الفصل الثالث عشر

كم حكمة لله في حبِّ المحمدة الحقة

العالم الإنساني كتاب المعتبر، وسفر المستبصر، وكل قرن من قُرُونه صفحةٌ، وكل جيل من النَّاس سطرٌ فيه أو جملة، ولنا في كل ما خَطَّهُ القلمُ الإلهيُّ عبرة.

أولُ ما يفيدنا النظر فيه وقوفُنا على أحوال الشعوب في أطوارها المختلفة، وأدوارها المتبدلة، فترى أُمَمًا علتْ وسمتْ وحلقتْ في جو المعالي وجازت في الرفعة مسارح النظر، ثم انحدرت بعد هذا وتدهورت وعفت رسومها، ولم يبق لها أثرٌ إلا في الروايات والأحاديث، ومنها أجيالٌ كانت في ثني العدم ثم اكتست حلية الوجود، واتخذت من الاجتماع الإنساني مكان الهامة من الجسد، ثم انطوت وأخنت عليها أمهات قشعم، ومنها ما نراه اليوم يسحب مطارف العِزَّة، ويشرف على العالم بالأمر والنهي من شواهق القوة.

فمن النَّاس مَن تتجلى له هذه الشئون وتلك الأطوار كما تعرض عليه التماثيل ينبسط لبعضها إذا أعجبه، وينقبض للآخر إذا أنكره، وهو في غفلة عن منشأ ظهورها وعلل انقلابها، فإنْ سُئِلَ عن السبب قال: سبحان الله! هكذا كان وهكذا يكون، وما هو إلا بخت يسعد فيسعد به السعداء، وينحسُ فيتعس به الأشقياء.

ومنهم من تنفذ بصيرتُه إلى الحقيقة، فيقف على ما هيأه الله من الأسباب التي تتبعها أحوالُ الأمم في صعودها وهبوطها، ويعلم أن ما سيق من الخير لأمة إنما كان بأيدي آحاد من أمثالها جَدُّوا وجاهدوا، وبما بذلوا من نفائسهم وأنفُسهم فازوا بتأصيل المجد لشعوبهم وبني جنسهم، ويرى لأولئك الأعلام ذكرًا يرفع ومكانة من القلوب تحمد، وتمييزًا عند الخلف بالكرامة، وهم لم يُخالفوا النَّاس في جُسُومهم ودمائهم، وإنما تقدموهم بهممهم، وقد يسوقه الاعتبارُ إلى الاقتداء بهم رغبةً في اقتطاف ثمار الثناء وتخليد الذكر، فإذا أخذ مأخذهم، واستقام على طريقهم فلا يكاد يخطو بعض خطوات ومبدأ المسير تحت نظره، حتى تتعثر أقدامه في أياد مقطعة، ورءوس مجذوذة، وأشلاء مبددة، وشعور منثورة، وصدور مدقوقة، ويشهد الطَّرِيق مضرسة بقبور الشهداء، من طلاب الحق والناهجين في منهاجه، ولا محيص عن سلوكها، وتبدو له غاباتٌ وأدغالٌ يرجع إليه منها صدى زئير الآساد وزمجرة الضراغم، ولا بد له من اختراقها.

هكذا تنكشف لطالب المعالي موحشات مدهشات مصاوَلة المخاطر أدناها، والموت الشريف أقصاها وأعلاها، فتارة يخور عزمه ويضعف همه فينكص على عقبيه، ويرتد إلى أسوأ حاليه، ويرتع في مراتع أمثاله، حتى يروح إلى عطنه الأَوْلى به وهو العدم، وتارة يوحي إليه الإلهام الإلهي أن الشخص في خاصته والأمم في هيئاتها ونوع الإنسان في مجموعه، تطالبها صورة الإبداع بأعمال شريفة دونها إجهاد الأنفس في السعي، وحملها على ما لا تهوى، ومغالبة الأهوال والغوائل، وفيما أودع الله الإنسان من القوى العالية، والخواص السامية، أكبر مساعد على ما تندفع إليه الهمة، وتنبعث له العزيمة.

إن مَن أحياه الله بالحياة الإنسانية كلما هاجمتْه المصاعب لا يزداد إلا حرصًا على قهرها، كما أن صاحب الشمم لا يزيده الخصام إلا حدة في الجدال، وإصرارًا على إقناع المخاصم، وكثيرٌ ممن على شكل الإنسان يحيا حياته هذه بروح حيوانٍ آخر، وهو يعاني فيها من الشقاء أشدَّ مما يعانيه الإنسانُ في إبراز مزايا الإنسان.

إن صاعد الجبل ربما يَجِدُ شيئًا من التعب ويخشى مفترسة الكواسر، ولكن قد ينجو منها ويستريح على القنة، ويعتصم بمكانه من الرفعة، وتقصر عنه يد المتناول، أما من أخلد إلى أسفل فحظُّهُ من الحياة خوفٌ لا ينقطع، وإشفاقٌ لا يزول، كل لحظة توعده بالسقوط في صيد الصائد، والوقوع بين أنياب الغائل، مات من النَّاس كثيرٌ في طلب العلاء ولم ينالوا، وبلغ كثير من المطالبين غاية ما أَمَّلُوا، ولكن هلك بالفتك أضعافُ هؤلاء وهؤلاء ممن رئموا الخمول، ورضوا بالحياة الحيوانية — هذه أحاديثُ الحق ونفثات الروح الزكية تبعث من أيده الله ووهبه نعمة العقل إلى مداومة السير واقتفاء أثر الماضين إلى أشرف المقاصد، فإما وصل وإما مات كما يموت الكرام.

لم تنل أُمَّةٌ من الأمم مزية من المزايا المحمودة عند بني البشر، سواء في العلوم والمعارف، والآداب والفضائل، أو القوانين والنواميس العادلة، أو العسكرية وقوة الحماية؛ حتى خرج آحاد منها إلى ما تخشاه النُّفُوس وتهابه القلوب، وسلكوا تلك المسالك الوعرة، فبلغوا بأممهم أقصى ما بلغت بهم هممهم، مع الاعتماد على العناية الأزلية في جميع سيرهم.

ماذا يريد القانون في خدمة الأمم أو النوع الإنساني، والمنفقون لحياتهم في أعمال فادحة يعود نفعها على من تجمعه معهم جامعة الأمة أو المِلَّة أو يشاركهم في النوع؟ أليس قد جعل الله لكل شيءٍ سببًا؟ أليس من سُنَّة الله في عباده أنْ لا تتجه الإرادة البشرية إلى حركة تصدر عن المريد إلا بعد تصوُّر غاية تعود إلى ذاته، وبعد اليقين أو راجح الظن بأنه يستفيد الغاية من العمل؟ فإن كل الأجل يذهب في مساورة الآلام الروحية، والعمر ينفد في مناهدة الأوصاب البدنية، فماذا يقصدون من أعمالهم؟ إن كان يوجد في أبناء جلدتهم، وذوي ملتهم، مَن يُساعد حوادث الكون إلى إيلامهم، وممانعَتهم في مقاصدهم، وصدهم عن السعي فيما يرجع خيره إلى أنفُس المعارضين، ويثخن فيهم جراح اللوم والتقريع والشماتة والتشنيع، أو يدافعهم بالمكافحة والمنازلة، فما الذي يبتغون مِن جَدِّهم وكَدِّهم؟ لا لذة تجتنى، ولا ألم يُتَّقَى، فما هذا الباعث القوي الذي غلب الأهواء، ولم يضعفه جهد البلاء؟

نعم، أودع الله في الإنسان ميلًا أقوى من كل ميل، وهو أخصُّ خاصة فيه يمتاز بها عن غيره من الأنواع، وهو (حُبُّ المحمدة الحقة وحُسْن الذكر من وجوه الحق)، أقول هذا تفاديًا من حب المحمدة من أي وجه، حقًّا كان أو باطلًا، وطلب الثناء بالزور والغش والرياء، والظهور بمظاهر الأخيار، مع تَبَطُّن سرائر الأشرار، فإن هذا من أسوأ الخلال، وإنما يعرض بعد اعتلال الفطرة وفساد الطبيعة.

المحمدة هي الغذاء الروحاني، والمقوم النَّفساني، وكلما قرب الشخص من الكمال الإنساني تَهَاوَنَ بالشهوات أو ازدرى باللذائذ الحسية، وقوي فيه الميلُ إلى المحمدة الباقية، وبذل الوسع فيما يفيدها من جلائل الأعمال، تأمل، إن الفاضل يرى له في هذا العالم أَجَلَيْن، أقصرُهما الأجلُ المحدود من يوم ولادته إلى نهاية العمر المقدر، والآخر أبعدُ من هذا نهاية، وبدايتُهُ عندما ينجم من عمله الصالح أثرٌ لمنفعة تشمل أمته أو تعم النوع الإنساني، وغاية هذا الأجل عندما يمحى أثره من ألواح النُّفُوس وصفحات التاريخ، فللروح الفاضلة وجودان: وجود في بدنها الخاص، ووجود في جميع الأبدان، وهو ما يكون بحلولها من كل روح محل الكرامة والتبجيل، ولا ريب أن هذا الأجل الطويل، وهذا الوجود العريض؛ خيرٌ من ذاك الأجل القصير، وذاك الوجود الكز،١ وحقيقٌ بالإنسان أن يبيع ما هو أدنى بالذي هو خير.

يطول بي الكلام فأقصر، إن الله الذي وهب كل نوع ما به كماله، وضع في جِبِلَّةِ البشر ميلًا إلى الحمد، وألهمهم تأدية حقه لمستحقه، ألم تر انطلاق الألسن في كل أُمة بالثناء على كل من كان سببًا لها في مجد ورفعة، أو نهوض من سقطة، أو توحيد كلمة، أو تجديد قوة، أو كمال في فضيلة، أو تقدم في علم أو صنعة، ويرسمونه في الألواح، ويسجلون مدحته في بطون التواريخ، ويرفعون له الهياكل والتماثيل، ويحفظون له ذكرًا حميدًا يتناقلُهُ الأبناء عن الآباء، حتى ينقرضوا وينقرض العالم.

إذا جحدت الأمة حق العالم لها، أو قصرت في استحسان عمله، ضعفت الهمم، وقل السعي في المصالح العامة، وانقبضت الأيدي عن تعاطيها، فهبطت شئون الأمة، فافترقت وماتت.

إن الله — جل شأنه — قرن كل حادث بسبب، فإذا استوى لدى الأمة الحسن والقبيح، والطيب والخبيث، والفضيلة والرذيلة، والمصلحة والمفسدة، وفقد منها التمييز، ولم تُقَدَّرْ أعمالُ العاملين حَقَّ قدرها، ولم تعرف معروفًا، ولم تنكر منكرًا، سلبت آحادها الميل إلى المعالي والكمالات، وكان هذا أشدَّ نكاية بها من جور الظالمين، وتغلب الغالبين.

وظلم الظالم لا يدوم، وسطوة الغالب لا تثبت، إذا كان جمهور الأمة يقابل الإحسان بالاعتراف، والفضل بالحمد، فإنه يوجد منها من يشتري هذه المكافأة بتخليصها وإنقاذها، وأما فقد هذا الإحساس الشريف، فهو أشبه علة بالهرم، لا عقبى له إلا الموت والهلاك.

كيف لا تكون المحمدةُ الحَقَّةُ نعمةً على النُّفُوس الإنسانية، يسعى لها الأعلون من بني الإنسان، وقد امتن الله بها على نبيه فيما يقول له: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ، وكيف لا تكون حقًّا تطالب به الطبيعة، وقد سمح الله لمستحقيها بالتحدث بنعم الأعمال الصالحات، كما سوغ ذلك لنبيه في قوله: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ.

قَلِّبْ طرفك في تواريخ الأُمم، أقصاها وأدناها، تجدْ برهانًا قاطعًا على أن الأمة متى بخست قيم الأعمال العالية، وازدُري فيها بشأن الفضيلة؛ فقدتْ ما به قوامها، وانهدم بناؤها، وذهبتْ كما ذهب أمس، ولا جرم أن الكفران مقرونٌ بزوال النعم.

يمكنني أن أختم كلامي هذا بكلمة شكر لهذه العصابة الطاهرة التي أقدمتْ في هذه الآونة النحسة، ووقفتْ على شفير الخطر، وكتبت على نفسها السعي في توحيد المسلمين، ويسرُّنا أنا نرى عددها كل يوم في ازدياد، نسأل الله نجاحَ أعمالها وتأييدَ مقاصدها، إنه نعم المولى ونعم النصير.

١  الكز: اليابس والمنقبض، والمراد هنا: ما لا خير فيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤