الفصل الخامس والخمسون

المسألة المصرية دولية

إنا أنذرنا الإنجليز خطرًا قريبًا على الهند، ونَبَّهْنَا في أول عدد صدر من جريدتِنا على أن تفيؤ التركمان في مرو لظل الحكومة الروسية باختيارهم ربما يحمل تركمان سَرَخْس على الاقتداء بهم، وأشرنا إلى ما يَتبع ذلك مما عاقِبَتُهُ نكالٌ على الإنجليز، واليوم وقع ما توقعناه، فاستولتْ روسيا على سَرَخْس وتاخمت بحدودها حكومة الأفغان، وارتعدت فرائصُ الإنجليز وغشيهم الفزع والقلق، وأعولت جرائدهم نحيبًا ورددت نشيجًا وأحست بقرب الأجل، ولم يسكن روعهم ما ذكرته جريدة بترسبرج الشبيهة بالرسمية من أن سَرَخْس اسمٌ يشترك بين مدينتين، قديمة وحديثة، وإنما دخل في حوزة الروس أُولاهما؛ فإن الإنجليز يعلمون أن المدينتين متصلتان لا يفصلهما إلا ترعةٌ صغيرة «نهر تجند» عرضها عشرة أذرع بالتقريب.

على أن سَرَخْس التي حَكَمَ مهندسو حرب الإنجليز أنها باب الهند من طرف الشمال، وأنها ممر فاتحيه مِن زمان قديم ومِن طريقها طَرَقَ الهندَ إسكندر الأكبر ونادر شاه الإيراني، وأن وصول الروس إليها مما يخرق سياج الهند؛ إنما هي سَرَخْس القديمة.

ومما زاد الإنجليز فزعًا واضطرابًا أن التركمان النازلين بتلك المدينة وما يليها هم الذين عرضوا أنفسهم على حكومة الروس طوعًا واختيارًا، وبعثوا وفدًا منهم؛ لِيَنُوب عنهم في عرض خضوعهم على البرنس دوندكوف حاكم ما وراء بحر الخزر من الولايات الروسية، ووصل الوفد إلى عشقاباد وأقام بها ينتظر قدوم البرنس إليها.

وقع الإنجليز الآن بين شَرَّين عظيمين: خطرٌ عاجل وحَتْفٌ آجل، أما الثاني، فهو أن روسيا إما أن تتحد مع الأفغانيين وتحالفهم على مطاردة الإنجليز، وهو الأقرب المتوقَّع، فتصير معهم يدًا واحدةً على هدم أركان الحكومة الهندية الإِنجليزية، وليس بخافٍ ما يُضمره كل أفغاني لكل إنجليزي من الحقد والضغينة، والأفغانيون قوم حرب يُناطحون الموت بنواصيهم، فكيف إنْ وجدوا مُساعِدًا قويًّا؟

وإما أن تميل حكومة الأفغان إلى الإنجليز، وهو من فرض المحال، فما أسرع أن تنتشب مقاتلات بين القبائل المختلفة ممن تحت حكومة الأفغان، مثل جمشيدي وفيروز كوهي وبين قبائل التركمان المتاخمين لهم، ويعقبها حرب بين الروس والإنجليز؛ لأن كلًّا من الدولتين مضطرٌّ للمُدافَعة عن حليفه، بل للروس حقُّ المناضلة عن رعاياها التركمان، فإذا زحف الروس إلى الأراضي الأفغانية تقطعتْ حبالُ الإنجليز وامتنعتْ عليهم وسائل الدِّفَاع، وهذا آخر حياتهم في الهند.

وأما الخطر العاجل فهو أن سماع الهنديين بخبر استيلاء الروس على سَرَخْس يوقِد فيهم نارَ ثورة عامة، يلتمسون في أضوائها طريقًا للخلاص من الضيق والضنك الذي شملهم، وسبيلًا للنجاة من الويل الذي جلبتْه عليهم مظالمُ الإنجليز.

هذا يكون كما اشتعل لهيبُ الفتنة سنة ١٨٦٠ عندما وصل إلى الهنديين خبرُ استيلاء ناصر الدين شاه الإيراني على هراة، بل انتقاض الهند على الإنجليز في هذه الأيام أقربُ؛ فإن خواطر المسلمين من سُكَّانه في هياج شديدٍ بما شاع بينهم من دعوة محمد أحمد السوداني، بل بما يُمكن في أهوائهم من الميل إلى تصديقه، وإنَّ لهذه الدعوة حملةٌ على الهند لا يُقاومها تدابيرُ دولة بريطانيا.

تريد دولة إنجلترا أن تصد المسلمين عن حج بيت الله الحرام في هذا العام وربما فيما بعده؛ حتى لا تصل أخبارُ محمد أحمد وتورط الإنجليز في مقاومته إلى مسامع الهنديين، ولكن سيحمل هذه الأخبار إلى تلك الأقطار حجاج الأفغانيين والبلوجيين الذين يسلكون إلى الحج طريق البصرة والكويت، بل يبلغونها على وجهٍ أبلغَ مما لو سمعوها بآذانهم.

هذا تأييدٌ إلهيٌّ للدولة العثمانية، فعليها أن تنهض بعزيمةٍ صادقة وجأش ثابت وهمة تليق بمكانتها في المغلوب، وعلى السلطان العثماني أنْ يتذكر أنه خلف لأولئك الأسلاف العظام الذين ما أضاعوا حقًّا ولا أهملوا فرضًا، ويقتضي من الإنجليز حقه ويسترد مصر من أيديهم ويطهرها من جراثيم الفساد، ولا يقنع بما دون الحقِّ ولا يدع لهم فيها شأنًا إلا بما يساوون فيه غيرهم من الدول، ولا تفوتنَّ العثمانيين فرصةُ هذا الارتباك الذي سقط فيه الإنجليزُ كما فات الإيرانيين الانتفاعُ بثورة الهند في الأيام الماضية لتأخُّر خبر الثورة عنهم، وإلا لكانوا أوقعوا بالإنجليز ونالوا الغاية من ضرهم.

على العثمانيين أن يتلافَوا الأمر قبل أن يشب الإنجليز حربًا صليبية بين الحبش والمسلمين على نفقة الحكومة المصرية، ليس للدولة العثمانية أن تتهاون في مطالبها أو تتحاشى الدِّفَاع عن حقوقها الثابتة، ولا أن تخشى في ذلك تهويلَ الإنجليز وجَلَبَتَهم؛ فإن كثيرًا من الدول — على اختلاف مقاصدها السياسية — يوافقونها على تخليص مصر من مخالبِ الإنجليز كما دلت عليه منشوراتُ الجرائدِ ورواياتُها عن مقاصد السياسيين من كل دولة.

بل الذي يُفهم من جملة مقالاتهم أنه لا توجد دولة من الدول ترضى بأن يكون المؤتمر وسيلةً لاستيلاء الإنجليز على مصر أو وَضْعها تحت حمايتهم، خصوصًا دولة فرنسا ودولة الروس، وإليك طرفًا من آراء الجرائد وما تنقله عن السياسيين، قال مراسل التايمس في باريس: «إن فرنسا لم تقبل ولن تقبل أنْ يكون بحثُ المؤتمر منحصرًا في المسائل المالية»، ولقد أصابتْ فرنسا في عدولها عن طلب المراقبة المشتركة بينها وبين إنجلترا ورغبتها في مراقبةٍ يشترك فيها جميعُ الدول؛ فإن في ذلك فوائد عظيمة لها ولغيرها ولا أظن أن حكومة إنجلترا وافقتْ على ما ترغب فرنسا، كما لا أظن أن فرنسا تتساهل فيما تريد، وعلى هذا، فإما أن ينعقد المؤتمر ولا تكون مداولاتُه مقصورةً على مشكلات المالية وإما لا يلتئم أصلًا.

ولا أمل لإنجلترا إلا في التستر تحت حيلتها، وهي أنْ ترغب إلى الدول عقد مؤتمرين متعاقبَين، أَوَّلُهما للمالية وبعده ينعقد الثاني؛ للنظر فيما لم ينظر فيه الأول، وقال مراسل الديلي تلغراف في ويانا: «إن خطاب المستر جلادستون الذي ألقاه في مجلس النواب حرك دول ألمانيا والنمسا وإيطاليا للاتفاق في المسألة المصرية، فصرحت جميعها بأن مصالحها في مصر تقضي عليها العمل في حل هذه المسألة، وليس من سياسة واحدة منها أن تنتظر زمنًا طويلًا بعد ما مضى من الحوادث مع ما يتوقع نزوله بمصر من النكبات، واستقر رأي الدول الثلاث على المُداخلة في وقتها المناسب، وقد انحلت ثقتها في مسلك الوزارة الإِنجليزية.»

وورد من فيينا إلى جريدة التان الفرنسية الشبيهة بالرسمية من مكاتبها برقيةٌ قال فيها: «إنه اجتمع مع رجال عظام في تلك المدينة واستطلع أفكارهم في المسألة المصرية، فإذا هم متبايِنون في الرأي، فمِن ظن بعضهم أن الواجب على دولة النمسا أن تأخذ جانبًا عن هذه المسألة وتوسع المجال لدولة إيطاليا؛ فإنها إن فعلت ذلك أرضتْ إيطاليا بدون أن يلحق ضرر بمصلحتها ووافقت رغائب ألمانيا، ومِن رأي بعضهم أن حكومتهم لا يسوغ لها التخلي عن رعاية مصالحها في مصر مرضاةً لإيطاليا، بل لا يمكنها هذا. وقد أخطأ من يظن أن ليس للنمسا منافعُ في البلاد المصرية.»

ثم قال الكاتب: «تلاقيتُ مع رجل سياسي له شهرة بحرية الفكر وإصابة الرأي، فمِن كلامه: إن دولة ألمانيا ربما تجعل المسألة المصرية وسيلة لمراضاة الإيطاليين؛ بأن تعد لهم فيها مقامًا رفيعًا؛ لأن ألمانيا ليس لها قوةٌ بحرية ولا يهمها ما يجري في البحر الأبيض إلا بطريق العرض، أما النمسا فإن لها في ذلك البحر مركزًا مهمًّا فحالُها من هذه الجهة يُخالف حال ألمانيا، على أن حركات السياسة البرية لا بد أن تقذف بها إلى ذاك البحر وهو مما يَزيدها حرصًا على تعزيز جانبِها فيه، وليستْ المسألةُ المصرية إلا مسألة البحر الأبيض فمن له فيه شأن يراعيه فله الشأن في المسألة المصرية، وعلى حسب درجة الأول تكونُ درجة الثاني.»

ثم أطال الكلام في بيان المنافسة السياسية بين دولة النمسا وإيطاليا، وما يطمح إليه نظر كلٍّ منهما، غير أن هذا ليس مما يمنع الدولتين عن الاتفاق في معارَضة الإنجليز وخَفْض منزلتهم في مصر والبحر الأبيض.

أما جرائدُ فرنسا ورجال سياستها فعلى رأيٍ واحد في وُجُوب تحويل المسألة المصرية عن وجه كونها إنجليزية إلى وجه كونها دولية أوروبية، وارتاحتْ لهذا نفوس الدول ومالت إليه أفكارُهُم، نسأل الله حُسْن العاقبة، وإليه المصير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤