الفصل الثاني والعشرون

سُنن الله في الأمم وتطبيقها على المسلمين

إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.

(الرعد: ١١)

ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.

(الأنفال: ٥٣)

تلك آياتُ الكتاب الحكيم، تهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم، ولا يرتاب فيها إلا القومُ الضالون، هل يُخلف الله وعده ووعيده وهو أصدق من وعد وأقدر من أوعد؟ هل كذب الله رسله؟ هل وَدَّعَ أنبياءَه وقَلَاهم؟ هل غش خلقه وسلك به طريق الضلال؟ نعوذ بالله! هل أنزل الآيات البينات لغوًا وعبثًا؟ هل افترت عليه رسله كذبًا؟ هل اختلقوا عليه إفكًا؟ هل خاطب الله عبيده برموز لا يفهمونها، وإشارات لا يدركونها؟ هل دعاهم إليه بما لا يعقلون؟ نستغفر الله! أليس قد أنزل القرآن عربيًّا غير ذي عوج، وفصَّل فيه كل أمر وأودعه تبيانًا لكل شيء؟ تقدَّست صِفاته وتعالى عمَّا يقول الظالمون عُلُوًّا كبيرًا، هو الصادق في وعده ووعيده، ما اتخذ رسولًا كذابًا، ولا أتى شيئًا عبثًا، وما هدانا إلا سبيل الرشاد، ولا تبديل لآياته، تزول السماوات والأرض ولا يزول حُكمٌ من أحكام كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

يقول الله: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (الأنبياء: ١٠٥)، ويقول: وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (المنافقون: ٨)، وقال: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (الروم: ٤٧)، وقال: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا (الفتح: ٢٨). هذا ما وعد الله في محكم الآيات مما لا يقبل تأويلًا، ولا ينال هذه الآيات بالتأويل إلا مَن ضلَّ عن السبيل، ورام تحريف الكلم عن مواضعه، هذا عهده إلى تلك الأمة المرحومة، ولن يُخلف الله عهده، وعدها بالنصر والعِزَّة وعُلُوِّ الكلمة، ومَهَّدَ لها سبيل ما وعدها إلى يوم القيامة، وما جعل لمجدها أمدًا، ولا لعزتها حدًّا.

هذه أُمَّةٌ أنشأها الله عن قلة، ورفع شأنها إلى ذروة العلى، حتى ثبتت أقدامها على قنن الشامخات، ودُكت لعظمتها عوالي الراسيات، وانشقت لهيبتها مرائر الضاريات، وذابتْ للرعب منها أعشارُ القلوب، هال ظهورُها الهائل كلَّ نفس وتحيَّر في سببه كلُّ عقل، واهتدى إلى السبب أهل الحق فقالوا: قومٌ كانوا مع الله فكان الله معهم، جماعةٌ قاموا بنصر الله واسترشدوا بسُنَّتِهِ فأمدهم بنصرٍ من عنده.

هذه أُمة كانتْ في نشأتها فاقدةَ الذخائر، مَعُوزة من الأسلحة وعُدد القتال، فاخترقت صفوف الأُمم واختطت ديارها، ولا دفعتْها أبراجُ المجوس وخنادقُهم، ولا صَدَّتْها قلاعُ الرومان ومعاقلُهم، ولا عَاقَها صعوبةُ المسالك، ولا أَثَّرَ في هِمَّتِها اختلافُ الأهوية، ولا فعل في نفوسها غزارة الثروة عند من سواها، ولا راعها جلالة ملوكهم، وقدم بيوتهم، ولا تنوع صنائعهم، ولا سعة دائرة فنونهم، ولا عاق سيرها أحكامُ القوانين، ولا تنظيم الشرائع، ولا تقلُّب غيرها من الأمم في فنون السياسة.

كانت تطرق ديار القوم فيحتقرون أمرها، ويستهينون بها، وما كان يخطر ببال أحد أن هذه الشرذمة القليلة تزعزع أركان تلك الدول العظيمة، وتمحو أسماءها من لوح المجد، وما كان يختلج بصدرٍ أن هذه العصابة الصغيرة تقهر تلك الأمم الكبيرة، وتُمكن في نفوسها عقائد دينها، وتُخضعها لأوامرها وعاداتها وشرائعها؛ لكن كان كل ذلك، ونالت تلك الأُمَّة المرحومة — على ضعفها — ما لم تنله أمة سواها، نِعْمَ قومٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فوفاهم أُجورهم مجدًا في الدنيا، وسعادة في الآخرة.

هذه الأُمَّة يبلغ عددها اليوم زهاء أربعمائة مليون من النُّفُوس، وأراضيها آخذة من المحيط الأطلسي إلى أحشاء بلاد الصين، تربةٌ طيبة، ومنابتُ خصبة، وديارٌ رحبة، ومع ذلك نرى بلادها منهوبة، وأموالها مسلوبة، تتغلب الأجانبُ على شعوب هذه الأمة شعبًا شعبًا، ويتقاسمون أراضيها قطعة بعد قطعة، ولم يبق لها كلمة تُسمع، ولا أمرٌ يطاع، حتى إن الباقين من ملوكها يصبحون كل يوم في ملمة، ويُمسون في كربة مدلهمة، ضاقتْ أوقاتُهم عن سعة الكوارث التي تلم بهم، وصار الخوف عليهم أشدَّ من الرجاء لهم.

هذه هي الأمة التي كانت الدول العظام يؤدون لها الجزية عن يد وهن صاغرات، استبقاءً لحياتهن، وملوكها في هذه الأيام يرون بقاءهم في التزلُّف إلى تلك الدول الأجنبية، ويا للمصيبة ويا للرزية!

أليس هذا بخطب جلل، أليس هذا ببلاء نزل؟ ما سبب هذا الهبوط، وما علَّة هذا الانحطاط؟ هل نسيء الظن بالوعود الإلهية؟ معاذ الله! هل نستيئس من رحمة الله ونظن أنْ قد كذب علينا؟ نعوذ بالله! هل نرتاب في وعده بنصرنا بعد أن أكده لنا؟ حاشاه سبحانه، لا كان شيء من ذلك ولن يكون، فعلينا أن ننظر لأنفسنا ولا لوم لنا إلا عليها، إن الله تعالى برحمته قد وضع لسير الأمم سننًا متبعة، ثم قال: وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا (الأحزاب: ٦٢).

أرشدنا سبحانه في مُحكم آياته إلى أَنَّ الأمم ما سقطت من عرش عِزِّها، ولا بادتْ ومُحي اسمها من لوح الوجود؛ إلا بعد نكوبها عن تلك السنن التي سنَّها الله على أساس الحكمة البالغة، إن الله لا يغيِّر ما بقوم من عزة وسلطان، ورفاهة وخفض عيش وأمن وراحة؛ حتى يغيِّر أولئك القوم ما بأنفسهم من نور العقل وصحة الفكر، وإشراق البصيرة والاعتبار بأفعال الله في الأمم السابقة والتدبر في أحوال الذين جاروا عن صراط الله فهلكوا وحلَّ بهم الدمار، ثم لعدولهم عن سنَّة العدل، وخروجهم عن طريق البصيرة والحكمة، حادوا عن الاستقامة في الرأي، والصدق في القول، والسلامة في الصدر، والعفة عن الشهوات، والحمية على الحق، والقيام بنصره، والتعاون على حمايته، خذلوا العدل ولم يجمعوا همهم على إعلاء كلمته، واتبعوا الأهواء الباطلة، وانكبُّوا على الشهوات الفانية، وأتوا عظائمَ المنكرات، خارتْ عزائمُهم، فشحوا ببذل مُهَجِهم في حفظ السنن العادلة، واختاروا الحياة في الباطل على الموت في نصرة الحق، فأخذهم الله بذنوبهم وجعلهم عبرة للمعتبرين.

هكذا جعل الله بقاءَ الأُمم ونماءها في التحلِّي بالفضائل التي أَشَرْنَا إليها، وجعل هلاكها ودمارَها في التخلِّي عنها، سنَّة ثابتة لا تختلف باختلاف الأُمم، ولا تتبدل بتبدُّل الأجيال، كسُنَّتِهِ تعالى في الخَلْق والإيجاد، وتقديرِ الأرزاق وتحديد الآجال، علينا أن نرجع إلى قلوبنا، ونمتحن مداركنا، ونَسبر أخلاقنا، ونُلاحظ مسالك سيرنا؛ لنعلم هل نحن على سيرة الذين سبقونا بالإيمان، هل نحن نقتفي أثر السلف الصالح، هل غيَّر الله ما بنا قبل أن نغيَّر ما بأنفسنا، وخالف فينا حُكْمَه وبدَّل في أمرنا سُنَّتَه — حاشاه وتعالى عمَّا يصفون.

بل صدقنا الله وعده، حتى إذا فشلنا وتنازعنا في الأمر وعصيناه من بعد ما أرى أسلافَنا ما يحبون، وأعجبتْنا كثرتُنا فلم تُغن عنَّا شيئًا، فبدَّل عزنا بالذل، وسُمُوَّنا بالانحطاط، وغِنانا بالفقر، وسيادتنا بالعبودية، نبذنا أوامر الله ظهريًّا، وتخاذلنا عن نصره، فجازانا بسوء أعمالنا، ولم يبق لنا سبيلٌ إلى النجاة سوى التوبة والإنابة إليه، كيف لا نلوم أنفسنا ونحن نرى الأجانب عنَّا يغتصبون ديارنا، ويستذلون أهلها، ويَسفكون دماء الأبرياء من إخواننا، ولا نرى في أحدٍ مِنَّا حراكًا.

هذا العددُ الوافرُ والسوادُ الأعظمُ من هذه المِلَّة لا يبذلون في الدِّفَاع عن أوطانهم وأنفسهم شيئًا من فضول أموالهم، يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، كلُّ واحد منهم يَوَدُّ لو يعيش ألف سنة، وإن كان غذاؤُه الذلة وكساؤه المسكنة، ومسكنه الهوان، تفرقت كلمتنا شرقًا وغربًا، وكاد يتقطع ما بيننا، لا يحن أخٌ لأخيه، ولا يهتم جارٌ بشأن جاره، ولا يرقب أحدُنا في الآخر إلًّا ولا ذمة، ولا نحترم شعائر ديننا، ولا ندافع عن حوزته، ولا نعززه بما نبذل من أموالنا وأرواحنا حسبما أمرنا.

أيحسب اللابسون لباس المؤمنين أن الله يرضى منهم بما يظهر على الألسنة ولا يمسُّ سواد القلوب؟! هل يرضى الله عنهم بأن يعبدوه على حرف، فإنْ أصابهم خيرٌ اطمأنوا به، وإن أصابتْهم فتنةٌ انقلبوا على وجوههم خسروا الدنيا والآخرة؟! هل ظنوا أن لا يبتلي الله ما في صدورهم، ولا يمحص ما في قلوبهم؟! ألا يعلمون أن الله لا يذر المؤمنين على ما هم عليه حتى يَميز الخبيث من الطيب، هل نسوا أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم للقيام بنصره وإعلاء كلمته، لا يبخلون في سبيله بمال، ولا يشحون بنفس؟! فهل لمؤمن بعد هذا أن يزعم نفسه مؤمنًا وهو لم يَخْطُ خطوة في سبيل الإيمان، لا بماله ولا بروحه؟!

إنما المؤمنون هم الذين إذا قال لهم النَّاس إن النَّاس قد جمعوا لكم فاخشوهم لا يزيدهم ذلك إلا إيمانًا وثباتًا، ويقولون في إقدامهم: حسبنا الله ونعم الوكيل، كيف يخشى الموت مؤمنٌ وهو يعلم أن المقتول في سبيل الله حيٌّ يُرزق عند ربه، متمتع بالسعادة الأبدية، في نعمةٍ من الله ورضوان؟! كيف يخاف مؤمن من غير الله، والله يقول: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (آل عمران: ١٧٥)؟!

فلينظرْ كلٌّ إلى نفسه، ولا يَتَّبِعْ وساوسَ الشيطان، وليمتحنْ كُلُّ واحد قلبَه قبل أن يأتي يومٌ لا تنفع فيه خُلَّة ولا شفاعة، وليطبق بين صفاته وبين ما وصف الله به المؤمنين، وما جعله الله من خصائص الإيمان. فلو فعل كلٌّ منا ذلك لرأينا عدل الله فينا واهتدينا.

يا سبحان الله، إن هذه أمتنا أمة واحدة، والعمل في صيانتها من الأعداء أهمُّ فرض من فروض الدين عند حصول الاعتداء، يُثبت ذلك نصُّ الكتاب العزيز، وإجماعُ الأمة سلفًا وخلفًا، فما لنا نرى الأجانب يَصُولون على البلاد الإِسلامية، صولةً بعد صولةٍ، ويستولون عليها دولةً بعد دولةٍ، والمتسمون بسمة الإيمان آهِلون لكل أرض، متمكنون بكل قطر، ولا تأخذهم على الدين نغرة، ولا تستفزهم للدفاع عنه حمية.

ألا يا أهل القرآن لستم على شيء حتى تُقيموا القرآن، وتعملوا بما فيه من الأوامر والنواهي، وتتخذوه إمامًا لكم في جميع أعمالكم، مع مراعاة الحكمة في العمل، كما كان سلفكم الصالح، ألا يا أهل القرآن هذا كتابكم فاقرءوا منه: فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ۙ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ (محمد: ٢٠)، ألا تعلمون فيمن نزلت هذه الآية؟! نزلتْ في وصف مَن لا إيمان لهم، هل يسر مؤمنًا أن يتناوله هذا الوصف المُشار إليه بالآية الكريمة، أوغر كثيرين من المدعين للإيمان ما زُين لهم من سوء أعمالهم، وما حَسَّنَتْه لديهم أهواؤهم أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (محمد: ٢٤).

أقول، ولا أخشى نكيرًا: لا يمس الإيمانُ قلبَ شخص إلا ويكون أول أعماله تقديم ماله وروحه في سبيل الإيمان، لا يُراعي في ذلك عذرًا ولا تعلة، وكل اعتذار في القعود عن نصرة الله فهو آيةُ النفاق وعلامةُ البعد عن الله.

مع هذا كله نقول إن الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة كما جاءنا به نبأ النبوة، وهذا الانحراف الذي نراه اليوم نرجو أن يكون عارضًا يزول، ولو قام العلماء الأتقياء وأدوا ما عليهم من النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأحيوا روح القرآن، وذكروا المؤمنين بمعانيه الشريفة، واستلفتوهم إلى عهد الله الذي لا يُخلف؛ لرأيت الحق يسمو، والباطل يسفل، ولرأيت نورًا يُبهر الأبصار، وأعمالًا تحار فيها الأفكار.

وإن الحركة التي نحسها من نفوس المسلمين في أغلب الأقطار هذه الأيام تبشرنا بأن الله قد أعد النفوس لصيحة حق يجمع بها كلمة المسلمين، ويوحد بها بين جميع الموحدين، ونرجو أن يكون العمل قريبًا؛ فإن فعل المسلمون وأجمعوا أمرهم للقيام بما أوجب الله عليهم؛ صَحَّتْ لهم الأوبة، وصحت منهم التوبة، وعفا الله عنهم، والله ذو فضل على المؤمنين.

فعلى العلماء أن يسارعوا إلى هذا الخير، وهو الخير كله: جمع كلمة المسلمين، والفضل كل الفضل لمن يبدأ منهم بالعمل مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ۖ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤