الفصل الرابع والستون

السودان ومصر

نشرت جريدةُ البوسفور إجيبسيان، التي تُطبع في القاهرة، خبرًا، مصدره توفيق باشا نفسه، وهو أن الجنرال جوردون أنذر حكومته الإِنجليزية بأنها إن لم تمده بجيش ينقذه من الضيق الملم به فإنه يرفض الدين المسيحي ويدخل في دين الإِسلام! وضمنت جريدة البسفور صحة هذا الخبر العجيب (كذا وصفته الجريدة بالعجب).

وغرابة الخبر إن كانت من جهة أنه تهديد بما لا يهم الحكومة، فنحن نعلم أن الإنجليز يُفزعهم خروجُ أحد منهم عن دينهم، وإن كانوا يُرشدون النَّاس إلى ترك الدين ويعيبون على المستمسكين به، لكنهم أشد النَّاس تعصبًا فيه فلا محل للغرابة.

وإن كانت من جهة أن جوردون، وهو من أشد قومه تمسكًا بدينه، كيف يجنح للإسلام، فهو إنجليزي الطبيعة كما هو إنجليزي الجنس يتلون ظاهره بأي لون ويبرز في أي ثوب لإصابة غرضه مع المحافظة على ما طبع الله على قلبه، فلا عجب إن قال وفعل!

في خبر أن محمد أحمد طلب إلى أعوانه المحاصِرين للخرطوم أن يأتوا إليه بجوردون حيًّا، ولا يمسوه بسوء إذا وقع في أيديهم.

وفي برقية من أسيوط إلى جريدة التايمس أن مركبًا من مراكب البريد وصلتْ إليه تحمل ثلاثة أشخاص مرسَلين من طرف زبير باشا لاستكشاف حالة جوردون، وتوجهتْ في الحال بمن فيها إلى أسوان.

هكذا الدَّهْر أبو العجب؛ من سنين قليلة فتك جوردون بأولاد الزبير وذوي قرابته وأفسد عليه شئونه وأخرجه عن جميع أمواله، واليوم رأينا كدر الضغينة في صفاء المحبة يبعث الزبير على الرأفة بجوردون وتوجيه الرسل للسؤال عن صحته والاستخبار عن سلامة حاله.

جاء الخبر أن أهالي جرجا (مدينة من مدن الصعيد مركز مديرية في جنوب أسيوط) في هياج شديد يشبه أن يكون ثورة، وورد إلى تلك المدينة رجلٌ من أشياع محمد أحمد قادمًا من القاهرة ودعا الأهالي للأخذ بطريقته، فإذا بينهم جَمٌّ غفير يجيب داعيه ويذهب مذهبه، وهو مما يدل على أن القائم السوداني مهتم بنشر دعوته محتاط لنفسه حاذقٌ في عمله، وله دُعاة في أرجاء الديار المصرية حتى في عاصمتها «القاهرة».

فإن ثبت في هذا السير حل بالحكومة المصرية منه ما كنا نخشى أن يقع بها ويشتد الخطب، ولربما صار له بقوة ميل الأهالي إليه منعةٌ يصعب على حكومة غير إسلامية أن تقارعها.

أما ما ذيل به خبر الهياج في جرجا من وجود عداوة بين المسلمين من أهاليها والمسيحيين فهو ما لا نصدقه ولا ينطبق على الواقع؛ لأن الأيام السابقة شاهدةٌ على حفظ كلٍّ من الفريقين زمام الآخر في جميع الأحوال التي عرضت على بلاد مصر، المسلمون والمسيحيون فيها على وفاق تام في جميع نواحيها، والمقاتل التي وقعت أيام الحرب الماضية إنما كان منشؤها إفساد المفسدين، على أنه لم يُمس فيها قبطي بسوء، والأخبار الصحيحة تؤيد ما نقول.١

وأرسلت الحكومة المصرية الآلاي السابع من المُشاة إلى أسوان مع جملة من المدافع الجبلية وعدد وافر من الجمال.

وفي برقيةٍ مِن سواكن إلى جريدة الديلي تلغراف أَنَّ مناوشات وقعتْ مِن أتباع محمد أحمد بالقُرب من سواكن، وفي جريدة التايمس أن الثَّائرين أطلقوا مدافعَهم على تلك المدينة في الساعة الثانية صباحًا من الثامن والعشرين من شهر مايو، إلا أنه لم يُصب أحدٌ من الحرس وتقهقر المهاجمون بسرعة.

عثمان دجمة — مع ألف من رجاله — نازلون على القرب من طمانيب ومعظم قوته حالَّة بتلك البلدة، ويقال: إن بنفوس عساكره كدرًا من قلة الأزواد٢ وهو من أخبار العدو يسمع وقد لا يصدق.

وإن الأميرال هفت المبعوث من طرف إنجلترا لخديعة الملك يوحنا ملك الحبشة لم يحظ عند الملك بقبول.

أراد رجال الإنجليز أن يخففوا على القلوب المنخلعة من أبناء أمتهم أهوال السودان وما يتوقعونه من مصائبه، فأشاعوا ظهور شخص يدَّعي المهدوية في دارفور، ويقول: إن محمد أحمد ليس إلا تلميذًا له من قدماء تلامذته، وكان الإنجليز يستبشرون بتفريق كلمة السودانيين كما يسرُّهم تخالف المسلمين أجمعين.

١  شكرًا لله، فما مِن زعيم أو مصلح شهدتْه أرضُ الكنانة إلا وقد كانت رابطة محبة الأديان رائده، فالتعصب سرطان يفتك بأبناء الوطن الواحد ويشل نشاط أبنائه … فتنفتح ثغور … تتسلل منها نفوس عفنة تهدم في الظلام ما تبنيه الأمة في أجيال، وقد حذر الأفغاني مسلمي مصر ومسيحييها من شر هذه الفتنة وهو في باريس، فنِعم الرجال ونِعم الأخلاق.
٢  يقصد عدم زيادة المرتبات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤