعماق المسألة وتقدر قوة الإنجليز وأهبتهم العسكرية، مع ملاحظة ارتباكاتهم في ممالكهم وظهور عجزهم وضعفهم في الحوادث الأخيرة، ومراعاة آراء الغالب من الدول العظيمة.

وبعد الإحاطة بهذا كله — وهي أسهل من كل سهل — تظهر عزمًا ثابتًا وبأسًا قويًّا يَليق بدولة عظيمة كدولة آل عثمان طالما ظهرت على يديها خوارقُ العادات — ولله الأمر من قبل ومن بعد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤