الفصل الثاني والتسعون

لاهور

جاءتنا رسالةٌ من لاهور باللغة الهندية (ورجاؤنا أن تكون المكاتبة فيما بعد باللغة الفارسية) فرأينا أن ننشر ملخصها: قال الكاتب:

«إنا نسمع صاحب جريدة «أخبار عامة» اللاهورية ينادي من صميم قلبه بأن الإنجليز سلاطيننا، خصوصًا عند كلامه في الانتقاد على العروة الوثقى، ومن غريب كلامه قوله: إن غرض العروة أن تفصم رابطة الاتحاد بين الرعايا الهنديين وسلاطينهم الإنجليز، ولا يخجل من قوله: إن سلاطيننا الإنجليز هم الذين زينوا الهند بإصلاح طرقه ومد السكك الحديدية في أنحائه ووَصْل أرجائه بأسلاك التلغراف. كَأَنَّما الإنجليز من سلالة بكر «ماجيت» أو من جنس «الجهتري» أو من أحفاد «أكبر شاه الهندي»!

وإذا سمع سامع صوت هذه الجريدة على بعد يظن أن هذه الأعمال التي زينوا بها الهند — على رأي الجريدة — ما قام بها الإنجليز إلا لمنفعة الهنديين، ويتوهم أن الهنديين جنوا من ثمرتها شيئًا، وأن ضجرهم من سلطة الإنجليز ونزوعَهم إلى التملُّص منها إنما هو من كفرانُ النعمة.

يا عجبًا من هذا البانديت اللاهوري! إنه يرى فقر أبناء وطنه ومسكنتهم ويشهد بعينه أنهم لا يجدون ما يسدون به رمقهم، وأن أسعد النَّاس منهم من يحصل عشر روبيات في الشهر بعد أن يبلغ درجةً عالية من الكمال، ومن جملتهم نفس صاحب الجريدة، فكيف يطيل لسانه بشكر هذه الحكومة ويضع على ظهور الهنديين حملًا ثقيلًا من المنة لمد سكك الحديد وخطوط التلغراف؟! إن كانت حكومة الإنجليز تسوس الهند بالعدل، فأين ذهبت ثروة أهاليه مع خصب الأرض ووفرة الثمرات؟! ولأي سبب ابتُلي النَّاس بالفقر حتى لا يجدوا قوتًا؟!

إن الجرائد الإِنجليزية في الهند تُنذر حكومتها بأنه لو استمرتْ الإدارة الهندية على حالها هذا فلا يمضي عشر سنوات إلا وتكون فتنة عمومية تأخذ بجميع أطراف الهند ويكون منشؤها الجوع، فإذا أنشأت الحكومة الإِنجليزية سكك الحديد لنقل بضائعها وترويج تجارتها وحمل العساكر لقتل أبناء البلاد، وليس عند الهنود الآن ما يباع ويشترى حتى يستفيدوا من سهولة نقله، فلأي شيء تكون المنة على الهنود؟! وإذا مدت خطوط التلغراف لاستطلاع ما يجري في ممالكها وتسهيل المخابرة بين رجالها، فأي منفعة في هذا توجب مسرة الهنود؟!

إن رجال الإنجليز بعدما دخلوا البلاد على هيئة تجار وكانوا يخضعون للصغير والكبير أزيد من قرن، بلغ من أمرهم الآن أن لا يعدوا الهنود من فصيلة البشر، إذا أراد الإنجليزُ أن يجمعوا أعيان البلاد لِإلزامهم بأداء ضريبة جديدة هيئوا مكانًا عليًّا يرتفع عن الأرض نحو ثلاث أذرع لتوضع عليه كراسي سادة الإنجليز، ويجلس الهنود في منخفض من الأرض إظهارًا للامتياز، مع أنهم ما جمعوهم إلا لسلخ ما بقي من جلودهم وامتصاص ثملة دمائهم.

أي أمة متوحشة أو متمدنة تعامل أمة أخرى بهذه المعاملة؟! أحلف بالله أن جنس الهندو (قوم برهما) حينما قدموا من إيران وفتحوا الهند ما عاملوا السكنة القدماء بهذه المعاملة مع أنهم كانوا يعتقدون أنفسهم سماويين، وما أذلوا جنس «الباريا» بهذه الدَّرَجَة مع أنهم كانوا يزعمون أنهم أبناء الآلهة، قبلوا جنس «التلنكان» في مصافهم وأشركوه في حقوقهم مع كونه مغلوبًا لهم.

فتح المسلمون أرض الهند فعاملوا الوثنيين كمعاملتهم لبني ملتهم وما حرموهم من الوظائف السامية، وما من سلطان مسلم تسلط في الهند إلا كان له من الوثنين عمال ووزراء، كان المسلمون يسيرون مع الوثنيين سيرة الإخوة حتى أوقع الإنجليز بينهم الشقاق في بنجاب وأطراف مدراس.

يزعم الإنجليز أن المسلمين أولو تعصب ديني يجور بهم عن العدل، مع أننا نرى إلى الآن في الهند حكومات صغيرة يحكمهم راجوات ونوابون من أهل السنة والشيعة ونرى للراجا الوثني وزيرًا مسلمًا وعمالًا مسلمين وللنواب المسلم وزيرًا وثنيًّا وعمالًا وثنيين، وهكذا السنيون مع الشيعة والشِّيعِيُّون مع أهل السنة، ولا نرى في الملايين الكثيرة المحكومة بالإنجليز رجلًا هنديًّا في وظيفة شريفة.

إن هذا البانديت (صاحب أخبار عام) لا يخجل من قوله: إن الإنجليز سلاطيننا، أي سلطان يستكشف من شرف رعيته ويعدهم في عداد البهائم؟!

إن اللورد ريبون لما صار حاكمًا على الهند ورأى أن روسيا وصلت إلى مرو وأحس بنفرة الهنود من الحكومة الإِنجليزية واستعدادهم للثورة؛ أراد أن يُطيِّب قلوبهم بأمرٍ حقيرٍ يسخر منه الأبله — فضلًا عن الحكيم — وهو توظيف «رام جندر متر» ومولوي محمود بن أحمد خان في وظيفة القضاء ببلدة صغيرة، وهما ممن تعلم الشريعة الإِنجليزية في بلاد الإنجليز (انظر كيف يطيب قلب أمة عظيمة مجروحة الأفئدة ساقطة في جحيم الشقاء بمثل هذه النكتة المضحكة)، وهذا الالتفات من اللورد لكمال سياسته وحذقه، فماذا يكون موقع الهنود من نظره إذا كان يظن أن الأمم العظيمة المحترقة بنيران الظلم من أزمان تعترف بعدالة الإنجليز لمجرد توظيف شخصين وظيفة صغيرة؟!

إن هذا مما عَدَّهُ اللورد الإنجليزي أمرًا لازمًا لصون سياسته مما عساه يطرأُ عليها، ومع هذا قام الإنجليزُ في الهند ورفعوا شكواهم إلى لندن من تصرف اللورد، ولا يزالون يرفعون ويقولون: كيف يجلس «كالا» أي الهندي الأسود على منصة القضاء، وربما يأتي وقتٌ تقام فيه الدعوى بين يديه على إنجليزي فيصدر الحكم منه عليه؟ (كيف يصدر الحكم من هندي على إنجليزي؟) فليعتبرْ مَنْ يعتبر.

إن الإنجليز لا تسمح نفوسهم أن يعترفوا بإنسانية الهندي ولو للضَّرُورَة، أيحب البانديت اللاهوري أن يلقي غشاوة الغش على عينيه وأعيُن إخوانه ويفتري الكذب بقوله: إن بين الهنديين وحكومتهم نوعًا من الالتئام؟! وهل مثل هذه الحكومة يلتئم معها ذو إحساس؟!

إن البانديت يقول في جريدته وفي أثناء انتقادِهِ على العروة: إن سلالة الأُمراء وأبناء العائلة التيمورية (ملوك الهند) عراةٌ في الأسواق، يتضورون جوعًا ولا يجدون خُصًّا يأوون إليه، فإذا كان هذا حالُ الأمراء — باعترافه — فكيف يكونُ حال سواهم؟ وكيف طوعتْ له نفسُهُ أن ينطقَ بكلمة تُشعر بالرضاء عن حكومة الإنجليز؟ إنه يتملق للحكام ولكن لا أظنه ينال على التملق أكثر من عشر روبيات في الشهر، فليس له أن يُتعب لسانه ويُجهد نفسه مجانًا.

لا ينكر البانديت أن الإنجليز إذا خاطبوا هنديًّا لا يكلمونه إلا بالعصا، وإذا اعتدى إنجليزي على هندي فقَتَلَه حَكَمَ أطباءُ الإنجليز بأن القتيل مات بالسل المزمن أو داء الكبد أو بمرض عياء ورثه عن آبائه كي لا يُقاصَّ إنجليزي بدمِ هنديٍّ، فيذهب دم الهندي هدرًا.

إن ظلم الإنجليز وجورهم يظهر لكل قارئ من تلك الورقة الصغيرة «أخبار عام»، وإني أقول بلسان كل هندي — وثنيًّا أو مسلمًا، سنيًّا أو شيعيًّا: إن البانديت لا يمكنه بورقته هذه أن يقطب جروح الهنديين ولا أن يطفئ لهيب أحشائهم مما يرونه كل يوم من سلب الأملاك وإهانة الأديان وتضييع الحقوق وحرمان الأهالي من خدمة أوطانهم، وليس في طاقة قلمه أن يرفع شيئًا من الواقع ولا أن يحدث خاطر محبة الإنجليز في قلب هندي إلا مَن خربت ذمتُه ومرق من عهود دينه ووطنه، وإن البانديت يعرف هذا ولكنه يسعى لعله يحصل شيئًا زهيدًا ويقنع به بعضًا منا، وكثير من الشرقيين صارتْ حوصلتُهُم كحوصلة العصفور يملؤها حَبَّتَان من الحنطة! وسنكتب إليكم عن تفصيل الأعمال الإِنجليزية عندنا — إن شاء الله. ا.ﻫ.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤