الفصل الثاني

مصر

كانت حكومة هذه البلاد في الربع الأول من القرن الماضي (الهجري) تُعدُّ من نوع حكومة الأشراف، ويحسبها المؤرخون في تلك الأوقات بدرجة لا تعرف هيئتها، ولا يصل بحث الباحث إلى كُنهها، وإذا عبروا عنها بالتقريب قالوا: طرز قديم كان معروفًا في أغلب أنحاء المسكونة.

ثم أعجب الدَّهْر فيها بغرائبه بعدما فوضت أُمورها لمحمد علي باشا، فلم يمض قليلٌ من الزمن حتى دخلتْ في طور جديد من أطوار المدنية، وظهر فيها شكلٌ بسيطٌ من الحكومة النظامية وتقدمتْ فيه على جميع الممالك الشرقية بلا استثناء، وعُدَّ هذا التقدمُ السريعُ من عجائبِ الأُمور.١

هل كان في حسبان أحدٍ أن يستلم زِمام الحكومة في مصر رجلٌ من بعض قُرى الرومللي لم يتربع في دروس العلم ولم يجبل في مصانع السياسة، إلا أن طبيعته الفطرية كانت فائضةً بحب الحضارة، وبثِّ العلوم، وتأسيس قواعد العمران، مع تدفق همته لبلوغ الغاية مما يميل إليه؟!

تقدمت بعد ذلك فيها الزراعةُ تقدُّمًا غريبًا، واتسعتْ دائرةُ التجارة، وعمرت معاهد العلم، وانتشرتْ في أرجائها مبادئُ المعارف الصحيحة، وتقاربتْ أنحاؤها، واتصلتْ أطرافها بما أُنشئ فيها من سِكك الحديد وخطوط التلغراف، وتعارفتْ أهاليها، وائتلف الجنوبيُّ بالشمالي، والشرقي بالغربي، وقَوِيَ فيهم معنى الأخوة الوطنية، بعد أنْ كانوا لبُعد الشقة بين بُلدانهم كأنهم أبناءُ أقطار مختلفة، وتواصلوا في المعاملات، وتشارَكوا في المنافع، واعتدلت المشارب المذهبية، حتى كان لهم زمنٌ أحسن فيه كل واحد بنسبته من الآخر، وارتفعت بذلك أصواتُهم، بعدما جالتْ فيه أفكارهم.

تفجرتْ من أرض مصر ينابيعُ الثروة، وعمدت بقاعها وطفحت ففاض خيرها على ما يجاورُها من الأقطار الشرقية، بل وصل مَدُّ نِيلِها إلى أراضي البلاد الغربية، وتوارد إليها الغرباءُ، وقُصَّادُ الكسب من كل مكان، وما خاب لها قاصد، ولا أخفق فيها سَعْيُ ساعٍ، فأثرى في مغانيها الفقراء، وعز بها الأذلاء، وصارت قبلة لآمال كثير من الغربيين، ومحط رحال الراجين من الشرقيين، وكل وافد إليها يجد أهلًا خيرًا من أهله، وسكنًا خيرًا من سكنه، وتكاثرتْ فيها العناصرُ الغريبة، حتى كان الداخل إليها يخيل له أنه تحت برج بابل يوم تبلبلت الألسن.

وساد بها الأمن وعمت الراحة، وضارعت في كل أحوالها نوع ما عليه الممالك الأوروبية العظيمة، وكان المتأمل في سيرها هذا يحكم حكمًا ربما لم يكن بعيدًا من الواقع، أن عاصمتها لا بد أن تصير في وقت قريبٍ أو بعيد كرسي مدنية لأعظم الممالك الشرقية، بل كان ذلك أمرًا مقرَّرًا في أنفُس جيرانِها من سُكَّان البُلدان المتاخمة لها، وهو أملُهم الكبير، كلما أَلَمَّ خطبٌ أو عَرَضَ خطر، غير أن الأيام كأنها حسدتها على ما منحته، فعثر العاقل، وفرط المالك، وأعثر المعجب، وتهور الغبي، وخار الأفين، فتقرب البعيد، وبعُد القريب، ونزل بمصر ما لم يكن له أثرٌ إلا حواشي طوامير الأوهام — ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ألحمت إدارة الحكومة بما ليس من نسيج سداها، وانتفضتْ منها أُصول على وجهٍ غير مألوف، ففُتحت للدسائس أبوابٌ وأنساب، بين طبقات النَّاس، دهاة سياسة، وطلاب غايات، فتفرق اتصال، وتقطعتْ أوصال، فضعفت السلطة الوازعة، ونبذت الطاعة، والتهبت نيران الفتن.

قضاءٌ حل بتلك البلاد، فاحتاجتْ في إعادة شأنها الأول إلى رأيٍ قويم، وعزم ثابتٍ، ووازعٍ قويٍّ، تدين لسطوته النُّفُوس، وإن من ذوي الحقوق فيها مَن يجمع هذه الأوصاف، وله من القلوب المكانة العليا، وكان يسهل عليها القيام بما يعهد إليه، لكن تحكم طمعٌ وأخطأ ظنٌّ، فتخلفت النتيجة، واشتدت الحاجة.

أشفقت دولةُ الإنجليز على طريق الهند، كما يقال، أو ظنت أن آن التقدم بعض خطوات قد آن، فرأتْ أن إعادة الأمن وتثبيتَ الراحة في مصر من فرائضِ ذِمَّتِها، فكان من التحريق والتدمير والقتل والشنق والحبس والإبعاد والتغريم، وما شاكل ذلك مما لا حاجة لبيانه، وعَمَّ بعض أنواع الهون، حتى لم يبق ممن يعرف اسمه أحدٌ إلا مسه ضرمه، ما خلا أشخاصًا قلائل، وهذه المرهبات على ما بها من القوة لم تبلغ الغرضَ من تأمين طريق الهند لإشرافه على الخطر من وجهٍ آخرَ، ولم تأتِ بما كان يؤمل منها لنظام البلاد.

أليست المالية هي مرمى أنظار دول أوروبا، وما وضع نظام في البلاد ولا أحدث تغيير بمشورتهم إلا لوقاية الخزينة من العجز عن أداء ما يتعلق بها من الحقوق الأوروبية؟ اليوم رزئت بالنقص في الإيراد، وحُمِّلت من تعويضات متالف الحرب أربعة ملايين من الجنيهات، ورميت بنفقات جيش الحلول، وحرب السودان، ومصاريف إخلائه، وما يضاف إلى كل هذا مما يُظهره المستقبل، فاختلَّت الموازينُ، وبطل قانون الجبايات، وأي مصيبة على المالية أعظمُ من نوازلِها الحاضرة؟!

عقد العزم على إلغاء الجيش الوطني، وهو قوة البلاد وبه فخارها، وكأنه لم توجد وسيلةٌ لتنظيم جنود مصر، وقصر الجهد عن مُجاراة محمد علي باشا، وإبراهيم باشا، اللذَين دوخا كثيرًا من الأقطار بجنود مصرية.

إن كان كل ما تقدم من الشدائد والخطوب وزيادة النفقات وإلغاء العساكر الوطنية إنما يُتخذ سبيلًا لراحة الأهالي، وتحسين أحوالها، فنعمت الوسائل إذا أدت إلى غاياتها، لكن أين السبيل من المقصد، وأين هذه المعدات من تلك الغايات؟

واأسفًا على حالة الأهالي بعد هذا! حكم من لا دافع لحكمه بطرد آلاف من الوطنيين الموظفين في دوائر الحكومة، وما منهم أحدٌ إلا ويتبعه عائلةٌ وأولادٌ، ولا قوت لهم إلا من مرتَّب عائلهم، وما مرن على عمل للكسب سوى ما نشأ فيه من خدمة الحكومة، ألم يمس هؤلاء ضر الفقر؟! ألم يعضهم ناب الجوع؟! ألم يهتك مستورهم؟! ألم يضق ذرعهم؟! ألم يصبحوا كساة بسرابيل الكآبة، عراة من أكسية المسرة؟! إن لم يكن كل هذا فقد كان جله، وإن صدى أنينهم يتلى في صفحات الجرائد الوطنية العربية والإفرنجية وسيتبع السابقين منهم اللاحقون، حتى لا يجد وطنيٌّ في البلاد من المهن إلا ما لا يليق بالإنجليزي تعاطيه من سفاسف الأُمور — كما هو في البلاد الهندية.

اضطرب ميزانُ السلطة العامة لتعاكُس قواها المختلفة فاشتبه الأمر على العمال، وظنوا أنْ لا تبعة عليهم فيما يعملون، فانطلق ما غُلَّ من أيديهم، وحكموا أهواءهم في أداء وظائفهم، فخبطوا وخلطوا، أفعمت السجون بأعيان الرعية، ورُفعت أذنابُ الكرابيج لتشريح أبدانهم، واستُعملت آلاتُ التعذيب، وامتدت مخالبُ الجور لتجريدهم من بقايا أموالهم، وثمرات كسبهم، وحدث نوعٌ من الحكم المطلق عزيز المثال، بُعث عليهم عذابٌ من فوقهم أو من تحت أرجلهم، ولبسوا شيعًا وأُذيق بعضهم بأس بعض. وما الله بغافل عمَّا يعمل الظالمون.

غلقت أبواب العمل من وجوهه الرسمية في الإدارات، وتعطلت أشغالُ المحاكم، وشخصت الأبصار لعاقبة هذا التنازُع بين القوى الحاكمة، فاتسع نطاقُ الفوضى وارتفع حجابُ المنعة، فإذا الفَلَّاح لا يُبالي بعمدته، والعمدةُ لا يبالي بمأمور مركزه، والمأمور لا يحترم مديرَه، وسرى التهاوُنُ إلى الدوائر العليا، وعاد الأمر لقوة الساعد وكثرة الأعوان فعاثت اللصوص، وكثُر قطع الطرق في كل ناحية.

وارتفعت الأصوات بالشكوى منهم في عموم الجرائد الوطنية، فوقفت حركة الأعمال العمومية، وبدت للناس شئونٌ عدلت بهم عن ضرورات معاشهم، وامتنع المدينون من أداء ما عليهم لدائنيهم من التجار والربويين؛ فقبض المقرضون أيديهم واحتكروا نقودهم لفقد ثقتهم وإشفاقهم من الضياع على رءوس أموالهم، وإن أُصيبوا بالحرمان من الربح وابتُلوا بالخسارة في رأس المال من قبيل آخر.

واشتدت الحاجة بالفَلَّاحين إلى ما يعوض عليهم من ماشية في الحراثة بعدما اغتالها التيفوس، وما يجددون أو يُصلحون به آلاتهم الزراعية، ويستعينون به على نجاحها حسب العادة التي أَلِفُوها، فعميتْ عليهم من السبل، وضاقت بهم المسالك، ولم يجدوا لسدِّ حاجتهم سبيلًا؛ ففسدت الزراعة وانتقصت ثمراتها، وانحطت أسعارُ الحاصلات لارتباك الأحوال إلى حد ما كان يسمع إلا في القصص وروايات القدماء قبل محمد علي باشا، ومطالب الحكومة في ضرائبها ورسومها على حالها الأول مع الإغلاظ في اقتضائها، فعَمَّ العُسْرُ وأحاط الضنك، وتقوضت آلاف من البيوت التجارية، وأتربت أيدي ملايين من عمال الصناعة، وأعدم المزارعون قاطبة إلا نزر يسير من حفظة الكنوز أو المستأثرين بأموال الكافة نهبًا وسلبًا.

باع الفَلَّاح أثاث بيته، بل وما أبقاه التيفوس من عاملة أرضه، بعدما ذهبت الحاجة بحلي حرمه وبناته ليؤدي ما عليه لحكومته، ولم ينل من نضارة العيش ما يقوم بحفظ حياته، وعاد إلى الفطرة الأُولى يقتات بأقوات البهائم ويسرح مسارح الحيوانات إلا قليلًا منهم الله يعلمهم.

وزاد الويل بمحق الحرية الشخصية، والأخذ بالشبه وإنْ ضعفتْ، واتباع بواطل التهم وإن بعدتْ، أو استحالت، حتى أخذ الفزع من القلوب مأخذَه، وبلغ منها مبلغَه، فلا ترى مارًّا بطريق إلا وهو يستلفت خلفه لينظر؛ هل تعلق بأثوابه شرطيٌّ يقوده إلى السجن، أو يقتضي منه فدًا. وكل معروف الاسم من المصريين ينتظر في كل خطوة عثرة، وفي كل نهضة سقطة، وله من كل شاخص دهشةٌ ومن كل طارق لِبَابِهِ غشيةٌ، أي شقاء ينتظره الحي في حياته أشنع من هذا؟!

هذا ما تنشقُّ له المرائرُ من أحوال سُكَّان القطر المصري، هذا بعض ما يضيق به الصدر، وتنقبض له الأنفسُ، مما رزئوا به بعدما تَكَفَّلَ أحباؤهم الأولون بالدِّفَاع عنهم وتخليصهم من الفوضوية السابقة، هذه طلائع الإصلاح المبشر به من زمان بعيد على ألسنة رسله، أصبح الأهالي حيارى في أموالهم، تائهين عن رشادهم، لا يعلمون ماذا يحل بهم، يذكرون من أحوالهم السابقة ما كانت الدول الأوروبية تسميه ضيقًا وعناءً وتمنيهم بالإنقاذ منه فيَحِنُّون إليه ويَوَدُّون لو رجعوا إليه، ويحسبونه غاية سعادتهم، بعد هذه الحالة التي هم فيها.

أبعد هذا يصح لمصريٍّ أنْ يظن أن تلك الرزايا التي حَلَّتْ ببلاده من نحو عشرين شهرًا كانت مقدمة لإصلاحها وتنظيم شئونها؟! نعم يمكن أن يخطر بالبال أنها تمهيدٌ لعمل صناعيٍّ في الأراضي المصرية كتقويم طرقها، وإقامة جسورها، وتكثير جداولها، وتقوية مواد الخصب فيها، حتى تعود بعد مدة جنة من جنات الدنيا، أو روضة من رياض الآخرة، أما الأهالي فليسوا بموضع النظر فإنهم إن هلكوا ورث الأرضَ بعدهم قومٌ آخرون.

فإنْ لم يكن هذا فليكن تمام الإصلاح الذي لا يمثله الخاطر، في وقتنا الحاضر، ولا يكفي للبداة فيه سنون معدودة على قياس الإصلاح المنتظر في بلاد بنجاب (من الممالك الهندية)، فإن الدولة التي تولت إصلاح الشئون المصرية في هذه الأيام، دخلت بلاد بنجاب بهذه الحُجة، واستولتْ عليها من مدة أربعين سنة، ولم تزل إلى الآن حكومتها عسكرية، ولم يشرع فيها بتنظيم مدني، فلينتظرْ إخواننا المصريون فإنا معهم من المنتظرين.

١  ترى ماذا كان يقول الأفغاني لو بُعث من قبره ليتحدث عن المآسي التي خلَّفها خلفاء محمد علي باشا، وما كان من مهازل بلاط فاروق الأول؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤