الفصل الحادي والسبعون

إنجلترا وفرنسا

أصغتْ آذانُ الراغبين في الوقوف على نهاية الحوادث المصرية لاستماع ما يتحدث به بين الحكومات الأوروبية من يوم دعتْ إنجلترا جميع الدول العظام للاجتماع في مؤتمر ينظر في بعض المسائل المصرية، إلا أنها منعت دون حجاب الكتمان، وإنما كانت تصل إليها دندنة أو جلبة أو غمغمة أو جمجمة، وكل حس يصلها يثير رواكدَ الأوهام فتهيج فيها غرائب الصور والأشكال.

والمذاعون من أرباب الجرائد في أوروبا — وهم أشبه بالداعين إلى الألاعيب والكموديات — كانوا يذهبون من الكلام وجوهًا مختلفة ويتنافسون في التمثيل والتصوير للتغرير والتهويل، حتى أبرزوا الأرض في صورة السماء والسماء في صورة الأرض، خصوصًا فيما يتعلق بالمفاوضات التي كانت جارية بين وزارتَي فرنسا وإنجلترا، فكان يخيل لمتصفح جرائدهم أن البحار غاصة بالمراكب، والمدرعات يصادم بعضها بعضًا، وأن فضاء البر أعضل بالجيوش المتلاحمة لا يجد السالك من بينها سبيلًا.

وتجسم الخيال لأرباب الأذهان الحادة، فكان منهم مهندسو حرب يعينون مواقع العساكر وطرق المصاولة وجموع المتلاحمين تجول في أذهانهم يمينًا وشمالًا ويموج بعضها في بعض، وكَأَنَّما كانت مخيلاتهم معرضًا لجيوش العالمين، وكأن في كل فوج داعيًا وفي كل قبيل مناديًا يقول: حقي هذا، فهيعات تتعالى وزفرات تتصاعد وأرغاء وأزباد، وتقطب في الوجوه وشزر في المناظر، وفي كل ذلك هول يأخذ بالألباب.

والعَارِفون بقوة فرنسا البرية والبحرية والذين يقدرون حقوقها حق قدرها؛ كانوا يعتقدون أن تمثال العظمة البريطانية أصبح منكَّس الرأس منحنِي الظهر قد هوى بهامته إلى ركبته يتوارى من النَّاس خجلًا بما ظهر من ضعفه وعجزه، وأن حكومة إنجلترا ستعود بالخيبة (وإن أعدت فيالق من التهديد وجحافل من الأوغاد).

وتَقَوَّتْ هذه الأوهام بما يطنطن أرباب الجرائد، وولعت النُّفُوس بالوقوف على الحقيقة، وانبعثت رسل الأفكار تجوس خلال الشئون والأطوار، لتصل إلى شيء من هذه الأسرار، واجتمعت الأرواح في الآذان؛ لعلها تسترق سمعًا عن تلك المداونات، وكمنت كل نفس في مشكاة باصرتها؛ لعلها تستشف من وراء الحجاب ما ينبئ عن الحقيقة أو يقربها من الفهم، والجميع واقفون وراء حجاب هذا الملعب الشائق، وبعد طول الانتظار كُشف الستار.

فإذا عائدة الإنجليز جالسةٌ في هيكل آمون، وبيدها تاج يحكي رأس الثور (تاج الفراعنة) متهيئة أن تضعه على رأسها، والملوك العِظام وقوفٌ بين يديها مستعدُّون لتهنئتها، كَأَنَّما كانت هذه المفاوضات والمخابرات إعدادًا وتجهيزًا لإجلاسها على كرسي مينا الأول ورمسيس الأول — لا حول ولا قوة إلا بالله.

قام رئيس الوزراء الفرنسي في مجلس النواب خطيبًا؛ لبيان الاتفاق الذي عقده مع حكومة إنجلترا ليرى النواب رأيهم، وقبل ذكره أنفق ما لديه من البلاغة والفصاحة وحسن البيان لإقناعهم بقبول ما أجرا.

تلطف في الكلام وأبدع وصوب وصعد وأتى على ترغيب يَشوبُهُ ترهيب، ويأس يحوطه أمل، وأدرج في طي خطابه أن فرنسا قبل هذا العهد الجديد لم تكن على شيء، وبه نالتْ أشياء، وأومأ إلى أن وزارته لو طلبت أزيد مما حصلت لأدى الأمر إلى ممانعة الحكومة الإِنجليزية وأفضى الخلاف إلى انقلابها، وربما يخلفها وزارة تطمح إلى الاستيلاء على مصر.

وجاء في نطقة بما حرك الطباع ومال بالأسماع حيث قال: يلزم لسياسي قبل إبرام حكم أن يُلاحظ جميع أطرافه ولواحقه، فهذه الكلمة الرفيعة جددتْ في السامعين آمالًا وظنوا أن المراقبة الثنائية قد أُعيدت، أو تقرر اشتراك فرنسا مع إنجلترا في الاحتلال العسكري، أو إبرام الحكم بخُرُوج الإنجليز من مصر، وبالجملة أنهم فازوا فوزًا عظيمًا.

وبعد مقدمات طويلات١ بين الاتفاق فإذا هو — بعد إمعان النظر — على هذا النحو: إن الإنجليز سادات مصر يفعلون فيها ما يشاءون، وليس لنا أن نعارضهم، فلا المراقبة الثنائية عادت، ولا الاشتراك في التداخل العسكري أو النظر الإداري حصل، ولا قررت حرية القتال على أصل ثابت، ولا تحقق جلاء الإنجليز على صورة قطعية، ولا تأصلت مراقبة دولية كما كان يتوهم بعض السياسيين، بل كما كان يلجأ إليه الإنجليز عند نهاية العجز على ما أشار إليه كثير من سياسييهم، فانقبضت صدور النواب.
فلما رأى٢ شدة تأثرهم دفعة واحدة وأحس منهم القنوط، حاول إحياء آمالهم بقوله: إنا سلكنا في اتفاقنا هذا مسلك سائر الدول، ومن السنن المتعبة فيها تنازُل كل من طلاب الاتفاق عن شيء مما عليه الاختلاف حتى يتقاربوا ويتعادلوا فيسهل اتفاقهم، يوهم بهذا أنه وإن ترك كل حق لفرنسا في مصر إلا أن الإنجليز أيضًا تساهلوا معه في أُمُور.

هذه المسامحة التي لم تكن منتظرة من حكومة فرنسا ذهبت بالظنون إلى ما وراء الظاهر المعروف، ومنه ما بعث مراسل جريدة «التاج بلات الألماني» في فيينا على قوله: يظن ههنا (في فيينا) أن الدول ستعارض هذه الاتفاق رغمًا عن كل وهم. ا.ﻫ.

وليس ببعيد أن يكون نعير الإنجليز وهديدهم وإرهابهم للوزارة الفرنسية بالميل للألمان هو الذي دعاها لهذا التساهُل الغريب، بل حَمَلَها على ترك الحق بالكلية، أو ربما ظن رئيس الوزراء أن اشتداده في اقتضاء حقه أو حق من له بهم علاقة صحيحة يوجب تغييرًا في وزارة جلادستون، فيقوم خلفها على الاغتصاب بالقوة وانتهاك كل حق، فتضيع الحقوق الفرنسية بلا منة من فرنسا في ضياعها، فسارع إلى موافقتها على ما تشاء، وطرح مصلحة فرنسا في مصر بين يديها لتكون المنة في استيلاء الإنجليز على مصر للفرنسيين.

ولكنا نظن أن هذا النوع من المعاملة لا يفيد فرنسا أكبر مما يجلب عليها من الضرر؛ فإن التساهل وسوء السياسة الذي كان من الحكومة الفرنسية مع بريطانيا في الهند عندما كان للأمتين منافسة فيه آلت إلى تغلب الإنجليز على جميع الممالك الهندية، ورجع الفرنسيون بخفي حنين، ولم يُمْحَ أثر ذلك الخسران من خواطر الأمة الفرنسية إلى الآن، والمستقبل أشبه بالماضي من الماء بالماء.

وقد يقال: إن الحكومة الفرنسية حولت نظرها عن مصر إلى جهة أُخرى، وبقي رجاؤنا في نواب الأمة الفرنسية؛ فإنهم وإن أظهروا ثقتهم بالوزارة بعد مجادلات طويلة إلا أنهم شرطوا عليها أن لا تبرم حكمًا في المؤتمر إلا بمشورتهم — اللهم حقق الرجاء — وإنا في عجب من حرص مجلس البرلمان الإنجليزي حيث يعارض جلادستون في هذا الاتفاق مع أن أقرب نتائجه الاستيلاء، وقد طلب البرلمان من جلادستون مثل ما طلب نواب فرنسا من وزيرها.

أما حقوق العثمانيين والمصريين فلم نر لها بين المتفقين ذكرًا، اللهم إلا أن يقوم أربابها على المطالبة بها، وعند ذلك نرى لها فصلًا بين هذه الأبواب.

١  هكذا ذكرها الأفغاني وقد راعينا بقدر الإمكان الإبقاء على روح الأفغاني في كتاباته!
٢  يقصد رئيس الوزراء الفرنسي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤