الفصل السادس والعشرون

إنجلترا في سواحل البحر الأحمر

وقع ما أنبأتْ به الجرائدُ الإِنجليزيةُ من بضعة أيام، فإن الجيوش البريطانية زحفتْ لمُلاقاة عثمان دجمة بعد أن قاستْ أليم العذاب من وهج الحر ولهيب الشمس، وأُصيب منها عدد وافر بالوهن والضعف، حتى عجزوا عن مداومة السير، وصابر بقيةُ العسكر في زحفه وانتظموا على أشكال مربعات تُشاكل ما انتظموا عليه في الموقعة الماضية، إلا أنهم لم يتلاقَوا مع خصمهم، وأفاد التقرير الإنجليزي أن السبب في عدم الالتحام أنه وصلت العساكر إلى قرية ثمانية ولم تجد عنها مدافعًا فأحرقتْها ورجعتْ إلى سواكن.

ولا يَخفى أن جميع أخبارهم قبل هذا الزحف كانتْ متفقة على أن عثمان يبعد عن ثمانية بتسعة أميال، وأن مسيرهم هذا كان لملاقاته حيث يعتصم فلم يكن هناك داع لحرق قرية ثمانية ولا الإخبار بأنه لم يوجد مُدافع عنها، إلا ما تعوَّد عليه الإنجليز في حروبهم إذا لم يصادفوا ظفرًا يحرقون ويخربون وإن لم يكن مَن يصيبونه بأعمالهم مُحاربًا لهم، حتى يقولوا: ظفرنا وأحرقْنا وأتلفنا.

وورد إلى الجرائد الفرنسية أن تقهقر عثمان إنما كان ليحشرهم بين شعاب الجبال ثم يغير عليهم ويفتك بهم كما فعل رئيسه «محمد أحمد» بعساكر الجنرال هكس، ويظهر أنهم لَمَّا أحسوا بهذه المكيدة ووجدوا من أنفسهم ضعفًا عن مقاومة العرب في جبالهم كَرُّوا راجعين إلى سواكن ومحتجِّين بشدَّة الحر سترًا للعجز وتقديمًا لبارد العذر، والجرائد الإِنجليزية في قلق واضطراب شديد ولهج أغلبها يحث حكومتها على استدعاء العساكر من سواحل البحر الأحمر، متعللة بأنها وإن كانت من حامية الهند ولها جلد على احتمال الحرارة، إلا أن أثر الحر السوداني ظهر فيها بسرعة شديدة ويُخشى عليها من التلف الكلي، وأحرى أن يُخاف على سواها ممن لم يفارقوا إنجلترا إلا لحرب السودان.

ويغلب على الظن أنهم شعروا بقوة محمد أحمد وثبات عثمان والتهاب الحمية في قلوب المسلمين بتلك الأطراف، فاستفزهم ذلك إلى إخلاء وجوههم، وخوفًا من أن يحل بجيوش السودان الشرقيِّ ما حل بعساكر الجنرال هكس وتستروا بالشكوى من شدة الحر واحتدام نار القيظ، مع أن وهج الحرارة في جنوب الهند، حيث كانت تحل هذه العساكر كما ذكرتْه جرائدُهم أشد منه في سواحل البحر الأحمر.

وما قاله الجنرال جراهام والأميرال هفت أن الحركات العسكرية قد انتهت على شطوط البحر الأحمر؛ يثبت اعترافَ هذين القائدَين بعجزهما عن فتح الطَّرِيق ما بين البحر الأحمر وبربر، ومساعدة جوردون من هذا الطَّرِيق، وبناءً على ما أبدياه من البأس صدرت الأوامر إلى الجنرال جراهام بإخلاء المواقع الحربية وإجلاء العساكر عنها والخروج من سواكن بما يُمْكِنُهُ من السرعة، وأعقب الأمر اجتماع العساكر بأسرها في تلك المدينة، ويقال: إن فرقة منها تسافر في التَّاسِع والعشرين من مارس إلى مصر وإنجلترا، وهذا الأمر لا ريب يعده أشياع محمد أحمد والمذعنون لدعوته فتحًا إلهيًّا وتأييدًا ربانيًّا، فيقوي اعتقاد المخلصين له ويقطع شكوك المترددين في قبول دعواه، ولَربما يذهب الوهم بالسذج منهم إلى أن الله أَيَّدَهُمْ بالملائكة المسومين فكشفوا عنهم عدوهم، وبعد هذا تجتمع كلمة القبائل وتثبت أقدامهم في مواقف القتال ويزداد حرصهم على تعميم دعوى محمد أحمد، ومغالَبة من لم يذعن لها، ويكون هذا الظفرُ الغريبُ أقوى بُرهان لهم على صِدْق دعواهم.

هذا ما أدتْ إليه سياسةُ الدولة الإِنجليزية التي وطئت بأقدامها أرض مصر لإخماد الفتن، لم تجلب مداخلها إلا تعالي اللهب وقوة الضرام، وبعدما أسقط في يديها وخابت في سياستها تجافتْ عن تسليم الأمر لأربابه القادرين على تلافيه من المسلمين، حتى يحصل الأمن للأجانب والوطنيين، وتحقن الدماء وتحفظ الأموال، وعمدت إلى الاستنجاد بحكومة الحبش لحرب السودان، ولم يأخذها خجلٌ في ذلك وهي تدعي أنها حاملة لواء التمدن والقائمة بنصرة الإنسانية وتتلو آيات الإنجيل آناء الليل وأطراف النهار، ثم تستدعي حكومة خشنة غير مهذبة كحكومة الحبش لمقاتلة قوم آخرين — وإن كانوا ليس بأقل منهم خشونة — لتشتبك حرب بربرية تحرق فيها المدن والقرى، وتسفك الدماء الغزيرة ويفتك فيها بالأولاد والنساء والشيوخ ومن لا جريمة لهم حتى يُفني بعضهم بعضًا، ولم تبال في التماس هذه المساعدة أن تصرح للحكومة الحبشية أَنَّ الغرض منها كبحُ المسلمين في السودان وإضعاف قوتهم لتثير بذلك حربًا دينية تذكر العالم بالحروب الصليبية.

فقد جاءت الأخبار إلى الجرائد الفرنسية: إن دولة إنجلترا تلتمس من يوحنا ملك الحبشة أن يمدها بجيوش للدفاع عن سواحل البحر الأحمر لعجزها عن حمايتها بنفسها وإطفاء ثورة المسلمين وإخضاعهم، وبعثت إليه قائدَ أُسطولها ليتفق معه على شروط هذه المساعدة وما يغنمه بعد القيام بها، وفي جريدة «الميموريال دبلوماتيك» أن من جملة ما تطلبه إنجلترا من الحبش فضلًا عن الإنجاد الحربي أن يتخلى لها عن جزيرتين في البحر الأحمر لتحل فيها بعضًا من عساكرها، وله من العوض ما يكافئ الأمرين جميعًا.

يريد مُحِبُّنا الصادق أن يقدم للحبش جُزءًا من أراضينا مكافأةً له على ما يُريد منه، ولم يغفل عن مراعاة المرابحة التجارية حسب عادته ترغب إلى الحبش أن يتنازل له عن أملاك في البحر الأحمر، فليعتبر المعتبرون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤