الفصل السابع والأربعون

السودان

قَدَّمْنَا في العدد الماضي أَنَّ مدينة بربر في حالةٍ يُخشى عليها من السقوط في أيدي الثَّائرين، وجاءتْ أخبارُ هذا الأسبوع أن حاكم المدينة، بعد إلحاح طويل على الحكومة المصرية في إرسال نجدة عسكرية إليه، لم يحز طلبه قبولًا، فإن الوزارة الإِنجليزية لم تر ذلك صوابًا، وبناءً على ما رأتْه الحكومة الإِنجليزية صدرت الأوامر إلى الحاكم «حسن باشا خليفة» أن يخلي المدينة بما يمكنه من السرعة، فشرع في إخلائها متقهقرًا بالحامية جهة الشمال إلى كوروسكو وبعث بفرقة من عساكره عددها مائة وخمسون جنديًّا لتسبقه إلى حيث ينتهي في رجعته، وبعد أيام يرسل ما بقي منها طبق الأوامر التي وردتْ إليه، وفي الظن أن إخلاء المدينة لا يتم بدون كفاح وقتال وسفك دماء، ومع هذا كله فمن أمل الحاكم أن يتم له إنقاذ الحامية جميعها وإرسالها إلى كوروسكو قبل وصول رسل محمد أحمد، تحقق أن أربع فرق من العساكر الاحتياطية «باشبزوق» مع خمسمائة عسكري مصري (كلهم من حامية بربر) انحازوا إلى أشياع محمد أحمد، ويخشى أن الثَّائرين بعد استيلائهم على بربر يحاصرون جملة مدن في وقت قريب.

قالت جريدة التايمس الإِنجليزية: ثارت جميع القبائل وأهالي البلاد فيما وراء بربر، ولا يمكن أن يوجد رسل يجرءون على المسير إلى الخرطوم لتوصيل المراسلات، وإن عرض عليهم من النقود أعلى ما يمكن من المبالغ، وقالت تلك الجريدة: إن الأخبار الأخيرة الواردة من مصر تؤكد لنا أنَّ قُلُوب الأهالي (المصريين) طافحةٌ من الغيظ والحنق على الإنجليز، وإنه لا يوجد في مصر من يحب أن يرى إنجليزيًّا يخطو في بلاده (هذا الذي قلناه مرارًا، فالحمد لله أقره الخصم وارتفع النزاع)، ثم أتبعت كلامها هذا بأنه لا يوجد في مصر الآن شيء يصح أن يُخبر عنه سوى (اختلال واضطراب)، فما عليه مصر اليوم يمكن أن تعبر عنه بهاتين اللفظتين، وإن المخابرات مع الخرطوم أصبحتْ من قبيل المستحيلات، ثم قالت: نعم، إن الحكومة الإِنجليزية صرحت بأنه لا يُمكنُها إرسال عساكر إلى السودان قبل مُضيِّ أربعة أشهر، ولكن عليها أن تنظر في واسطةٍ أُخرى لإزالة ما جلبتْه على مصر من الفوضى.

أنجح الوسائط ترك البلاد لأهلها وتفويض الأمر فيها لصاحب الحق القانوني على تلك البلاد ومن له المنزلة العليا في قلوب جميع الأهالي، فتسكن له القلوب وتخمد نيران الفتن، ولعل التايمس بعد أيام قلائل ترجع إلى موافقتنا على تأكيد بغض المصريين للإنجليز، وقد تُنكره علينا من خمسة وعشرين يومًا وتبالغ في ميل الأهالي لسيادة الإنجليز عليهم.

ذكرت الجرائدُ أن جاسوسًا وقف على عزيمة عثمان دجمة في جهة سواكن، فجاء وأخبر بأنه مستعد أن يزحف بألفَي مقاتل إلى هندوب لقطع الطَّرِيق، وأنه بعد ذلك لا يقف دون الهجوم على حدود سواكن بشدة عنيفة.

جاء في جريدة التان أَنَّ دخول الثَّائرين في مدينة بربر وإن لم يتحقق الآن بطريقة رسمية، إلا أن ما أخبر به وكيل إنجلترا السياسي في تلك المدينة يقطع كل ريب ويُزيل كُلَّ شك في أن الخطرَ نازلٌ بها لا محالة، فإن قِسْمًا من حاميتها فَرَّ لطلب النجاة، والباقين انضموا إلى صفوف الثَّائرين جهرة، وإنا نرى حلول أشياع محمد أحمد بمدينة بربر يهيئ لهم أن يطئوا قلب مصر العليا، وليتهم يكتفون بهذا، ولكن ستطمح أنظارُهم إلى مصر السُّفلى، وإن ضباط الحامية المصرية في أسوان وردتْ إليهم مكاتيبُ مِن أحد زعماء الثورة بناءً على أمر محمد أحمد، ينذرهم فيها بسوء العاقبة، ويتوعدهم بالقتل والذبح إن لم يتركوا المدينة قبل عشرة أيام، ثم قالت تلك الجريدة: إذا اجتمعتْ قوةُ محمد أحمد عند الشلال الأول فلا بد حينئذٍ أن ينظر في كيفية الدِّفَاع عن القاهرة!

هذا الذي كُنَّا نتوقعه ونخشاه من قبل وأشرنا إليه مرارًا، جلتْه الحوادثُ ونطقتْ به الجرائدُ الفرنسية والإِنجليزية، ولم يبق إلا التفات تلك الجرائد إلى دواء هذه العلة وعلاج هذا الداء الذي كاد يكون عضالًا، وتنبه حكوماتها للنظر في ذلك بعين الدقة والتبصُّر، وترشيدها إلى أَنَّ العلاج الذي ليس وراءه علاجٌ إنما هو تسليمُ الأمر لذوي الحق فيه والعَارِفين بطُرُق تصريفه من المسلمين، وستراها بعد أيام تتبع هذا السبيل المستقيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤