الفصل الثاني والأربعون

خديعةٌ جديدة

أقبل الإنجليز أيام الحركة السابقة على بعض المصريين، وزخرفوا لهم الأماني وزينوا لهم المواعيد، حتى استعملوها لتذليل المصاعب بين أيديهم، لدُخُول مصر والاستقرار فيها بعساكرهم، وتم لهم ما أرادوا، ثم قلبوا لهم ظهر المجن تحت أستار الحُجج والتعلُّلات، وقبضوا على زمام الحكومة المصرية يصرفونها كيف يشاءون، ولما أرادت الدولةُ العثمانيةُ بما لها من الحق القانوني على تلك البلاد أَنْ تتولى حل المسألة التي كان يعبر عنها بالعسكرية، وأنْ تُرسل بعض جيوشها لإقرار الراحة في بلادها طبقًا لرغبة رعاياها؛ مَانَعَها الإنجليز وكَفُّوا يدها عن العمل وسَبَقُوها إليه بدون حَقٍّ شرعيٍّ ولا أصل سياسي ولا رغبة عامة من أهالي القطر المصري، واليوم عند اشتداد الخطب على الجنرال جوردون الإنجليزي وعجر حكومته عن إنقاذه وتوقيف حركة محمد أحمد، ألجأتْهم الضرورة إلى الرجوع لِمَا نبهنا عليه مرارًا من أن هذه الفتن لا يطفئ شعلتها رذاذُ السياسة الإِنجليزية.

تَمَنَّوْا لو تتداخل الدولة العثمانية ببعض عساكرها في السودان لتنقذ الجنرال جوردون وتأخذ بناصية محمد أحمد وتبدد شمل أحزابه، هكذا رأى الجنرال في هذه الأيام أن أنجع الوسائل لحل المشكلات تحسين جيش عثماني وسوقه إلى تلك الأقطار، فكتب إلى صديقه صامويل بيكر يرغب إليه أن يتقدم لأرباب الثروة في إنجلترا وأمريكا ويحملهم على بذل مائتي ألف جنيه ليعرضوها على السطان العثماني حتى يُنفقها على ألفين أو ثلاثة آلافٍ من العساكر التركية، ويسيرها إلى نواحي بربر وشندي، ويكون بهذا إنهاءُ المسألة السودانية وهدم سلطة محمد أحمد، وقال: إنه مما يعودُ نفعه على السلطان أيضًا.

يريد الجنرال أن يخدع العثمانيين بتمثيل منافعهم، كما خدع أمثاله بعض المصريين وحاشاهم أن ينخدعوا لمثل هذه التخيُّلات الوهمية، ومن العار عليهم أن يقبلوا ما يتكففه الجنرال جوردون من صدقات أهل الثروة في بلاده للنفقة على عساكرهم، وأشد العار أن يذهبوا بجيوشهم لتدويخ بلادهم وإخضاعها لسلطة الإنجليز والعساكر الإِنجليزية حَالَّة١ بحُصُون مصر، نعم لو أذعن الإنجليزُ بما للدولة العثمانية من الحق، وتركوا لها بلادها وفوَّضوا إليها إعادة الراحة فيها وإهماد فتنة السودان؛ فلا تخال الدولة تتأخر عن القيام بما يفوض إليها بل هو ما تتمناه وتسعى إليه، ولعل الحوادث تلجئ دولة بريطانيا إلى مثل ما لجأ إليه جوردون فتسلم الأمر لمالكه،٢ ما ذلك على الله بعزيز.
١  مُرابطة في مراكز مصر الإستراتيجية.
٢  يظهر الأفغاني نواياه هنا بجلاء … فهو يطلب الخلاصَ من بريطانيا واحتلالها مصر …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤